مراجعة كتاب الدين والعلمانية (الجزء الأول)
الكتاب: الدين والعلمانية في سياق تاريخي (الجزء الأول)
الكاتب: د. عزمي بشارة
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة 2013
مراجعة: د. عفيف عثمان
يبحث المفكر العربي عزمي بشارة في الجزء الأول المعنون "الدين والتدين"، من مشروعه الكبير عن العلمانية، عن مقاربة مختلفة، أكثر دقة، تمحص في المفاهيم وتحترم السيّاق التاريخي والثقافي. فيميّز الدين عن أنماط التدين المتعددة بتأثير من أشكال العلمنة التي خضع لها المجتمع، موضوع الدرس، ويقارب الدين كظاهرة إجتماعية (دوركهايم) والتدين كذلك، حتى الفردي منه. وللوصول الى هذا المقصد لا بد من سياحة فكرية تبدأ من "المقدس والأسطورة والدين والأخلاق"، وبشارة كلسان حال المبشِريّن يقول إن الإنسان "متديّن"، بدءاً من الإحساس بالمطلق ورهبته الى المقدس وكيفية التعبير عنه، وفي نظره "الشعور بالمقدس هو ملكة روحية،... سمة من سمات الوعي البشري"، وينماز عن التجربة الدينية ذات الخصوصية الجمعية والمشتركة، اذ يضيف الى تجربة المقدس "البعدين الإيماني والمؤسسي التنظيمي"، ويُعد الدين، عموماً، أحد أشكال التفاعل مع الطبيعة والجماعة، ويؤدي الطقس دور إعادة إنتاج الإنفعالات الأولى، وإقامة التخوم مع الظواهر الأخرى المنافسة حكماً له على مجالات الشعور. حتى إن الفنون (الأسطورة، الشعر، النحت، الموسيقى...الخ) تجاورت مع المقدس، وكانت رجع صدى له أو تعبيراً عنه.
ويستعين الباحث بالفيلسوف الإنجليزي دايفيد هيوم في "تحقيق في الذهن البشري"، كي يقنعنا إن "الإيمان والوحي الإلهي" جزء من إدراكات الذهن، ويطلب معونة الفيلسوف الألماني كانط في "الإيمان في حدود العقل" وقوله بالحدس في هذا الشأن، وهيغل في نظرته الى المطلق. وتوكيداً لنظرته في التأسيس العقلي للظاهرة الدينية، يتبنى الباحث رؤية الألماني ماكس مولر، والتي بحسبها "الدين هو محاولة تصور ما لا يمكن تصوره، والتعبير عما لا يمكن التعبير عنه. وهو المتطلع الى اللانهائي، هو حب الله". واذا افترضنا مع بشارة أن الفلسفة اليونانية انشغلت بالعلة الأولى وبالكل وبأصل الأشياء، فإنها كانت بعيدة من التدين، ولهذا السبب كانت الأديان التوحيدية أقرب الى أفلاطون في عالم المثل الخاص به منها الى أي أحد آخر ولا سيّما أرسطو في محركه الأول، الأمر الذي يوارب فيه ويقول إنه حقق أحد "وظائف الدين من دون وجود الدين".
ويلتقي الدين والفلسفة ( مع أنها الأسبق) ، في رأيه، في البحث عن معنى وغاية الحياة، ويطلق على تفكر اليونان الوحدة والكثرة والأصل مصطلح "لاهوت طبيعي"، ويجد تقاطعات مع الدين عند أفلاطون، على سبيل المثل، وينتهي الى الإستنتاج إن الفلسفة الإغريقية "تفكر هنا بموضوعات الدين، لكنها ليست ديناً". بيد أن الفلسفة الحديثة مع ديكارت جهدت، إقتداءً بالفلسفة الوسيطة الموسومة مسيحية، بإثبات وجود الله ابتداءً من العقل. ويُكثر االكاتب من الشواهد التي تفيد في المحصلة تقاطع الفلسفة والدين، كما في نظرة الباكستاني محمد إقبال اليهما كبحث عن ماهية الحقيقة، رغم حالات الدحض والتفنيد التي قد يتبادلانها واتكاء كل منهما الى مرجع مختلف: الفلسفة الى تجربة العقل والدين الى تجربة الوجدان، وقد تأخذ سمة "التجربة الدينية"، وتختلف هذه، في رأي بشارة، عن سواها من تجارب المقدس في بحثها عن الواحد اللانهائي، باستغراق الذات كلياً وعلى نحو شديد.
بيد أننا نخالفه في الميزة الرابعة، إقله في حال عنينا الإسلام، حيث "تدفع التجربة الدينية الإنسان عادة الى الفعل"، اذ أكثر المنفعلين بها هم الصوفية وما ينتجون من مفاهيم التسليم والتواكل والبعد عن الدنيا، والإنصراف الى تهذيب الذات فحسب، هذا قبل أن تتحول الى طرق شعبية. وهو يُقارب الأسطورة، مثابة "التعبير المعرفي الأول عن المقدس"، لصلتها بالدين، اذ غالباً ما تستخدم لتثبيته، فتكون "الأسطورة الدينية مكوّنا من مكونات العقيدة"، ويقوم الطقس بإعادة تمثيل الأسطورة التي تسردها الحكاية، ولأنه ينطلق من فهم أهمية الدين للإنسان، يتبنى بشارة رأي يونغ في تفسير الأسطورة ضداً من فرويد الذي عد الدين عصاباً.
وفي استعراضه للميتوس واللوغوس واستخدام الفلسفة لهذا الأخير، يسعى المفكر الفلسطيني لإثبات التقاء الفلسفة والدين وإيجاد القرابة الفكرية بينهما، اذ "نجد في الديانة فكرة فلسفية مصوغة صوغاً اسطورياً على شكل حكاية، كما نجد في الفلسفة محاولات لعقلنة أساطير دينية". ويحاول مسترشداً بكم هائل من القراءات أن يحدد الحدود القائمة بين الأسطورة والدين، رغم اعتبار البعض إن الأولى أحد مكونات هذا الأخير. ما يُبرِر استخدام الدين نمط الحكاية والمثال والمجاز والإستعارة، دافعاً الشبهات التي تجعل من الدين "مجموعة أساطير"، في زعم بعض من رغب باسم التنوير في "نزع السحر عن الدين" من خلال درس الشعوب القديمة بعاداتها وتقاليدها وحكاياتها وقيّمها. وقد عقدت الدراسات الأنتروبولوجية صلة بين السحر والدين، قام بشارة ببيان حال الوصل والفصل بينهما.
وفي شكل عام، يتعامل السحر عنده مع مسائل حياتية محددة، في حين يتعامل الدين مع قضايا وجودية كبرى، وهو قد يتضمن عناصر سحرية عبارة عن رواسب ديانة سابقة. والى ذلك، فهما يتقاطعان في أحيان كثيرة من خلال التدين الشعبي والطقس الذي يلازمه بالإستعانة بقوى وسيطة مثل الأولياء والقديسين والتبرك بهم لتحقيق أماني ومصالح في هذه الدنيا.
ينزه بشارة الدين عن أن يكون أخلاقاً، ولكنه يُقر بتقاطعهما أحياناً في الأخلاق السائدة في المجتمع، بحيث تلازم المنظومة الأخلاقية الدين وتصبح ركناً ثانياً له، وهو يؤيد زعمه بعرض فلسفي وانتروبولوجي للمسار المعقد الذي سلكته الأخلاق لتوكيد نفسها بعيداً من أي متعال أو مقدس، وارتباطاً بالحرية. وينتهي الى أن المشكلة في "تغلب الجانب العقدي على الأخلاق الى درجة تسويغ إرتكاب أعمال غير أخلاقية بتبرير عقدي، أو في تحويل الدين لا الى طقس جماعي فحسب، بل الى عصبية وهوية جماعية، بحيث يغلب فيه الطابع العصبوي على البعد الأخلاقي".
ويفصل بشارة القول في "التدين"، ويولي التجربة الدينية الخصوصية أهمية كبيرة، ويرى الى اختلافها عن تجربة المقدس الذي قد ينتمي الى عالم الأشياء الدنيوية، وتحولها حالة عادية، فلولا "هذا التحول الجدلي من عاصفة التجربة الدينية الى عادية السكينة الدينية ومنواليتها، لما قامت للدين قائمة: ليس التدين هو التجربة الأولية للمقدس، بل هو أيضاً نفيها. ونفيها هو الذي يصنع الدين، أي يمأسسه باعتباره ظاهرة"، تقوم على الإيمان بجملة من المقولات عن الوجود والغيب تتحول لاحقاً الى "عقيدة". وفي حال الديانات التوحيدية هو "الإيمان بالله"، و هذا يملي واجبات يؤديها المؤمن، ويرى بشارة الى تغير العقيدة باستمرار بفعل الزمن، ما يفسر "كيف يصنع التدين الدين من جديد عبر التاريخ".
وهذه تسمح لنا بالإدراك المعرفي لأنماط التدين المتعددة والمتغايرة بتأثير عوامل الإجتماع والإقتصاد. ويُقدم الكاتب "نماذج إسلامية" مختلفة، قاربت معنى الدين والإيمان مثل قول الجرجاني وسجالات علم الكلام وأقوال الصوفية (القشيري، ابن عربي..). والحال، يربط بشارة ربطاً محكماً بين التدين (بما هو ممارسة) وبين الدين (يُعادل الإيمان)، ويركز على البعد الإجتماعي والمؤسساتي، لكنه يعود ليميز ويستنتج إنه "مع ترسخ الظاهرة إجتماعياً وابتعادها عن مصادرها، ومع انتشار الأعراف والعادات، يصعب القول هل الإيمان هو إيمان بالعقيدة الدينية أم إيمان بالتدين ذاته"، وفي الوقائع العربية يلاحظ بشارة إن انتشار التدين بمثابة "إعادة انتاجه كأنه عودة الى الهوية الأصلية وتأكيد الخصوصية الثقافية"، ويخلص الى القول إن ما نشاهده في هذه الحالة ليس الدين، بل حراك إجتماعي، خطابه وثقافته دينية، ويخشى من وضع "يزداد التدين فيه ويقل الإيمان".
يُشهِر صاحب "المجتمع المدني" سلاح النقد قبالة النقد الموجه الى الدين، والذي لا يساعد بزعمه، في فهم الظاهرة الدينية، من كانط الى هيغل مروراً بسبنسر ودوركهايم وصولاً الى ماركس وفيبر، وكلهم ساعون الى الفهم انطلاقاً من العقل والبنية الإجتماعية.
يُنقِب بشارة بعمق في عبارة الدين ودلالاتها، في القرآن وفي كتب التراث، ويرى الى التعدد وفاقاً لحقول المعرفة. واستكمالاً يذهب نحو المعنى في اللغات الأخرى وفي العلوم الإجتماعية، وما تقر به من وظيفية يضطلع بها الدين.
والحال، يمهد المفكر العربي لكتابه القادم عن العلمانية بنقاش أولي يتناول المفهوم وما يقتضيه من تمييز بين العلمانية والعلمنة. فهذه الأخيرة "صيرورة تاريخية تمس مجالات اجتماعية عدة، كما تمس الفكر الإنساني. هي عملية التمايز المستمرة بين قطاعات يُعيد التمايز تعريفها، مثل العلم والأسطورة والمقدس والدنيوي، والدين والدولة"، وهو يُحدد أن طبيعة صيرورة العلمنة في المجتمعات هي التي تحدد طبيعة العلمانية فيها وطبيعة التدين.
المصدر: المستقبل - الثلاثاء 22 تشرين الأول 2013 - العدد 4841 - رأي و فكر - صفحة 19