عز الدين التميمي
مثل أي هوية قطرية عربية، بدأت الهوية القومية الفلسطينية تتشكل داخل المدن الناشئة، وولدت داخل عمليات التمدين، وعندما تجسّدت ذروة المشروع الاستيطاني الإسرائيلي بالنكبة، وطرد معظم الفلسطينيين من أراضيهم، أخذ هذا النشوء مسارًا مختلفًا، وتبلور طموح النخبة السياسية الفلسطينية بالاستقلال وبالعودة في الشتات، وحلّ مجاز "الأرض المسلوبة" كرافعة مكان المدينة في التخيُّل القومي الفلسطيني.
سقطت المدينة بعد أن هُجّرت من الحسابات القومية الفلسطينية وحتى من التنظير لهذه القومية، وهيمن الرمزي على المادي، وتغلّب التوق إلى القديم والمطالبة به على الآمال النهضوية أو على أي تطلع للمستقبل القومي الموعود. وقع الاستقلال ووقعت المطالبة به على حدود الحنين إلى الماضي دائمًا، لكن هذا الماضي لم يمثل المدينة القديمة -التي سلبت أيضًا-، بل مثّل القرية المهجّرة، التي كان ربطها بالأرض المفقودة أسهل.
لهذا صار الثوب الفلسطيني وصار معول الفلاح، رموزًا وطنية جامعة، وكذلك صارت الدبكة الشعبية الفلاحية دبكة الفلسطينيين جميعهم، وأمثال الريف أمثال الفلسطينيين، وثقافته ثقافة الفلسطينيين، وبدأ الروائيون وأستاذة التاريخ وعلماء الاجتماع ينشغلون بحفظ هذا التراث الوطني المهدد من رقصات شعبية ومأكولات وقصص، وأخذوا في سبيل ذلك أدوار المستشرقين، وصارت الأرشفة مهمّة سياسية وتعبير عن الالتزام الوطني في الأدب والفن والعلوم الاجتماعية.
من هُنا، بدأت القرية كما يرى عزمي بشارة تأخذ مكانًا خاصًا في الوعي الوطني الفلسطيني. سواء في الشتات الذي مثلت فيه القرية استعادة رمزية للخسارة وللفقد، أو حتى بالنسبة للفلسطينيين في الداخل، الذين رأوا في التشديد على الأصالة، الذي غالبًا ما كان تباهيًا بـ"التخلف"، استعادة لصورة المكان الأول، مقابل الحداثة الإسرائيلية التي كانوا على هامشها أو لم يدخلوها أصلًا.
و"يكمن التحدي في بلورة هوية وطنية فلسطينية حديثة تتجاوز عروض الرقص الشعبي وخبز الطابون والحمص والفلافل وعرض المحاريث والمهابيج، فهذه أدوات تصلح لمخاطبة حنين المهاجر الفلسطيني في الولايات المتحدة وشوقه إلى (البلد)، ولكنّها لا تصلح لإنتاج هوية ثقافية حديثة ومعاصرة تتطور مع الواقع، ولا تنحبس عنه في الاحتفالات الفلوكلورية. (الخطاب السياسي المبتور ودراسات أخرى. ص 118).
لقد وردت فكرة نشوء الهوية الوطنية الفلسطينية على هامش الحنين إلى المفقود، عند كثير من المنظّرين، وانتبه عدد غير قليل منهم أيضًا إلى انبناء التنظير القومي الفلسطيني على الخسارة، وعلى التفاعل مع الاستيطان، ما أنقصها فاعليتها الكاملة والخاصة، لكن فكرة غياب المدينة، وسطوة القرية في هذا التنظير، بدت هامشية، ولم ترد إلا كإشارات متقطعة في كتابات قليلة، باستثناء منظرين قلة منهم عزمي بشارة الذي أورد لها مجموعة من المساهمات في كتبه المبكرة، مثل "طروحات حول النهضة المعاقة" و"الخطاب السياسي المبتور ودراسات أخرى"، وقدم جهدًا نعتقد أنّه يستحق التذكير والتبيان.
قرية مهجرة، مشروع استيطاني يتذرع بالحداثة وبالتحديث، وهوية وطنية تطورها نخبة من المهجرين في الشتات. من هنا بدأ الاستهداف الإسرائيلي للمدينة الفلسطينية، لكن وفي نفس الوقت، فقد بدأ من هنا سقوط المدينة من التذكر الجماعي الفلسطيني. لم تنتبه النخبة الوطنية الفلسطينية، التي تبلورت في منظمة التحرير لاحقًا، أنّها نسيت المدينة في انشغالها بالقرية، و"أن تدمير المدينة الفلسطينية، وإمكانيات قيامها وتطورها، هو تدمير مشروعنا الوطني"، وأن "غياب المدينة يعني غياب المركز الثقافي الموحد، غياب الجامعة والمكتبة الوطنية والمسرح القومي ودار النشر الوطنية ومقاهي المثقفين، غياب المجتمع الفردي، والطبقة الوسطى المبلورة حول مطامح سياسية ومشروع سياسي قومي. غياب المدينة يعني غياب المجتمع المدني. (الخطاب السياسي المبتور ودراسات أخرى. ص 8).
ولم تنتبه هذه النخبة أيضًا إلى أن هذه المعادلة التي تتربع القرية في مركزها، أجبرت السكان الأًصلانيين على خيارين حصريين، فإما الاندماج في المدينة الإسرائيلية، والعيش على هامشها أو العودة إلى "القرية التي لن تعود". لقد كان اقتلاع القبيلة والعشيرة من الأرض، سببًا في أن تكون العودة المجازية إلى هذه الأرض من خلال العشيرة نفسها. ولأن العودة رمزية، فإنّ ما يسميها بشارة فلكلرة، تطغى على كل مقومات الهوية الأخرى.
"ولأن القرية فقدت وسلبت، فإنها تحوّلت بواسطة الذاكرة إلى طريق انتماء الفلسطينيين إلى وطنهم، بدل أن تكون حاجزًا تتوجب إزالته من أجل الانتماء إليه، ذلك لأن ما أزال القرية ليس حداثتنا، وإنما حداثة الآخرين على حسابنا"، (طروحات حول النهضة المعاقة. ص208). ومن الطبيعي أن يكون الانتماء إلى قرية أو جهة أو حمولة عائقًا أمام الانتماء الوطني الذي هو انتماء إلى كل متجانس، لكن الحمولة عندما تقتلع مثلها مثل القرية تصير طريقة للانتماء إلى الوطن وإلى هذا الكل لا حاجزًا أمامه.
ولنفس السبب، فإن بشارة يرى أن الريفية توازت مع الأصالة في الهيمنة على الخطاب الهوياتي الفلسطيني، و"غلب على الأيدولوجيا الفلسطينية يمينية كانت أم يسارية، التشديد على نزعة الأصالة القروية" (طروحات حول النهضة المعاقة ص 209)، وصارت هذه الأصالة هي نقيض النسيان، أي نسيان الأرض والتشرد.
قد يأخذ الحنين دورًا مركزيًا في التأسيس للهويات الوطنية، وللمتحف وهو مؤسسة الحنين الرسمي، دور حاسم في التخيل القومي، لكن الخطر من وجهة نظر بشارة هو في مضمون هذا الحنين. ويتسق صاحب "مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" في معالجة هذه القضية مع منهجه العروبي، فيرى أنّ غياب المدينة يمثل فشل المشروع النهضوي العربي وبالتأكيد فشل الوحدة العربية، وفي المقابل تتقاطع حسبه، الهوية الفلوكلورية القروية مع كل المقاربات اللا تاريخية للصراع، التي تمثله وكأنه حرب كنعانيين ويهود.
و"لقد كان بالإمكان الحفاظ على خطاب الأصالة والفلوكلور مع الحفاظ على ذاكرة الاقتلاع في حالة واحدة، هي الذهاب بالانتماء الوطني إلى آخره وتوسيع الانتماء الفلسطيني إلى انتماء عربي أوسع هو جزء من أمة عربية، يعترض احتلال فلسطين طريقها نحو تقرير المصير وبناء وحدتها" (الكتاب نفسه. ص209)، وبالنسبة لبشارة فإن هذه هي الحالة الوحيدة التي يمكن أن يكون تاريخ فلسطين فيها جزءًا من تاريخ الحاضرة أو المدينة المدمرة التي كانت تنشأ في سياق عربي وكجزء من مشروع عربي متواصل. لأن الذاكرة العربية هي ذاكرة مدن، بينما حولت الذاكرة المحلية الفلوكلور إلى فكر سياسي وإلى أيدولوجيا، في حالة ستصبح الهوية فيها كنعانية أو فينيقية أو فرعونية إلخ.
إن ترييف الوعي القومي الفلسطيني بالنسبة لـ عزمي بشارة إذن تخلق في سياقين، ويمكن تجنبه في سياق واحد. فهو جزء من أزمة الحنين إلى المفقود طبعًا، وإلى مجاز العودة إلى القرية بدلًا من استعادتها، لكنّه أيضًا جزء من أزمة الدول القطرية العربية إجمالًا، التي لم تستطع تقديم هوية قومية ولا مدينية بديلة عن الهوية العربية الجامعة، فتاريخ المدن هو التاريخ العربي المشترك، الذي هو الحل أمام هذا الترييف. و"إننا نختزل ثقافتنا إلى فلوكلور، ليس فقط لأن هذه الثقافة اقتلعت من أرضها، وليس فقط لأننا نحاول التمسك بالجذور، وهذا أمر مفهوم، وإنّما لأننا ارتددنا ورددنا عن الحاضرة\المدينة العربية" (الكتاب نفسه. ص211). وفي هذا السياق، يكرر المفكر العربي موقفه من أن الهويات المحلية والقبلية وحتى الفينيقية والفرعونية والكنعانية هي تمثيل لفشل المدينة وفشل المشروع العربي، ولترييف الوعي الوطني في نفس الوقت، فلسطينيًا وعربيًا.
لكن وأكثر من ذلك، فإن ثمة هاجسًا هو الأخطر، يترتب على هذا الترييف، وهو أنه مرادف لمشروع التسوية، أو عل الأقل أنه لا يتعارض معها، إنه نوع من التذكر الذي من دون مشروع، ونوع من التذكر لا يتعارض فيه الحنين إلى القرى كفلوكلور مع "اختزال فلسطين في قرى الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث بالإمكان ممارسة الدبكة الشعبية التي يبثها التلفزيون الفلسطيني القائم أكثر من ساعة كل يوم". (الكتاب نفسه. ص214)، كما أنّ اعتبار الصراع صراع كنعانيين ويهود، لا يتعارض مع فكرة أن صراع اليوم هو صراع بين حركتين أصلانيتين على أرض واحدة، وهو مبرر التسوية القائمة.
إن التطلع إلى بناء المدينة الفلسطينية، كجزء من مشروع نهضوي عربي سيتصادم حسب بشارة بالضرورة مع التسوية، التي تظهر "كمدينة إسرائيلية واحدة محاطة بقرى عربية من المحيط إلى الخليج".
موقع ألترا صوت