عرض: إبراهيم غرايبة
يحلل هذا الكتاب بنية الديمقراطية الإسرائيلية إلى عناصرها المكونة، ويتناول أوجها متعددة لنشاط دولة إسرائيل، كعملية بناء الأمة من خلال الاقتصاد، والعناصر والأفكار المكونة للأيديولوجية الإسرائيلية السائدة، والنموذج الإسرائيلي للتفاعل مع العولمة بالقدر اللازم لفهم تناقضات الديمقراطية في الخريطة السياسية الإسرائيلية. والمؤلف هو عزمي بشارة الأكاديمي وعضو الكنيست الإسرائيلي وأحد القادة والنشطاء الفلسطينيين في إسرائيل.
تناقضات الديمقراطية اليهودية
تحتفظ إسرائيل بنظام برلماني قوي وبنظام حزبي، وتتوافر فيها انتخابات عامة تتيح للأحزاب فرصة الحضور في الكنيست حسب حصتها من عدد الأصوات، ويتم التصويت لقوائم حزبية وليس لأفراد، وهي طريقة -كما يبدو- الأفضل لبناء أمة بواسطة الدولة دون تكريس الفوارق المذهبية أو العرقية.
وينتخب رئيس الوزراء مباشرة من قبل البرلمان (انتخب مرتين من قبل جميع الناخبين)، ويقوم في إسرائيل نظام فصل السلطات، وترافقه آليات توازن ورقابة فيما بينها، ويمثل رئيس الدولة سلطة رمزية معنوية، وتعتبر المحكمة العليا نفسها مؤهلة لحماية قيم الديمقراطية المعبر عنها في القوانين الأساسية، وتسود في إسرائيل حرية صحافة وتعبير عن الرأي، ومنظومة حقوق مواطن متطورة تشمل نظام تأمينات اجتماعية، وتتوسع الطبقة الوسطى الإسرائيلية باستمرار.
وفي كتاب شامل يلخص سنوات طويلة من البحث الإحصائي لقياس الديمقراطية بالأرقام حصلت إسرائيل في مقياس المساءلة على أقل علامة بين الدول الديمقراطية، ولكنها حققت مواقع متقدمة التمثيل النسبي في البرلمان، وحصلت على علامة عالية نسبيا في المراقبة والتوازن بين السلطات، وعلى علامة منخفضة في موضوع حقوق الإنسان وتطبيق المساواة الاجتماعية، كما حصلت على تدريج منخفض جدا في مسألة التمييز ضد الأقليات.
تعود إشكاليات الديمقراطية الإسرائيلية إلى الاحتلال ونوع الثقافة الاستيطانية وعلاقتها بحالات تقديس الأمن والشعور بالتهديد وصعوبة الخروج على الإجماع، وهي عناصر معيقة للديمقراطية.
وإشكال الديمقراطية الإسرائيلية الثاني هو المواطنة ويهودية الدولة، فذلك يعني عدم الفصل بين الدين والقومية وبالتالي عدم الفصل بين الدين والدولة، وتقتضي أيضا أن إسرائيل بحكم رؤيتها وتعريفها لذاتها ليست دولة جزء كبير من مواطنيها.
"
تعود إشكاليات الديمقراطية الإسرائيلية إلى الاحتلال ونوع الثقافة الاستيطانية وعلاقتها بحالات تقديس الأمن والشعور بالتهديد وصعوبة الخروج على الإجماع، وهي عناصر معيقة للديمقراطية
"
ودلت الحركة التشريعية الإسرائيلية المحمومة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2000 على رغبة إسرائيلية غير ملجومة، ولا حتى بدوافع الشكليات والحفاظ على السمعة الديمقراطية بغرض تأكيد يهودية الدولة وطابعها اليهودي وأغلبيتها اليهودية بالقانون، وقد دولت الدبلوماسية الإسرائيلية موضوع يهودية الدولة بطلبها أن تعترف الولايات المتحدة والفلسطينيون بإسرائيل كدولة يهودية، وأن تكتسب هذه العبارات شرعية دولية، وتجري محاولة تشريعية حثيثة لإعطاء معنى ومضمون قانوني داخلي ليهودية الدولة ولكونها دولة الشعب اليهودي.
وتجري في الكنيست محاولة جدية لإعداد دستور شامل للدولة اليهودية في مرحلة سيطرة اليمين عليه وعلى لجنة القانون والدستور، وأهم مهام الدستور الذي يجرى إعداده -في نظر اليمين- هو تعزيز تعريف يهودية الدولة. وقدم الكنيست الخامس عشر (1999 – 2003) 15 قانونا عنصريا لتكثيف تعريف يهودية الدولة أو دولة اليهود، ويفرض على المواطن العربي قسم الولاء ليهوديتها، ويجبر النائب ليس فقط على الولاء للدولة وقوانينها، وإنما لرموزها وعلمها ولنشيدها الوطني.
النزعة الأمنية
قامت إسرائيل على فلسفة ترى بوضوح أن حجم الجريمة التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني، وحجم الكراهية العربية وعدم تسليم عربي بوجود إسرائيل، وأن بناء الدولة لا يمكن أن يتم إلا على أساس القوة والتسلح واليقظة الدائمة، والردع القوي الكافي لإقناع العرب بعدم صلاحية الأدوات العسكرية ضد إسرائيل.
هذه النزعة تفرض الأمن قيمة عليا، وحتى معاهدات السلام لا تقلل من حذر وريبية النزعة الأمنية إزاء قوة دولة عربية، حتى لو ربطتها بإسرائيل معاهدة سلام، وهي نزعة لا تعبر فقط عن تحديات وتهديدات خارجية، وإنما تستجيب لتحديات داخلية أيضا، ولكنها ليست نزعة قائمة دائما على القيم العسكرية.
وتشكلت العقيدة الأمنية ببعدها العسكري والإستراتيجي من مبادئ أساسية، مثل: ليس هناك خيار أمام المجتمع والدولة في إسرائيل سوى الحرب والاستعداد دائما لها، أي البقاء على أهبة الاستعداد، وأن تفوق العرب العددي والاقتصادي والجغرافي يضطر إسرائيل إلى تطوير قدراتها نوعيا، وتعويض هذا الخلل بالشعب المسلح، والحفاظ على جيش مهني دائم.
جدلية العولمة إسرائيليا
بدأ الاقتصاد الإسرائيلي طريقه كاقتصاد تقشفي يعتمد توزيع المواد التموينية بموجب الحصص حتى العام 1959، ويعتمد على القطاع العام ورقابة شديدة على استيراد السلع الاستهلاكية، ومنع تداول العملة الصعبة، ورقابة حكومية شديدة على الاستثمار الخاص. وشكلت المصاريف الأمنية عبئا على الاقتصاد، وكادت تضاعف مصروفات الدولة للغايات العامة.
ودخلت الدولة في مرحلة ليبرالية اقتصادية منذ العام 1977 دون المس بمصروفات الدولة الذي تعارضه الفئات الشعبية التي تشكل قاعدة الليكود الحاكم في تلك الفترة، وأدى ذلك إلى حالة تضخم منفلتة العقال ناجمة عن سياسة اقتصادية شعبوية وليبرالية في الوقت نفسه.
"
شكل تشابك الاقتصاد الإسرائيلي مع الاقتصاد العالمي وابتعاده عن الاقتصاد الزراعي الاستيطاني العسكري وتحولات المجتمع الإسرائيلي نحو مجتمع مدني، الديناميكية التي جعلت إسرائيل تتجه إلى تسوية في بداية التسعينات
"
وبدأ في العام 1982 العمل على دمج الاقتصاد الإسرائيلي بالاقتصاد العالمي، وبدأت في هذه المرحلة تنشأ طبقة لها مصالح اقتصادية في التسوية السياسية، وهي طبقة وسطى لم تنم ضمن المؤسسة السياسية أو العسكرية ولكن لديها مصلحة مباشرة في السياسة، واضطر حزب العمل إلى تعديل فكره الاقتصادي والسياسي جذريا بالاعتماد على هذه الطبقة، وليس على ما شكل سابقا قاعدته التقليدية في أوساط العمال والمزارعين في التعاونيات وغيرها.
وشكل تشابك الاقتصاد الإسرائيلي مع الاقتصاد العالمي وابتعاده عن الاقتصاد الزراعي الاستيطاني العسكري وتحولات المجتمع الإسرائيلي نحو مجتمع مدني، الديناميكية التي جعلت إسرائيل تتجه إلى تسوية في بداية التسعينات.
لقد تم تغيير بنية الاقتصاد الإسرائيلي إلى حد بعيد بمساهمة فعل وتأثير التحويلات المالية القادمة من الخارج، وبخاصة الاستثمارات والمعونات بعد العام 1967، وساهمت هذه التحويلات في تقليص تدريجي من سيطرة الدولة والهستدروت على الاقتصاد لصالح مصالح اقتصادية خاصة.
وساهمت الانتفاضة الأولى في تغيير المواقف وحتى الثقافة السياسية الإسرائيلية لأنها انطلقت في مرحة "لبرلة" الاقتصاد والمجتمع في إسرائيل، وقد أدت إلى تقليص الصادرات إلى الضفة وغزة، وتقليص الأيدي العاملة الفلسطينية والسياحة، وتقدر الخسارة ما بين 2 و2.5% من الناتج المحلي في العامين 1989 و1990 (مليار دولار في تلك الفترة).
وجاء هذا التحول مع انحلال الاتحاد السوفياتي وتدفق الهجرة من بلدانه المختلفة، ترافقها تحويلات مالية من الخارج للمساعدة في استيعاب الهجرة، ليحدث طفرة في بنية قوة العمل الإسرائيلية، ورافقها فتح الباب لاستيراد الأيدي العاملة الرخيصة لتعويض نقص الأيدي العاملة الفلسطينية. وهكذا فقد ضمنت الحكومة صمت رأس المال والبورجوازية والتعاونيات الزراعية وقطاع الخدمات في إسرائيل على سياسة الإغلاق التي اتبعت في أعقاب الانتفاضة.
وكانت إسرائيل حتى العام 1973 من أكثر الدول مساواة بين فئات المجتمع بعد الدول الشيوعية، ولكنها تحولت اليوم إلى أكثر الدول في العالم من حيث اتساع الفجوة بين فئات المجتمع، حيث يحصل 20% على 53.35% من مجمل المداخيل بأرقام عام 2000، في حين يحصل 20% من المجتمع على 0.7% من المداخيل. كما يحصل النصف الأدنى من المجتمع على 14% من الدخل، في وقت يحصل فيه النصف الأعلى على 86% من الدخل، وهي فجوة مروعة بين نصفي المجتمع.
مرحلة باراك وشارون
كانت إسرائيل حتى العام 1977 هي دولة الحزب الواحد (العمل/ مباي)، وقد تألف المجتمع السياسي الإسرائيلي أو النخبة السياسية الإسرائيلية من تداخل جهاز الحزب الحاكم مع جهاز الدولة والهستدروت والأمن والجيش، ثم انتقلت إسرائيل إلى نظام الحزبين أو المعسكرين بعدما تطور التناقض بين رأسمالية الدولة وتطور رأسمالية السوق والبيروقراطية والفساد وتداخل النخب في الجيش والقضاء والنقابات.
بدأ التغيير الاجتماعي والاقتصادي في إسرائيل منذ العام 1967 ووصل ذروته عام 1977 ومن أهم ملامحه التحالف الذي بناه رئيس الليكود مناحم بيغن مع اليهود الشرقيين الذين كانوا يشكلون 60% من المجتمع الإسرائيلي، وكاد الليكود يتحول إلى حزب صغير تحت وطأة مرحلة نتنياهو وتعثر عملية السلام مع الفلسطينيين، ولكنه استجمع أنفاسه من جديد بعد مرحلة باراك ليتبين أنه قد تحول إلى حزب سلطة وأنه لم يفقد هذه الصفة في فترة باراك، فهو منذ العام 1977 إما في السلطة وإما في المعارضة.
"
كانت إسرائيل حتى العام 1977 دولة الحزب الواحد (العمل/ مباي)، ثم انتقلت إلى نظام الحزبين أو المعسكرين بعدما تطور التناقض بين رأسمالية الدولة وتطور رأسمالية السوق والبيروقراطية والفساد وتداخل النخب في الجيش والقضاء والنقابات
"
وبمجيء باراك إلى السلطة عام 1999 فقد انتهت مرحلة الاستقطاب في إسرائيل لتبدأ مرحلة الوسط، فقد توجه باراك إلى إقامة حكومة ائتلاف واسعة تسعى لأن تستند إلى أغلبية برلمانية، وعبر بذلك عن استنتاج التيار العمالي داخل المجتمع الإسرائيلي لدى مقتل رابين على يد يميني متطرف، ولم يتلخص الاستنتاج بالتصعيد ضد اليمين المتطرف أو ضد المستوطنين، بل العكس تماما، فقد توجه باراك إلى منع الاستقطاب وإلى إعادة الاعتبار للأغلبية اليهودية بنظر التيار العمالي.
لقد تم الاصطفاف الانتخابي الكبير قبل انتخاب باراك حول محاور عدة، منها: الموقف السياسي من التسوية، والموقف من الأحزاب الدينية في الدولة، وهذا لا يعني بالضرورة موقفا من علاقة الدين بالدولة، والموقف من شخصية ننتنياهو وطريقة حكمه، وأصل الناخب وانتماؤه (شرقي، روسي، مغربي، متدين).
كان من الواضح أن النخب القديمة والمسيسة الصهيونية العلمانية قد قررت أن تقاوم وأن تدافع عن وجودها أمام تهديد المتدينين وتهديد اليمين الشعبوي الجديد، وقد ائتلفت قوى عديدة في جلب باراك للسلطة مقابل نتنياهو، وهي تتقاطع في بعض القطاعات الاجتماعية مع القوى التي جلبت شارون إلى الحكم فيما بعد، فشارون أيضا يستند إلى قسم من النخب القديمة.
يجسد شارون حالة تكيف النخب القديمة الإسرائيلية المتعصبة ليهودية الدولة مع الظرف الجديد ليجهض الطرح الجديد الذي بدا وكأنه يتبلور في المجتمع الإسرائيلي، ويحمله المجتمع المدني والطبقة الوسطى في الطريق إلى تسوية مع العرب.
وعندما ازدهر هذا الخيار كان شارون منزويا معزولا، ثم تبين أن هذا الخيار وهم في ظل بنية الدولة الحالية، وأن الأزمة تثبت أن خيار العسكرتارية العلمانية القديمة التي تصر على صهيونية الدولة لم تندثر، وأنه قادر على التكيف مع الظروف الجديدة التي يتطلبها المجتمع والاقتصاد الحديثان مع الحفاظ على الخيارات الأيديولوجية القديمة.
تنسجم عودة شارون مع عودة تأكيد يهودية الدولة دون الحاجة إلى تحالف مع الأحزاب الدينية، وإثبات لفاعلية الأمن في الحياة السياسية الإسرائيلية، وطبيعة إسرائيل الكولونيالية التي تمارس في عهد شارون سياسية فصل عنصري، تفسح وطنية يهودية الدولة ووطنية الأمن المجال حتى لمن يحمل هذا الحمل الثقيل من الجرائم والمغامرات للتسلق من جديد إلى أعلى درجات هرم السلطة في إسرائيل.