صقر ابو فخر
من أكثر الوقائع إيلاماً في التاريخ الحديث للمشرق العربي أن يصبح السريان، على سبيل المثال، مجرد جوال متناثرة في بقاع العالم المختلفة، وهم الذين منحوا اسمهم للأرض الممتدة بين جبال طوروس وزاغروس وسيناء، فصارت تدعى سوريا. وهذا المصير نفسه الذي انتهى إليه صابئة العراق والكلدان والأشوريون من شأنه ان يفاقم ظاهرة الاندثار والانحلال للأقوام الحضارية القديمة في الشام والعراق. وفي مصر التي عرفت تطابق اسم الشعب مع اسم الأرض ولدت كلمة Eygept من كلمة «القبط».
وما يثير الأسى حقاً أن تندثر من سجلات التمدن في المشرق العربي مدن عظيمة كالرها ونصيبين وحران ورأس العين وانطاكيا وماردين وجنديسابور. وكثيرون اليوم يريدون أن يواروا في غياهب النسيان تاريخ مصر البهي وحقائقه التي ما زالت ماثلة حتى اليوم. ولعل الأقباط في مصر يمثلون مشكلة ملتبسة فعلاً.
فهم سكان مصر القدماء، مع أن المسلمين أيضاً، او الجزء الأكبر منهم، هم سكان مصر الأصليون أيضاً. وكل ما في الأمر ان قسماً من الشعب اعتنق المسيحية في حقبة ما، ثم اعتنق كثيرون منه الإسلام مع الفتح العربي أو في مراحل أخرى. فلا أحد، في هذه الحال، يكون مصرياً أكثر من الآخر على الإطلاق. ومع ذلك فثمة مشكلة قبطية في مصر، هي مشكلة هوية ومشكلة مواطنة، ومشكلة دينية، ومشكلة نظام سياسي في الوقت نفسه.
الآن، هل المسيحيون في مصر أقلية مع انهم أكبر طائفة مسيحية في البلاد العربية؟ وهل يمكن الحديث عن «مسألة قبطية» بعد تفاقم مشاعر الغبن لدى فئات واسعة من المصريين المسيحيين؟ وهل سيتمكن النظام الجديد في مصر من صوغ العلاقة بين مسلمي مصر ومسيحييها في إطار هوية وطنية واحدة؟ هذا ما يحاول المفكر العربي عزمي بشارة أن يجيب عنه في هذه الدراسة المهمة. وبالطبع لم يكن الدافع إلى تأليف هذا الكتاب الصادر عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» (الدوحة، 2012) سد النقصان المعرفي في أوضاع الأقباط مثلاً، أو التماس موضوعات مثيرة للتركيز عليها، بل ان الدفاع، علاوة على حمية العلم، هو انخراط عزمي بشارة في حركة الثورات العربية.
يقول المؤلف «إن هناك ملفاً قبطياً في مصر. وانه ملف حقيقي وليس نتاج تآمر أجنبي أو تحريض إسلامي» (ص 8). ولإيضاح ذلك تناولت هذه الدراسة تاريخ الأقباط في مصر منذ عهد محمد علي حتى اليوم، وتعقبت أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، وركزت على العوامل التي يرى المسيحيون المصريون انها سبب للغبن الواقع عليهم في ضوء تصاعد الخطاب السلفي المتشدد والأصولي التقليدي. فـ«الإخوان المسلمون» والجماعات الإسلامية الأخرى كالسلفيين، لا يزالون يؤكدون عدم جواز انعقاد الولاية لغير المسلم. وبهذا المعنى فإن المجتمع المصري والنظام المصري والقوانين المصرية لم تتمكن من الانتقال في التعامل مع الأقباط من أقلية في نظام الملل العثماني إلى مواطنين في دولة حديثة (ص 23).
ومع ذلك لاحظ الكاتب ان ثورة 25 كانون الثاني 2011 اظهرت تلاحماً غير مسبوق للجماعة الوطنية المصرية في خضم النضال ضد نظام الحكم (ص 8). والحقيقة ان هذا التلاحم ظهر أيضاً في ثورة 1919، والفارق هو أن ثورة 1919 كانت موجهة ضد المستعمر البريطاني، وثورات التحرر الوطني توحد، في العادة، الجماعات المكوّنة للشعب، بينما ثورة 25 كانون الثاني 2011 كانت موجهة ضد نظام الحكم. والثورة ضد النظم السياسية، ولا سيما إذا كان النظام متماهياً مع جماعات طائفية أو جهوية أو اثنية، من شأنها أن تقسم الجماعة وربما تؤدي أحياناً إلى حروب أهلية، كما وقع في العراق، وكما يقع، ولو جزئياً، في سوريا. ومهما يكن الأمر، فإن «حزب الوفد»، وهو التعبير السياسي عن ثورة 1919، كان يمثل الانتقال من مفهوم «الجامعة الإسلامية» إلى مفهوم الوطنية المصرية الحديثة ذات المحتوى العلماني الليبرالي. وقد وجد الأقباط في هذا الحزب ملاذهم، وتطلعوا إلى ان تصبح مصر على صورة هذا الحزب. لكن الأمور لم تسلك هذا المسلك.
البدايات
ربما يمكن التأريخ لبداية التأزم الطائفي في مصر بسنة 1971 فصاعداً. ففي أيار 1971 حسم الرئيس أنور السادات السلطة لمصلحته وقضى على خصومه. وفي سنة 1972 اعتلى البابا شنودة الثالث الكرسي البابوي للأقباط، وبدأت الجماعات الإسلامية المتطرفة تجاهر باعتناقها العنف وسيلة للتغيير. وفي هذا السياق وقعت حادثة الهجوم على الكلية العسكرية الفنية التي قادها عبد الله صالح سرية، والهجوم على احدى الكنائس في القاهرة. ومع ان السادات روّج في بداية عهده لصورة الرئيس المؤمن، وأرخى النطاق للإسلاميين في مواجهة اليساريين والناصريين، إلا انه لم يتورع عن قمعهم بشدة بعد ان استتب الأمر له. ويلاحظ عزمي بشارة في هذا الميدان ان ملاحقة الإسلاميين وقمعهم في عهد السادات، ثم في عهد مبارك، لم يؤديا إلى تحسن وضع الأقباط، وبالتالي فليس ثمة علاقة تناسبية مباشرة بين هذين المتغيرين (ص 24). ومع ذلك فإن حوادث كثيرة ذات طابع طائفي شكلت الخميرة المثالية لإنضاج غضب بشري ذي طابع طائفي بدوره، مثل حادثة وفاء قسطنطين التي أعلنت إسلامها في سنة 2005، ثم عادت إلى الإيمان المسيحي، فسلمتها الدولة إلى الكنيسة التي وضعتها رهن الإقامة في احد الأديرة.
وهنا هاج مسلمون متطرفون احتجاجاً على تسليم امرأة مسلمة إلى كنيسة كافرة. ومثل كاميليا شحادة التي رغبت في اعتناق الإسلام، فاحتجزت في احد الأديرة في تموز 2010 لمنعها من تحقيق هذه الرغبة، فخرجت تظاهرات إسلامية للمطالبة بالإفراج عن كاميليا وتمكينها من اعتناق الإسلام. ومثل حادثة قرية صول التي بدأت بقصة غرام بين شاب مسيحي وفتاة مسلمة وانتهت إلى قيام أفراد غاضبين بإحراق كنيسة الشهيدين في 4/3/2011.
إن هذا السلوك الاحتشادي المتوارث، الريفي في أساسه، يحوّل قضية عاطفية إلى قضية طائفية تؤدي إلى العنف. هذا ما يؤكده عزمي بشارة (ص 16)، وهذا يعني، بحسب المؤلف، ان الطائفية في الوعي الاجتماعي المصري اليوم ليست أمراً مصطنعاً، ولا سيما حين تتعلق المسألة بقضايا الشرف والدم. وهذا النوع من الفتنة ينشأ، بين حين وآخر، بين جماعات أهلية (طائفية أو إثنية أو غير ذلك) فيتحول نزاع فردي إلى مصادمات بين مجموعتين. ومهما تكن الأسباب والدوافع، فإن الكاتب يرى في هذا التجمهر المتفاعل نوعاً من الاحتشاد لسياسات الهوية في داخل المجتمع المصري.
«الحيط المايل»
ما فتئ الأقباط يتداولون مقادير من الكلام على أحوالهم الراهنة، فيرددون وقائع ساهمت، كلها معاً، في الوصول إلى حال الغبن الراهنة. ومثال ذلك عدم وجود أي ضابط مسيحي في مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952، وحين ألغى جمال عبد الناصر الأحزاب، بما في ذلك حزب «الوفد» استثنى جماعة «الإخوان المسلمين» في البداية، الأمر الذي ترك انطباعاً بأن عبد الناصر متحالف مع «الإخوان المسلمين». ثم بعد صدام عبد الناصر و«الإخوان» في نهاية سنة 1954 راح عبد الناصر يستخدم الدين في مواجهة «الإخوان»، فجعل الدين مادة أساسية من مواد التعليم، وأنشأ جامعة الأزهر المقصورة عملياً على المسلمين، ثم أنشأ دار القرآن في سنة 1964 وإذاعة القرآن أيضاً. وعندما لم ينجح في انتخابات مجلس الأمة في سنة 1957 إلا قبطي واحد هو فايق فريد (عن دائرة شبرا) عمد عبد الناصر إلى استنان مبدأ دستوري هو التعيين، وظهر ذلك كأنه مكرمة.
وفي ما بعد تخوف المسيحيون من أنور السادات الذي لم يتورع عن القول انه رئيس مسلم لدولة مسلمة، وكان نسب إليه في سنة 1956 كلام قاله في جدة أمام المؤتمر الإسلامي عن انه سيحوِّل الأقباط إلى الإسلام خلال عشر سنوات، او سيتم تحويلهم إلى ماسحي أحذية وشحاذين. وبعض المواقع في الدولة ما زالت محظورة على المسيحيين، فتمثيلهم في القضاء والاعلام والديبلوماسية والجيش والشرطة لا يتجاوز 2%. وفي مصر 17 جامعة حكومية، لكل واحدة منها مدير وثلاثة نواب للمدير (وأحياناً أربعة)، أي 71 منصباً، ولا يوجد قبطي واحد فيها. كما يوجد 274 عميداً في هذه الجامعات، وليس بينهم عميد قبطي واحد (ص 25ـ26).
ان الشعور بالغبن أدى إلى غياب فهم المواطنة حتى في الأوساط المسيحية، والكنسية بالتحديد، التي لا تكف عن المطالبة بها (ص 41). ويخشى ان يؤسس عدم الفهم هذا حاضراً مصرياً منفصلاً عن العروبة، وواقعاً خاصاً بأقباط مصر منفصلاً عن مسلميها. أي ان الاتجاه العام في الأوساط المسيحية بات يسير نحو تأسيس فكرة «مصرية» خالصة لا روابط لها بهوية العالم العربي. وما يغذي هذا الاتجاه هو ان «الإخوان المسلمين»، كقوة سياسية وبشرية مقررة ومؤثرة، لم يصدروا أي توضيح في شأن موقفهم من مبدأ المواطنة، وفي شأن نظرتهم إلى مسألة المساواة بين الجميع بما في ذلك المرأة (ص 44).
التحدي
يقول عزمي بشارة: «إن أي نظام ديموقراطي مقبل في مصر لا يمكنه الاكتفاء بالتشديد على تآخي الطوائف، وسيكون عليه ان يعالج قضايا عينية (ص 8). ويخلص إلى الاستنتاج أن هناك ملفاً قبطياً مفتوحاً، ويؤكد ان الأقباط المصريين لا يحتاجون إلى التسامح فهم مواطنون أصليون لا يحتملون، من حيث وعيهم بذاتهم، أي نوع من التمييز. ومفتاح التعامل مع هذا الملف هو المواطنة المتساوية، والديموقراطية هي الاطار الملائم لهذه المقاربة (ص 70). فهل يتحمل النظام السياسي المصري الجديد هذه الصيغة؟ وهل تتمكن مصر من اعادة الاعتبار لمبادئ ثورة 1919 العلمانية والليبرالية؟ أم ان سيطرة الإسلاميين على الرئاسة وعلى السلطة التشريعية سيحول دون انطلاقة المصريين نحو تأسيس نظام سياسي عصري يعانق تطلعات المصريين بمن فيهم المصريون الأقباط؟
إن كتاب عزمي بشارة هذا محاولة ثاقبة لفهم الأقباط في تطلعاتهم وإحباطاتهم، في حراكهم ونكوصهم، في شغفهم بمصر ورغبتهم في مغادرتها. والكتاب على صغر حجمه (78 صفحة من القطع الصغير) يفيض بالأفكار والآراء والتحليل والخلاصات التي تشتـبك معرفياً بالرغبة في ابتداع الحلول.
مصدر: صحيفة السفير