مصطفى ديب
ما الإرهاب؟ تعريفاته والمفاهيم التي يُعبر عنها؟ وهل تقتصر تعريفاته على أنّه عُنف موجّه ضدّ الدولة؟ وفي هذه الحالة, ألا يُعتبر العنف الذي تُمارسه الدولة، دكتاتوريةً كانت أم دولة احتلال، ضدّ مواطنيها إرهابًا أيضًا؟ ولماذا يُصنّف العنف الذي تمُارسهُ حركات المقاومة ضدّ الاحتلال أو الدكتاتوريّات إرهابًا طالما أنّه عنف يُمارس للتخلّص من عنفٍ أكبر؟ أشعلت السنوات الأخيرة، وتحديدًا بعد ثورات الربيع العربيّ وظهور تنظيماتٍ جهاديّة إرهابيّة كالدولة الإسلاميّة "داعش" وسواها، هذه الأسئلة، وذلك وسط سجالاتٍ ضخمة حول الإجابة عنها. إذ دارت غالبية تلك الإجابات في دائرة مفرغة، دون أن تقدّم إجاباتٍ دقيقة ومُفسّرة لها.
في دراسته التي عنونها بـ"الإرهاب: بموجب هويّة الفاعل أم بموجب هويّة الضحيّة؟"، المنشورة في العدد الـ29 من دوريّة "سياسات عربيّة" التي يُصدرها "المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات"؛ قدّم المفكّر العربيّ عزمي بشارة إجاباتٍ دقيقة عن تلك الأسئلة، ومُعالجة شاملة للإشكاليّات التي تُحيط بما يتعلّق بمصطلحي "الإرهاب" و"الحرب على الإرهاب"، والتي تعيق فهم هذه الظاهرة بالشكل الصحيح.
نقف في هذا المقال على أبرز ما جاء في هذه الدراسة من إجاباتٍ لما سقناه سالفًا من أسئلة.
إذا حاولنا البحث عن أبرز الأسئلة المتعلّقة بهذا المصطلح "الإرهاب" عربيًا، نجد أنّها تدور حول الأسباب التي جعلت من استخدامه في السياسيّة كأداة في يد الأنظمة الدكتاتوريّة لضمان بقائها من خلال دمغ معارضيها به أمرًا سهلًا ومرنًا، ولا سيما أنّه يعود بنتائج إيجابيّة لها. وحول هذه المسألة، يمكننا أن نلخّص الإجابة في أنّها تكمن، وكما جاء في هذه الدراسة المميزة، في غياب محاولات الدول لتدقيق مصطلح "الإرهاب" وتبيين غموضهُ، وانشغالها بدلًا من ذلك بمحاربته تحت مُسمّى "الحرب على الإرهاب" بعد أن صوّرته تلك الحرب على أنّه تهديد وجودي للحياة.
المُلفت أيضًا في هذه الحرب هو أنّها ليست خاضعةً لمعايير وقوانين الحرب المعروفة، أي أنّها، وإذا استدعينا المقصود من مفردة "حرب"، ليست حربًا لأنّها غير محدودة بزمان أو مكان معيَّن، بالإضافة إلى أنّ العدو الذي تستهدفهُ غامض وغير واضح. ناهيك عن أنّها أيضًا غير قابلةً للانتهاء كونها تقضي على إرهابيين وتفرّخ أضعافًا منهم، كما لو أنّها تُوجِدُ بذلك سببًا لاستمرارها. ويُمثّل ما ذكرناه أعلاه إشكاليّات يجبُ أخذها بعين بالاعتبار عند الحديث عن "الحرب ضدّ الإرهاب"، بالإضافة إلى أهميّة النظر في أثر تلك الحرب التي قُسِّمَت العالم إثرها إلى معسكرين؛ الأوّل يضمُّ مكافحي الإرهاب على اختلاف خلفياتهم، أي أنّه يجمع الأنظمة الدكتاتوريّة ونقيضتها الديمقراطيّة معًا، بيد أنّ لكلّ منها أهدافًا مُعيّنة تكون غالبًا بعيدة عن الإرهاب ومكافحته. بينما يضمُّ الثاني الإرهابيين أيضًا على اختلاف خلفياتهم.
يذكر بشارة أنّ الأثر الأبرز لهذه الحرب يكمن في تهميشها لقضايا الديمقراطيّة والعدالة بعد أن صوّرت الحرب الإرهاب، كما سبق وذكرنا، تهديدًا وجوديًا، وبالتالي فإنّ محاربته سبيل للبقاء وتأمين الحياة، وأمر سابق للديمقراطيّة والقضايا المتعلّقة بها. بالإضافة إلى أنّ تلك الحرب ضاعفت من بوليسيّة الدول البوليسيّة أساسًا، وأتاحت لها التدخّل في حياة الناس الخاصّة أكثر مما كان عليه سابقًا، أي قبل صعود ظاهرة الإرهاب.
أمّا عن السجالات الواسعة والأسئلة التي تدور حول المقصود من مصطلح "الإرهاب" ودلالاته، يفرّق بشارة بين اللفظ (Terror) و (Terrorism)، كون الأوّل يُقصد منه معناه الأصلي، أي الردع والتخويف، وهنا يقدّم صاحب ثلاثية "الدين والعلمانيّة في سياق تاريخي" كلّ من اليعاقبة الفرنسيين والمخابرات السوفياتية مثالًا، حيث استخدم هذا اللفظ للتعبير عن العنف الذي مارسه النموذج الأوّل ضدّ أعداء الثورة الفرنسية، بهدف ردعهم عن القيام بأي محاولة للعودة بفرنسا إلى عهد ما قبل الثورة. الأمر نفسه حصل عند المخابرات السوفياتيّة التي استخدمت هذا المصطلح للتعبير عن عنفها الذي له الهدف نفسه، ردع أعداء الثورة البلشفيّة والقضاء عليها، وكبح جماح الثورة المضادّة. وبذلك يكون لفظ (Terror) ليس مصطلحًا أيديولوجيًا قائمًا بذاته.
لكن في حالة إضافة اللاحقة (Ism) إلى (Terror)، يتحوَّل اللفظ إلى تسمية قائمة بذاتها، ويصير المصطلح مصطلحًا يلزمه تعريف كون الدلالة الأصليّة له لم تعد تكفيه. ويُعبر هذا اللفظ عن الممارسات التي كانت تستهدف أشخاصًا معيَّنين في أجهزة الدولة. والهدف منها كسر هيبة الحكومة.
يقول بشارة إنّ بعض الحركات رأت هذه الأعمال عادلةً ومُحقّة كونها تحقق العدالة بمعاقبة المجرمين وردع ساسة آخرين عن القيام بأعمالهم، وتوفّر بهذا آلاف الضحايا الآخرين. أي أنّ هذا اللفظ (Terrorism) يُعير عن عنف يستهدف عنف أكبر يسقط فيه ضحايا أكثر. ولذلك حددت الهدف وابتعدت عن قتل الأبرياء.
يُشير عزمي بشارة إلى أنّ تسمية الإرهاب انتقلت بعد انحسارها في أوروبّا بعد الحرب العالمية الثانية إلى حركات مقاومة الاستعمار المسلّحة. ويقول أنّ المطابقة بين عمليات تلك الحركات التي تهدف إلى إنهاء الاستعمار والإرهاب أمر مقصود من الأوروبيين الذين لم يعتبروا حركات المقاومة ضدّ الاحتلال النازي إرهابًا.
إلّا أنّه يذكر في هذا السياق استثناءات اعتُبرت فيها حركات استيطانية استعمارية حركات إرهابيّة كحركات الإيتسل والليحي الصهيونية التي اعتبرها المستوطنون والإنكليز معًا حركات إرهابيّة كونها مارست عنفًا خارجًا عن سيطرة الجهاز الاستعماري. بينما لم يُعتبر عنف الهاغاناه مثلًا إرهابًا لأنّه لم يخرج عن سيطرة الجهاز الاستعماري، ناهيك عن أنّه عُدّ عنفًا مشروعًا لفرض النظام.
في الانتقال إلى مسألة تعريفات الإرهاب، يقول صاحب "الجيش والسياسة" إنّ أوّل تعريف للإرهاب بموجب هويّة الفاعل نصّ على أنّ "جميع الأفعال الإجرامية الموجّهة ضدّ الدولة، ويقصد أو يراد منها خلق حالة من الرعب في أذهان أشخاص معيَّنين أو مجموعة من الأشخاص أو عموم الناس". وبذلك يكون الفاعل هنا غير رسمي، ويرتكب عنفًا سياسيًا خارج احتكار الدولة للعنف.
أما عن الأسباب التي تقف وراء عدم اعتبار العنف الذي تمارسه الأنظمة ضدّ شعوبها، كما في الحالة السوريّة مثلًا، فإنّها تعود إلى التعريف نفسه الذي يعتبر الإرهاب هو فقط العمليات التي تستهدف أجهزة الأمن والجيش، الأمر الذي يجعل من حركات التحرر الوطني ضدّ الأنظمة المحتلة، وكذلك الحركات السياسية التي تقاوم عنف الأنظمة الدكتاتورية ضدّها بعنف آخر؛ حركات إرهابيّة.
يرى بشارة أنّ ثمّة علاقة بين عمليات الأجهزة الأمنية والجيش ضدّ المدنيين، والإرهاب. مُفسِّرًا ذلك بأنّ العمليات التي تنفّذها الأنظمة المستبدة بهدف منع الإرهاب، وفي ظلّ غياب قوانين تحمي المدنيين وتُحاسب تلك الأجهزة، ينتج عنها أقليّات من الضحايا ترد على عنفها الجسدي والنفسي، ولا سيما الإذلال، بعنف منظم أو فردي. ويخلصُ بشارة هنا إلى القول بأنّ عنف الدولة الموجّه ضدّ المدنيين، سواء سُمّي إرهابًا أم لم يُسمّى كذلك، يؤدّي إلى توسّع نطاق الإرهاب. ويعدّ هذا الأمر من أهم نقاط ضعف ما يُسمى بمكافحة الإرهاب. مُشيرًا إلى أنّ مكافحة الإرهاب دائمًا تتضمن إرهابًا بمعنى (Terror)، وينتج عنه إرهابًا بمعنى (Terrorism).
يخلص عزمي بشارة في نهاية الدراسة إلى القول بأنّ الإرهاب الأخطر هو في العنف العدمي الانتقامي بلا هدف سياسي محدّد، والذي ينشأ في مراحل أزمات الحركات الثورية وانحلالها أو تراجعها أمام عنف الأنظمة المضاد، ولا سيما في غياب القيادة الموحدّة والمشروع السياسي القابل للتحقيق، وفي مراحل انتشار النزعة الانتقامية المعزّزة بشعارات دينيّة أو طائفيّة أو غيرها. ويرى بشارة أن الحلّ لهذه المسالة لا تكمن في الحلول الأمنية والعسكرية، بل في خلق بيئة مضادّة للإرهاب، تقوم على الحرية والعدالة والمساواة والتنمية البشرية وصون حقوق الإنسان.
موقع ألترا صوت