شوقي بن حسن
في كتابه "مفهوم الحرية" (1983)، يقدّم المفكر المغربي عبد الله العروي ملاحظة يقول فيها: "لعل كلمة حرية أكثر كلمات القاموس السياسي استعمالاً عند العرب اليوم، حتى الكلمات التي تنافسها في الذيوع كاستقلال وديمقراطية وتنمية تُستعمل في الغالب مرادفة لها". المفارقة أنه بالرغم من هذا الحضور، فإن نفس الكلمة لا تحظى بمعالجة فكرية توازي استعمالاتها في الفضاء الثقافي العربي.
ضمن مشروع تاريخ الأفكار الذي برز في أعمال سابقة مثل "المجتمع المدني" و"الدين والعلمانية في سياق تاريخي"، يأتي كتاب "مقالة في الحرية" للمفكر العربي عزمي بشارة الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". عمل يحاول الإمساك بـ "الحرية" بأدوات الفلسفة والحفر اللغوي وتاريخ الأفكار في سبيل "فهم تركيبة إشكالية الحرية"، ليصل في الأخير إلى "بعض الأسئلة العمَلية الكبرى" (عنوان الفصل قبل الأخير من العمل) حيث يلامس إشكاليات ملموسة من الحريات السياسية إلى المتغيرات التي تفرضها التكنولوجيا في ممارستها.
منذ ملاحظة العروي، لا يبدو أن الوضع قد تغيّر كثيراً في البلاد العربية، فالاستعمالات لا تتناسب مع الانشغال بمسألة الحرية، وهو ما تأكّد مع المنعطف الذي أخذته المنطقة بعد 2011، وفيها بدا واضحاً أن استعمالات مفردة الحرية قد زادت في صياغة الشعارات وفي الخطاب السياسي، دون أن يوازي ذلك اشتغال فكري تأصيلي لها يراعي مستجدّات الواقع.
نتأكّد من هذا الوضع حين نلقي نظرة على بيبليوغرافيا الكتاب، فالمراجع العربية لا تتجاوز العشرين، قليل منها تلك التي تناولت الحرية بشكل مباشر مثل كتاب العروي المذكور آنفاً وكتاب مواطنه محمد عزيز الحبابي "من الحرّيات إلى التحرّر" وكتاب "باب الحرية" لـ ناصيف نصّار، فيما عدا ذلك فالمراجعُ غربيةٌ، بين مترجمة ومعتمدة من لغتها رأساً.
ألا يشير ذلك إلى حالة من النسيان النظري للحرية لأسباب تتعدّد، بعضها يتعلّق بما تفرضه السلطة في البلدان العربية من إكراهات على الفكر والبحث، وربما أيضاً لقلة الأدوات والمنهجيات وخبرة الاشتغال على المفاهيم؟
رغم أن كتاب "مقالة في الحرية" يقترب من منطقة غير محروثة فكرياً، ما يجعل من الاكتفاء بالجانب النظري قيمة مضافة في حدّ ذاتها، إلا أن المؤلف ينبّه إلى أن "التحدّي الحقيقي يكمن في قدرتنا على مغادرة النقاش الفلسفي عن الحرية والانطلاق إلى مسألة الحريات وشروط تحقيقها في واقع المجتمعات والدول العربية".
وفي موضع آخر من العمل يقول إن "الناس لا يناضلون ويُضحّون من أجل مفهوم علمي، بل من أجل قيمة تحظى في نفوسهم بقدر من التقدير إن لم نقل التقديس"، ولولا ذلك لما كانت ذلك "الموضوع الخطير والمصيري للإنسان والمجتمع".
ينطلق بشارة في الفصل الأوّل من إشكالية استنبات قضية الحرية في العالم العربي منذ عصر النهضة، حيث إن المثقفين العرب واجهوا صعوبات في تبيئتها (حسب عبارة المؤلف)، لكنه لا يكتفي في تفسير ذلك بالقول بردود الفعل السلبية من المجتمعات العربية وإنما يُظهر خللاً في طرح مسألة الحرية وقتها حيث ظلت بضاعة من زاوية ما، يمكن اعتبار أن العمل محاولة بناء لفكرة الحرية بعناصر التاريخ العربي وموادّه، يبدأ ذلك من العودة إلى "لسان العرب" إذ يلاحظ أن معنى الحرية يقوم على نفي معنى نقيض هو العبودية، غير أن الحضارة العربية أمدّت المفردة بمدلولات أخرى، مثل قيم المروءة والكرامة. وهنا – كما في مواضع أخرى من العمل – يعتمد بشارة على خلفيات أدبية حيث يحيل إلى أبيات من أشعار الشنفرى وعنترة ابن شداد والمتنبّي وغيرهم، وهي إحالات قليلاً ما نجد مثلها في الكتابات الفكرية والعلمية العربية.
يرافق هذه العودة إلى اللغة والأدب، حفر تاريخي من زاوية إشكالية الحرية. يشير إلى أن "الدولة الحديثة تحرّكت نحو قمع المؤسسات التي تشاركها الحداثة ذاتها (الاتحادات الطوعية والأحزاب والنقابات..) إلى درجة العودة إلى التحالف مع القوى الاجتماعية التقليدية بل واصطناعها إذا لزم الأمر"، ويلاحظ أنه ضمن هذا الإطار "انتشر البحث في الحرية عربياً" ما يخلق وضعية دقيقة: الدولة هي المبدّد الأول للحرية وفي الوقت نفسه عنوان المطلب الرئيسي لها، وهي مفارقة تفسّر إلى حدّ كبير واقع البلاد العربية وتجاذباتها.
يصل بشارة إلى القول بأنه "في الدولة الحديثة يستحيل حماية الفرد من دون أدوات الدولة نفسها"، كما يفتح على أفق ثان حين يعرّج على ما طوّره المجتمع الرأسمالي من أدوات أخرى للهيمنة، وبالتالي "مُنع الفرد من ممارسة سيادته على نفسه وعقلنة إرادته"، ومنها وسائل الإعلام وألاعيبها.
كما يشير صاحب "أن تكون عربياً في أيامنا" إلى أن "كثرة المعلومات التي يتلقاها الإنسان عن نفسه وعن محيطه تجعل منه غير قادر على رؤية نفسه وثم ممارسة السيادة عليها"، وهو ما يعتبره "نوعاً جديداً من الاغتراب" بحيث إن حرية الإنسان "لم تعد مهدّدة من نظام الحكم وحده"، وفي المحصلة نحن حيال "مجتمع جماهيري يجري توجيهه باستمرار ليتصرّف مثل القطيع". ويضيف: "إن الخوف من الفرادة والتفرّد والضغط للامتثال والاندماج في القطيع، لا يقيّد الإنسان خارجياً فحسب، بل قد يحول بينه وبين اكتشاف حرّيته داخلياً، فهو يغترب عن نفسه كي لا يقصي الجماعة".
من هنا، يرى بشارة أن "التحرّر اكتسب معاني جديدة"، وأنه بالتالي "أصبح في حاجة إلى أدوات جديدة". يلاحظ صاحب "طروحات عن النهضة المعاقة" أن التصوّر السطحي الفج للحرية، كحق الفرد المجرّد في فعل ما يشاء وتحقيق ما يرغب فيه، هو فهمٌ يولع المحافظون بترويجه لتسخيره في تصوير الحرية كـ"سيادة للحماقة والهوج والانفلات والفوضى وأنه بموجب هذا التصوّر تكون السلطة الدواء الشافي".
إنه نفس ذلك السجال الذي كثيراً ما يطرح عند كل منعطف تاريخي: الاستقرار أم الحرية؟ سؤال يعتبره بشارة وهمياً، غير أن تواصل الالتفات إليه قد يكون وجهاً من وجوه مآزق الحرية في التمثل العربي، وهي عديدة.
يكتب المفكر العربي أن ممارسة الحرية "تؤدّي إلى أخطاء وربما إلى كوارث. لكن لتصحيح المشكلات الناجمة عن استخدام الحرية سنحتاج إلى الحرية مثلما نحتاج إلى العقل لتصحيح أخطاء العقل".
لكن الطغيان (بأشكاله المتنوّعة)، من جهته، يظلّ يعمل على تحويل الأنظار عن الحرية، كإشكالية وكممارسة، ومن ثمّ إلى تحويل العبودية والرضوخ إلى طبيعة ثانية، كي تبدو الحرية وكأنها لا تمتّ إلى الطبيعة بصلة، كما أشار منذ قرابة خمسة قرون الكاتب الفرنسي إتيان دي لابويسيه في كتاب بعنوان شبيه؛ "مقالة في العبودية المختارة".
في فضاء الاحتمالات
في فصل بعنوان "ملاحظات فلسفية لازمة"، يقدّم عزمي بشارة سجالات الفلاسفة حول الحرية ويركّز بالخصوص على معارضة مارتن هايدغر لإمانويل كانط، حيث يرى صاحب "الكينونة والزمان" أن محدودية فهمنا العالم ليست قيداً على الحرية بل هي أساسها. يصوغ المؤلف ذلك بالقول "إن فضاء الحرية هو فضاء الاحتمالات الذي يدخل فيه الإنسان عند تورّطه في عملية انفتاح العالم أو انكشافه".
صحيفة العربي الجديد