تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عزمي بشارة متتبعاً التاريخ السوري الراهن عبر "درب الآلام"

2014-02-08

فراس كيلاني

اعتبر كتاب عزمي بشارة ‘سورية: درب الآلام نحو الحرية’ الاشمل الذي يتناول الازمة السورية منذ اندلاعها في آذار/مارس 2011 ، لجهة تصديه وفق منهج التحليل الاجتماعي التاريخي لخلفيات وصيرورة وحيثيات الصراع، في محاولة لفهم المآلات التي يمكن أن يؤول إليها إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، خصوصاً الخطر الذي بات يتهدد وجود الدولة السورية برمته، تحت وطأة عنف النظام الذي اعاد انتاج اسوأ ما في بنية المجتمعات المشرقية العربية، وهي الانتماءات ما قبل الدولتية، خصوصاً طائفيا.

ينبغي الاشارة مبكراً إلى مسألة غاية في الاهمية هنا، وهي ان الكتاب لم يعبأ كثيراً بالاعتبارات الاخلاقية – خاصة العدمية منها التي وصمت غالبية كتابات المفكرين والسياسيين السوريين المعارضين- كمعيار لاتخاذ مواقف شخصية، كان يمكن ان تحول دون خروج الكتاب بالطريقة البحثية الاكاديمية التي جاء بها، وذلك رغم تأكيد الكاتب المتكرر على مسؤولية النظام عما آل إليه الوضع في سوريا، فالبحث ارتكز على مجموعة كبيرة من المعلومات التي تم استقاؤها من مصادرها الاولى عبر جهد هائل قام به باحثو ‘المركز العربي لدراسات السياسة’، وظل جلياً خلال فصول الكتاب جهد بشارة لتقديم قراءة عقلانية معمقة، لأزمة ربما كانت الاخطر التي يتعرض لها الشرق الاوسط منذ نكسة حزيران.

يبدأ المؤلف كتابه بفصل بعنوان ‘الحصاد المر’ يراجع فيه العقد الأول من حكم الرئيس بشار الاسد ويعرض فيه ما يسميها بـ ‘الفرص الضائعة’ للإصلاح، و’ارهاصات الاحتجاجات’ التي شهدتها تلك المرحلة، ولا يخفي في احد هوامش الفصل انه كان ممكن آمنوا ‘بالتغاضي عن سياسات النظام القمعية الداخلية، (علنياً على الاقل) والوقوف مع سورية في مواجهة التحديات التي تمثلت بالسياسة الامريكية في عهد المحافظين الجدد’. يخصص بشارة بعد ذلك اكثر من مائتي صفحة لمراجعة المفاصل الاساسية التي مرت فيها الانتفاضة السورية، عبر توثيق ربما لا يدرك اهميته الا العارف بدقة وموضوعية حقيقة ما كان يجري على الارض، لا ما كان يبث عبر وسائل الاعلام الحكومية وشبه الحكومية، ولا ايضاً وهو الاهم، ما كان يبث عبر ‘اعلام الثورة’ والفضائيات الاخبارية الداعمة للحراك.

ينزع الكتاب الكثير من ‘الاسطرة’ التي الحقت بحدث كان يتطور كفعل بشري محكوم بتاريخ من ‘القهر والاذلال’، انفجر في لحظة تاريخية معينة وضمن سياقات معروفة، عبر اعتقال اطفال درعا الـذين يثبت الكاتب، بالاعتماد على شهادات هامة، انهم ليسوا هم من كتبوا على جدران مدرستهم شعارات تطالب بإسقاط النظام، ولا تعرضوا لكل هذا التعذيب الذي انتشرت قصصه كالنار في الهشيم، ليصل حد انتزاع اظافرهم كما تروي الحكاية التي باتت حقيقة لا يطالها الشك. لكن ذلك لا يحول دون توثيق بشارة وبالتفاصيل للعنف المفرط الذي اتبعه النظام طريقة للتعاطي مع التظاهرات التي تلت هذا الحدث، وما قاد إليه من حملة تعاطف شعبي هائلة، اسهمت في انتشار الحراك في كل انحاء البلاد، وتحوله سريعاً للمطالبة بإسقاط النظام، الذي لم يأل جهداً لقمعه بكل وسائل القوة والترهيب.

وعلى هذا المنوال يتابع بشارة رصد تطور الحدث، خصوصاً في انتقاله الى حمص ذات التركيبة الطائفية المتداخلة، والضغينة المتراكمة في اوساط ‘سنة’ المدينة نتيجة سياسات النظام، ويوثق ربما لأول مرة بهذا التفصيل، مسؤولية النظام والمعارضة عن وقوع انتهاكات كبيرة جداً بحق ‘سنة’ و’علويي’ المدينة والقرى المجاورة. ويؤكد بان الكثير مما كان يبثه اعلام الطرفين لم يتوخ الدقة على الاطلاق، واسهم في تأجيج عنف طائفي غير مسبوق، كان يمكن ان ينتقل الى مناطق اخرى اكثر خطورة وخاصة في مدن الساحل. وينتقل بعد ذلك للحديث عن استراتيجية النظام لمنع وصول التظاهرات لساحات المدن الكبرى خصوصاً بعد تجربة حمص بدايةً، وحماة ودير الزور لاحقاً، والتي احتشد فيها مئات الالاف في مشهد كشف تهافت رواية النظام الذي دأب في ذلك الحين على الحديث عن مندسين ومتآمرين. فما كان منه الا ان زاد جرعة العنف بإدخال الجيش الى المدن، وهو ما تسبب بارتفاع هائل في اعداد القتلى والجرحى والمهجرين والمعتقلين. يعتبر بشارة ان نقطة التحول الكبرى في هذا السياق كانت العملية ‘الانتقامية’ لا ‘الدفاعية’ التي قضى فيها العشرات من رجال الامن في ‘جسر الشغور’ على يد مسلحين معارضين قبل مرحلة التسلح في مطلع حزيران/يونيو2011، واتهمت وسائل اعلام المعارضة النظام بتصفيتهم بحجة انهم منشقون. ورغم العنف المفرط من قبل النظام، وتفهمه لكل الحيثيات التي دفعت لتسلح الحراك، لا يبرر عزمي بشارة حمل السلاح على الاطلاق، بل وينتقد بحدة تلك الدعاية التي رافقت ظهوره بحجة حماية التظاهرات السلمية من هجمات قوات الامن، ويثبت زيف ووبال هذا الرأي الذي لم يشكل سوى مبرر للنظام لاجتياح احياء حمص وتدميرها.

وهنا ايضاً لا يفوت الكاتب الاشارة لمسألة لطالما اثارت جدلاً كبيراً في اروقة المعارضين والمثقفين السوريين، وهي المتعلقة ببدء ظاهرة التسلح مبكراً في بعض المناطق خصوصاً درعا وحمص وبانياس، واستخدام هذا السلاح في بعض الاحيان في عمليات صمتت عنها كل وسائل اعلام المعارضة وغالبية شخصياتها. ويصل الانتقاد ذروته في مراجعة حال البلدات والمدن التي دخلتها الكتائب المسلحة التي تتكون في غالبيتها من مدنيين تسلحوا دون اي مرجعية ثورية تحدد هدف السلاح وحدوده. ويرى بشارة ان هذه العمليات لم تسهم الا في تدمير الاحياء والبلدات التي دخلها المسلحون وتهجير غالبية سكانها، بسبب عدم القدرة على تحييد سلاح الطيران ومنظومة الصواريخ، مع استماتة النظام بعدم منح المعارضة في هذه المناطق اي فرصة لترتيب اوضاعها.

ولا يفوته هنا الحديث عما يقول انه التضليل الذي مارسته وسائل اعلام محسوبة على الثورة، خصوصاً في حالة الهجوم على مدينة حلب، والتي يرى بشارة انها كانت ‘هجوماً من الريف على المدينة’ عمقت حالة ‘الاغتراب وعدم الثقة’. وفي معرض تحليله لأوضاع كتائب المعارضة يقول بشارة إنها ليست موحدة ولا يجمعها هدف سوى شعار اسقاط النظام وانها احتاجت التسمية (الجيش السوري الحر) اكثر مما نشدت الوحدة، وان نزعة التشرذم والتشظي وعدم قبول المرجعيات والاختلاف على القيادة من اهم ظواهر الثورة السورية على المستويين السياسي والعسكري. وفي معرض تصنيفه للحركات الجهادية الموجودة على الساحة السورية اليوم يميز بشارة بين حركات تتبنى السلفية الجهادية العالمية وفق نهج القاعدة (النصرة ودولة العراق)، ومجموعات سلفية تقتصر اهدافها على سوريا (أحرار الشام ومثيلاتها) وثالثة تشبه في تركيبتها وثقافتها المجتمع الذي نشأت فيه مع بدء عملية التسلح، لكنها تسلفنت ضمن تفكير براغماتي للتقرب من المانحين او بسبب ظاهرة التدين خلال القتال (الفاروق ولواء الاسلام). بعد ذلك ينتقل بشارة لمحور ربما كان الاهم في الكتاب على الاطلاق، وهو الخاص ببحث ‘ترييف الحزب (البعث) وتطييف الجيش’ بهدف تحليل خلفيات ما يسميه ‘الخطاب والعنف الطائفيين’ ويعود ببحثه لمرحلتي الحكم العثماني والاحتلال الفرنسي، ويقسم تحزيب المؤسسة العسكرية السورية وتطييفها لأربع مراحل، بدأت على يد الفرنسيين بإنشاء ‘جيش الشرق’ وتركيز بنائه على اسس اثنية وطائفية أو أقوامية، لتليه بعد ذلك ما يسميها بشارة بمرحلة الكتل العسكرية العقائدية والجهوة المتصارعة بين عامي 1954-1963، ليبدأ بعدها تأسيس الجيش العقائدي بانقلاب البعث عام 1963، وهي مرحلة شهدت عدة انقلابات داخلية بين ابرز قادتها محمد عمران وصلاح جديد، قبل ان يتسلم زمام السلطة حافظ الاسد عام 1970، وهي المرحلة التي استمرت حتى عام 1982، وشهدت دفع ابناء الطائفة العلوية للتطوع في الجيش ولكن بحذر، مرده مخاوف من ولاءاتهم لعمران وجديد بحسب انتماءاتهم العشائرية على ما يؤكد بشارة.

اما المرحلة الاخيرة فيرى بشارة انها بدأت بعد محاولة انقلاب رفعت الاسد، وكان شعارها ‘قائدنا إلى الابد الامين حافظ الاسد’، وشهدت على يد رئيس شعبة المخابرات العسكرية علي دوبا هندسة نفوذ الضباط في جهاز الامن، وفق اصولهم العشائرية العلوية، بشكل نسبي تحاصصي للحفاظ على التوازن، ‘بعد ان كان قد تم تحطيم سلطة قادة العشائر العلوية على يد العسكريتاريا العلوية العقائدية’. ويرى ان ابرز تغيير طال الجيش في عهد بشار الاسد، هو إعادة بناء الحرس الجمهوري ليكون جيشا خاصا برئيس الدولة في اطار الجيش العام، كما كرست لأول مرة شكليات عمل الجيش باعتباره مؤسسة لمصلحة عائلة رئيس الدولة. ويقول بشارة إن مرحلة البعث والعسكرة ادخلتا عاملاً جديداً هو ترييف الجهاز الاداري للدولة، ويعتمد عزمي بشارة في هذا الفصل بشكل اساسي كتاب المؤرخ الفلسطيني حنا بطاطو ‘فلاحو سوريا: سليلو الوجهاء القرويين الأقل شأنا، وسياستهم’ في تقديم كم كبير من المعلومات التي تخدم هذا البحث.

وفي معرض تحليله لتأثيرات كل ذلك على الوضع الراهن يقول بشارة إن ‘الحالة السورية تجسد نموذجاً مهماً للبحث في صناعة الوعي السياسي الطائفي واخراجه من خانة غير اللائق اجتماعياً الى الديماغوجيا السياسية’. إذ ‘رغم ان التناقض اجتماعي وسياسي، لكنه يتخذ شكل تناقض طائفي في مجتمع مركب الهوية، حيث تختلط السلفية الشعبوية مع الطائفية التقليدية في الوعي الشعبي، وتتخذ طابعاً تحريضياً يعزز الانحرافات الجارية، ويرسخ الشرخ والاستقطاب المجتمعي اللذين يحصلان في الازمات الكبرى في المجتمعات المتعددة دينياً وطائفياً’.

يوجه بشارة انتقادات حادة اداء المعارضة السورية وبشكل خاص الاخوان المسلمين، ويرى بانها لم تنشد التوحد، وان عقلية المحاصصة ظلت حاضرة في كل اجتماعاتها، رغم فشل كل رهاناتها إن كان بالتدخل الخارجي او بإمكانية الحوار مع النظام، ويرى أن ثمة ضرورة ماسة لوضع استراتيجية عسكرية موحدة، وبناء المؤسسات ووضع الخطط لإدارة حياة المجتمع السوري في المناطق المحررة والمنافي، وتطوير خطاب دبلوماسي اعلامي موجه للغرب. ولم تنج ما تعرف بتنسيقيات الثورة من الانتقاد لجهة تشتت جهودها، رغم اشادة بشارة بدورها الكبير في تنظيم الحراك، خصوصاً في مراحله السلمية، إلا انه يؤكد انها فشلت في مسؤولياتها الإعلامية بنقل حقيقة ما كان يجري على الارض.

يقول بشارة التعقيدات الجيوستراتيجية وتشابك المصالح بين القوى الدولية والاقليمية فرضت حالة من ‘العطالة في الملف السوري’، وبعد استعراض ابرز المبادرات ينتقل للحديث تفصيلاً عن دور اللاعبين الرئيسيين عربياً اقليميا ودولياً في المشهد السوري، ليرى ان الولايات المتحدة لم تكن حليفاً للثورة، وان حسابات روسيا الاستراتيجية كقوة صاعدة تفسر التزامها بدعم النظام للعديد من الاعتبارات، وهو ذات السبب الذي يدفعها للتحالف مع إيران التي باتت تعتبر ما يجري في سورية ازمة داخلية، خلافاً لتركيا التي دعمت الثورة بقوة، مع رفض التدخل العسكري خارج نطاق حلف الناتو.

أما بالنسبة لإسرائيل فيعرض بشارة لعدة توجهات وتقييمات داخل اروقتها للأزمة السورية، تتضمن تناقضات لا تصلح لوضع استراتيجية، من هنا تفسيره لان اسرائيل في الموضوع السوري بمنطق ادارة الأزمات ومراقبتها وردة الفعل على التطورات بما تمليه مصالحها. في المواقف العربية يبين بشارة كيف تصاعد الموقف السعودي من النصح وحث النظام على الاصلاح إلى إنشاء المملكة مكتب ارتباط في عمان للتنسيق العسكرية بإدارة الامير فيصل بن سلطان، اضافة لوجود نشاط لسعد الحريري ومكتب ارتباط بإدارة النائب عقاب صقر في اسطنبول، والنشاط الملحوظ للمخابرات السعودية بقيادة بندر بن سلطان المشرف على هذا الملف منذ تعيينه.

وفي الموقف القطري يعترف بشارة بطريقة لافتة ان الثورة السورية هي من الحالات القليلة التي تدخلت فيها الدولة لدى ‘قناة الجزيرة’ لمنع تغطية شاملة لما يجري في احتجاجات، والاكتفاء بتغطية جزئية لا تحتل مكاناً رئيساً، وذلك كي لا تفسر التغطية على انها رغبة قطرية في التشجيع على الثورة، إلا انه يوضح كيف غيرت قطر استراتيجيتها في التعاطي مع الثورة السورية بعد محاولات دفع النظام للإصلاح، لتبدأ بعزل النظام والانفتاح على المعارضة والتسليح.

يختم بشارة كتابه بالقول إن ‘سيرورة الاحداث تسير في اتجاه الاحتمال الكارثي الذي يخسر فيه الجميع، إذ تعمق الشرخ الاجتماعي العميق، وظهر النظام المتماهي مع الدولة انه القوة المنظمة الوحيدة في سورية، وعلى اعتبار البديل غير جاهز، فلا بد من مرحلة انتقالية سياسية تكون نتاج حل سياسي’.

*كاتب فلسطيني
المصدرالقدس العربي