مقال معين الطاهر
تهدف هذه المقالة إلى إثارة نقاش مسؤول حول إجابة الدكتور عزمي بشارة عن سؤال ما العمل، المتضمن في كتابه الذي صدر أخيرا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، "صفقة ترامب – نتنياهو.. الطريق إلى النص ومنه الإجابة عن سؤال ما العمل؟"، وهو عنوان يشي بما فيه، ويشكّل محاولة جريئة وجادّة لصوغ أسس يُبنى عليها المشروع الوطني الفلسطيني في قادم أيامه.
تتضمن إجابة بشارة عن السؤال تصوّره لمستقبل المشروع الوطني الفلسطيني، من موقعه مفكرا عربيا فلسطينيا، فهو يقدّم رؤية، ويترك أمر الإجابة عن سؤال "البرامج والخطط النضالية" للمشتغلين بالسياسة والأحزاب والتنظيمات، مكتفيًا "بالإشارة إلى الاتجاه"، إذ "لا معنى لوجود أي حزب سياسي فلسطيني، إذا لم تكن لديه إجابة عن سؤال البرنامج في الظروف الجديدة". وإذا ما عجزت الفصائل عن فعل ذلك، "فعليها ألا تستغرب أو تغضب من تولّد بدائل" يبدو وكأنه يتنبأ بمولدها، ويضع شرطًا لذلك أن تتجمّع "المبادرات المنتشرة في كل مكان" وتنتظم.
نجح بشارة في بلورة أفكاره وتوجيهها إلى ما يطلق عليها العدالة في فلسطين، عبر استعراضه استراتيجيات مختلفة، وصولًا إلى اعتبار أنّ نظام الأبارتهايد هو الخصم. لكنه ترك مهمة وضع البرامج والسياسات التفصيلية على عاتق الفصائل والأحزاب، من أجل الوصول بالأفكار إلى أهدافها. البرامج وآليات العمل قابلة للتطوير والتعديل في مراحل النضال المختلفة، وفي ظني أن ثمّة دورا مهما للمفكرين والمثقفين، كما هو حال المناضلين، ليس في تقديم الأفكار فحسب، وإنما أيضًا في المساهمة في صوغ البرامج التفصيلية ونقاشها ومراجعتها ونقدها وتطويرها. لذلك، قد يكون من الضروري لاحقًا المشاركة في صوغ برامج العمل وآلياته، وأن تُفصّل أدواته، ففي أحيان كثيرة تفشل الثورات والحركات، على الرغم من نضج أفكارها وعدالة قضيتها، لافتقارها الآليات اللازمة لتحقيقها، والقدرة على إدراك موازين القوى في اللحظات المختلفة، وكيفية مراقبة تحولاتها والتعامل معها، واستثمار اللحظات المناسبة؛ فالسياسة أهم بكثير من أن تُترك للسياسيين وقادة الفصائل والأحزاب وحدهم.
وصف الوضع الفلسطيني
يُعرّف عزمي بشارة القضية الفلسطينية بأنها "قضية تحرّر من واقع الاحتلال والشتات والتمييز العنصري في آن"، لذا يجب أن تُسمّى القضية الفلسطينية باسمها كآخر "قضية استعمارية غير محلولة". وفلسطين حاليًا "وحدة واحدة، وفضاء واحد، خاضع لدرجات مختلفة من سلب الأرض، ومصادرة الكيان الوطني، وتلوينات وأساليب سيطرة مختلفة للسلطة الإسرائيلية الحاكمة نفسها". أما رؤية الرئيس الأميركي، ترامب، فيُفترض أن تدفع "للتفكير في استراتيجيات جديدة"، إذ لم يعد ثمّة مجال لتصوّر حل لقضية فلسطين "يشمل فقط جزءًا من الشعب الفلسطيني"، فتنفيذه لن يكون ممكنًا، فالمطلوب حاليًا "صياغة استراتيجية التحرّر وأهدافها، وليس اقتراحات حلول"، أو الدخول في مفاوضات.
حل السلطة الفلسطينية وإعادة بناء منظمة التحرير
تنتشر في أوساط المعارضين لاتفاق أوسلو أفكارٌ تتعلق بضرورة حل السلطة الوطنية الفلسطينية، أداة للتخلص من إرث اتفاق أوسلو الثقيل، لكنّ بشارة يقدّم رؤية مختلفة، أساسها بقاء السلطة، مع تغيير وظيفتها بوصفها "نوعًا من إدارة مركزية"، "سلطات محلية، بلديات تدير شؤون السكان، ولها مهمات شرطية". مع التأكيد على أنها "ليست قيادة سياسية للشعب الفلسطيني، ولا بد أن يُعاد إحياء منظمة التحرير لتتولى هذا الدور". محذّرًا من انقلابٍ برعاية إسرائيلية سيتم إذا ما حل محمود عباس السلطة، "فسيرحل هو، ويتسلم رجال الأمن السلطة بدلًا منه"، فمن المحتمل "أن يتلقى أي انقلابي أو رجل أمن طموح دعمًا إسرائيليًا وأميركيًا لاستلام السلطة". إسرائيل "لا تريد أن تعود وتحكم السكان مباشرة، وستجد جماعات تستلم السلطة عوضًا عنها في المدن المختلفة، أو توجدها". لذلك، ليس الخيار "قائمًا بين حل السلطة وبقائها، السؤال هو حول دورها والخيارات السياسية المتاحة". الخيار المتاح أن تبقى "مؤسسات السلطة القائمة التي حققت منجزاتٍ على الصعيد المدني، شريطة أن تدرك وضعها بوصفها سلطاتٍ محلية تقدّم خدمات، وشرط أن تتحمّل عواقب وقف التنسيق الأمني، ولو أدّى ذلك إلى اختراقات إسرائيل المتكرّرة لمناطقها، أو لمعاقبة قادتها"، مفسرًا ذلك بأنّ أي شعب "يسعى للتحرر يجب أن يثبت قدرته على التنظيم الذاتي".
ثمّة ظروف مشابهة لما يدعو إليه بشارة مرّت بها التجربة الفلسطينية منذ حرب يونيو/ حزيران 1967، إذ لم تتوقف البلديات الفلسطينية عن تقديم خدماتها للجمهور. لكن هل ستتخذ السلطة الحالية الترتيبات للقيام بهذا الدور الجديد؟ أم أنّ إسرائيل والمستفيدين من تعاونهم معها سيفرضون بقاء السلطة ومهماتها الأمنية الضرورية للأمن الصهيوني، وإيجاد سلطة بانتوستانات متأسرلة مهمتهما مساعدة الاحتلال في إحكام قبضته على الشعب الفلسطيني، وإبقاء منظمة التحرير الفلسطينية رهينةً لها، وهو ما قد يستدعي برنامجًا مختلفًا قوامه عدم الاعتراف بهذه السلطة، والنضال من أجل إجراء انتخابات بلدية ستشكّل هي ومؤسسات المجتمع المدني تلك السلطة البديلة التي يتحدّث عنها بشارة، وهو جزء من النضال الطويل للشعب الفلسطيني.
يؤكد عزمي بشارة ضرورة "إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، لتتولى القيادة السياسية للشعب الفلسطيني"، بعد فصلها تمامًا عن السلطة الفلسطينية، متسائلًا عمّا يمكن أن يفعله فلسطينيو الخارج، وهم كلما أقدموا على مبادرةٍ "يُتهمون فورًا بأنهم يقيمون بديلًا من منظمة التحرير"، مقترحًا، في ظل شلل المنظمة الحالي، أن "يُعقد مؤتمر وطني جديد تتولد منه قيادة سياسية". ويبدو أنه، ومن غير الإشارة إلى ذلك، يتحسّب من عدم إقدام الجهة المنوط بها هذا الأمر عليه، فيدعو إلى تشكيل "قيادة سياسية مؤقتة للتحضير للمؤتمر" من الفصائل المركزية وشخصيات مستقلة.
كما أن إعادة بناء منظمة التحرير سيؤدي إلى الوحدة، بعد أن فشلت جميع جهود المصالحة الفلسطينية، إذ "لا طريق إلى الوحدة سوى إعادة تعريف وظائف السلطات الفلسطينية بتحرّر من الإملاءات والشروط الواردة في الاتفاقات، وتحويل السلطتين إلى مؤسساتٍ تعترف بقيادة سياسية واحدة"، حينها سيكون هناك "قيادات محلية تتمتع باستقلالية بشأن قضاياها الاجتماعية ومواطنيها، وإطار جامع يحدد الأجندات الوطنية الجامعة".
"الخصم هو نظام الأبارتهايد"
يعتبر عزمي بشارة أنّ الأبارتهايد ينطبق على واقع الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما ينطبق على اللاجئين وعلى الفلسطينيين داخل أراضي عام 1948، إذ إنّ "الفصل العنصري اتخذ عام 1948 شكل الطرد والتهجير"، "ويتخذ الفصل حاليًا شكل الاحتلال والتمييز العنصري"، وذلك يتطلب أن "ينخرط الفلسطينيون في أماكن وجودهم كافة في المعركة ضد نظام الأبرتهايد العنصري، وهذا يحتاج إلى درجةٍ عاليةٍ من التنظيم والتنسيق، من دون التنازل عن خصوصية كل تجمع فلسطيني، وطبيعة جبهة المواجهة التي يخوضها". كما يحتاج إلى "إنشاء مؤسّسات سياسية بأفق جديد وبرامج جديدة"، تتعامل مع "واقع فصل عنصري (أبارتهايد)، وتبني النضال على جبهاتٍ مختلفةٍ ضد العنصرية الصهيونية". ويدعو بشارة إلى "النجاح في بناء المؤسسات الاقتصادية والتعليمية والصحية، وتعزيز مقومات الصمود والعيش في الضفة الغربية (بما فيها القدس) وقطاع غزة، وداخل أراضي 1948، والدول العربية والشتات، والتشبيك بينها، للاسترشاد ببرنامج سياسي في الصراع مع نظام الأبارتهايد". فهذه "بمجملها صيرورة تقدّم إلى الأمام في هذه المعركة".
ما هي نتيجة النضال ضد نظام الأبارتهايد العنصري؟ الإجابة يتركها بشارة مفتوحةً على احتمالات متعدّدة، ستحددها صيرورة النضال ذاته، فالنضال ضد واقع الأبارتهايد في فلسطين يمكن أن يؤدّي إلى "تحقيق المساواة بين العرب واليهود في كيانين قوميين، تجمعهما مواطنةٌ واحدةٌ متساوية، بعد الاعتراف بالغبن التاريخي الذي وقع على الفلسطينيين، كما يمكن أن يقود على نحو جدلي إلى الاقتناع بدولتين. المهم ألّا يكون مجرّد (حل دولتين لشعبين) لتخليص الصهيونية من (الخطر الديمغرافي)، بل أن يطبّق في إطار العدالة لشعب فلسطين في أماكن وجوده كافة".
تعني الاقتباسات السابقة أنّ الاستراتيجية الفلسطينية في هذه المرحلة قائمة على أساس النضال ضد نظام الأبارتهايد الصهيوني، والذي يشمل الشعب الفلسطيني كله، ولا خلاف على ذلك، مع ضرورة إيضاح بعض التفصيلات، منها أن مطالب هذا النضال "ديمقراطية، كما كان نضال المؤتمر الوطني الأفريقي ضد نظام الفصل العنصري". أظن أنّ مفهوم الديمقراطية هنا يحتاج إلى توضيح لآلياته، فالديمقراطية السائدة في فلسطين هي ديمقراطية مستوطنين ضد الآخر الفلسطيني، ولم تمنع استمرار الاستيطان، ومصادرة الأراضي، والترحيل. ولعل المقصود هنا بالنضال الديمقراطي هو أشكال النضال الشعبي السلمي وطرائق تنظيمه. وقد فصّل عزمي بشارة ذلك، حين تحدث عن أنه "رهان فاشل وبائس حين يقوم على وهم أنّ حكومات إسرائيلية يمكن أن تستند إلى أقلية يهودية، وأصوات عربية، لحسم قضايا مثل الحرب والسلام والمفاوضات. هذا رهان يقوم على سوء تقدير لمعنى صهيونية إسرائيل، وعلاقتها بمحيطها، عدا عن أن هذا الرهان يشجع العرب على الأسرلة في دولة تعرف نفسها بأنها يهودية ودولة اليهود".
الكفاح المسلح
الكفاح المسلح المنظم "كان فصلًا مجيدًا في النضال الفلسطيني"، وقد حقّق منجزات "على مستوى الكيانية السياسية الفلسطينية، وبلورة الهوية الكفاحية الفلسطينية، وتنشئة جيل واعٍ سياسيًا، ومنظم في المخيمات". وإذ يقدّر بشارة ذلك الحنين إلى الماضي، إلى "أيام الكفاح المسلح على الحدود التي تدفئ قلوب المخضرمين الذين ناضلوا بإخلاص، وقدّموا التضحيات"، فإنه يشير إلى أنّ الواقع العربي الذي أوجده "على حدود فلسطين، لم يعد قائمًا، ونشأ واقع مناقض تمامًا". وهو يميّز بين الكفاح المسلح المنظم و"العمليات المسلحة الفردية المستمرة التي تثبت أنّ الشعب الفلسطيني ما زال حيًا"، و"قوى حركة حماس المسلحة شبه النظامية، المستعدة للدفاع عن قطاع غزة"، والتي يصفها بأنها "إنجاز مؤسّسي"، "لكنها ليست استراتيجية تحرير". فشل الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية في إنجاز التحرير، وكذلك فشل الحروب العربية، لكل منها سياقاته الخاصة به، لكني أتفق على أنّ الكفاح المسلح لا يشكّل الحلقة المركزية الآن، على اعتبار أنّ الحلقة المركزية هي النضال ضد الأبارتهايد الصهيوني، ففي كل مرحلة ثمّة وجه رئيس لشكل النضال وأساليبه، فلم يكن جائزًا ولا مفيدًا في ظل الانتفاضة الأولى، أو وسط حراك جماهيري، أن يتم استخدام السلاح، لكن يبقى من حق الشعب الفلسطيني استخدام جميع الوسائل لتحقيق مشروعه الوطني، وهو الذي يختار شكلًا أو أكثر في كل مرحلة، من دون الإخلال بحقه في استخدام جميع الأشكال المتاحة، ولا شك في أنّ اختيار أشكال غير مناسبة في مراحل محددة قد يلحق أضرارًا بالمشروع الوطني.
فلسطين قضية عربية
هل فلسطين هي قضية العرب الأولى؟ يجيب عزمي بشارة بنعم، "حين يجتمع العرب باعتبارهم أمة"، مع ملاحظة أنّ لكل من الشعوب العربية قضاياها، مثل "الاستبداد، الطائفية، الإفقار، التدخل الخارجي"، ففلسطين "أصبحت مكونًا في هوية الأمة العربية". ويحدد أشكال الخطر الإسرائيلي على الدول العربية، فهي "تهدّد سيادة كل دولة عربية على حدة"، وتدعم "النزعات الانفصالية"، وتعبث "في العلاقات بين العرب وجيرانهم في أفريقيا وآسيا"، وتعتدي
"على سيادة دولهم التي يُفترض أن تخضع لشروط إسرائيل في سياستها الخارجية"، وتفرض عليهم رؤيتها لـ "تقسيم المنطقة بين متطرّفين ومعتدلين"، كما تفرض "نموذج الدولة الطائفية، بوصفه حلًا للصراعات، بحيث تهمّش الهوية العربية، وتكون دول المنطقة كلها طائفية" وفق نموذجها. مؤكّدًا أن التطبيع مع إسرائيل لا يحل "أي مشكلة اقتصادية أو اجتماعية"، و"ربما يكون مصدرًا لأزمات اجتماعية وسياسية"، مفندًا الوهم القائل إنّ "التطبيع مع إسرائيل يتجاوز أخطاء تلك الأنظمة على الساحة الدولية"، والتي تروّجها أنظمة لنيل الرضى الأميركي، والصمت على انتهاكاتها بحق شعوبها عبر البوابة الإسرائيلية". وهنا يطرح سؤال حول الموقف "حين تدور من حولك نضالات عربية ضد الاستبداد"، ليجيب بأنه "ليس مطلوبًا أن تخاصم هذه الأنظمة، إذا لم تستطع التعبير عن موقفٍ واضحٍ ضد الاستبداد في الوطن العربي فاصمت على الأقل، والكل سيقدّر ظروفك إذا صمت".
أما القيادة الفلسطينية، فإن عليها "بدلًا من التهاون مع التطبيع، والتشجيع عليه أحيانًا، عليها أن تضع برنامجًا مشتركًا للعمل الدبلوماسي العربي المشترك بشأن القضية الفلسطينية، ينطلق من رفض رؤية ترامب – نتنياهو. هذا المسعى يتطلب نبرة نضالية، لا نبرة مستسلمة للتطبيع".
بين حل الدولة الواحدة وحل الدولتين
هذا نقاش مستمر، منذ طرحت منظمة التحرير الفلسطينية شعار الدولة الديمقراطية التي يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود في فلسطين كلها، ثم انحازت عن هذه الفكرة إلى حل الدولتين، لكن تعثر تطبيقه وفشل تمامًا، ما دفع نُخبًا عديدة إلى المبادرة بالعودة إلى رفع شعار الدولة الواحدة، بينما لجأ بعض أنصار السلطة الفلسطينية إلى التلويح بحل الدولة الواحدة، ظنًا منهم أنهم بهذا الطرح يحملون الصهاينة على العودة إلى مشروع حل الدولتين، هربًا من المتغيّر الديمغرافي. كما استغله بعض المنغمسين في علاقاتهم مع الاحتلال لتبرير عدم إثارة قضايا مثل الاستيطان والضم والاحتلال، ما دامت الطريق تسير باتجاه الدولة الواحدة، متناسين أنها ستكون دولة واحدة يهودية صهيونية. بينما اعتقد مثقفون آخرون أن من واجبهم المناداة بحل إنساني على الضحية أن تقدّمه إلى جلادها.
في ظل هذا النقاش، يقدّم عزمي بشارة رؤيته المختلفة والجريئة حول هذا الموضوع، فيرى
بشارة: لا يمكن تفكيك البنية الصهيونية دون انخراط اليهود أنفسهم في هذه العملية، وهي عملية طويلة الأمد، وتحتاج إلى صبر وتنظيم
ابتداءً أنه "لا يفترض أن ينشغل المثقفون والباحثون الفلسطينيون حاليًا بالتفكير بـ "أوتوبيا" الدولة الواحدة كأنه حل بديل، والاستنتاج من ذلك أنّ المهمة تكمن في إثبات فشل حل الدولتين". "وكأن الإسرائيلي الذي رفض حل الدولتين وعرقله، وهو الطرف القوي في المفاوضات، يمكن أن يرضى بحل آخر هو التنازل عن امتيازاته في الدولة اليهودية ليعيش في دولة واحدة لشعبين"، مؤكدًا أنه لا يتحدث "بمنطق الحلول، فليس الشعب الفلسطيني منطويًا في مفاوضات يمكن أن يطرح فيها (حل الدولة الواحدة)، نحن لا نتحدّث عن حل تفاوضي بعد، بل عن نضال ضد الأبارتهايد"، وما هو مهم هو "أن تتبلور صيغة النضال ضد الأبارتهايد، ولتحقيق العدالة في حراك وطني عام يحمل برنامجًا ديمقراطيًا يمكن توجيهه لليهود والعرب على حد سواء، هذا هو الإطار الشامل".
ماذا يعني ذلك؟ وهل هي الدولة الواحدة؟ لا يجزم بشارة بذلك، "إنه يعني النضال الوطني الديمقراطي من أجل العدالة والمساواة التي لن يتبيّن نموذج نظامها السياسي إلّا من خلال النضال وعملية حوار طويلة بعد قبول مبدأ العدالة"، الممكن وصفه بأنه "نضالٌ من أجل الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني والمساواة لأفراده، من دون إنكار تشكّل شعب آخر في فلسطين، وإن كان مسار تشكّله استعماريًا"، والغاية "تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني المقهور والمسلوب الأرض والوطن". وهو "شعبٌ قائم، بلور هويته القومية العربية والوطنية الفلسطينية، ومتمسّك بها، وبسرديتها التاريخية ورموزها، ولن يتنازل عن هويته القومية والوطنية". وفي فلسطين نشأت "قومية يهودية إسرائيلية عبرية اللغة والثقافة، هذا كله تم خلال مشروع استعماري استيطاني". لذا فإنّ "أي تسوية عادلة في المستقبل سوف تضطر إلى الاعتراف بوجود قوميتين، وكل ما تقوله فكرة الدولة الواحدة هو أنهما أصبحتا غير قادرتين على الانفصال والعيش في دولتين، وعليهما أن تجدا صيغة للعيش سوية بمساواة، ويجب إقناع الفلسطينيين واليهود بذلك، وهذا يتطلب نضالًا دؤوبًا ومثابرًا".
لا يحسم عزمي بشارة في شكل تلك الدولة التي ربما تكون "دولة واحدة تعترف بقوميتين متميّزتين ضمن حدودها"، وهي "لن تكون دولة ديمقراطية علمانية اندماجية كما يتخيلها البعض، فقد تتخذ شكل دولة واحدة ثنائية القومية، أو دولتين كل منهما دولة لجميع مواطنيها، بحيث تحتفظ الدولة الفلسطينية بطابعها العربي والدولة الإسرائيلية بطابعها اليهودي، وحل قضايا اللاجئين والجنسية". أما شرط تحقيق ذلك فيتمثل في دعم "أغلبية المواطنين اليهود والعرب، فلا يمكن فرضها عليهم، يجب أن توجد ظروف تدفع الأغلبية إلى مثل هذا القبول، والنضال جزء من عوامل نشوء هذه الظروف". "لا يمكن تفكيك البنية الصهيونية دون انخراط اليهود أنفسهم في هذه العملية، وهي عملية طويلة الأمد، وتحتاج إلى صبر وتنظيم"، وهذا
من نقاط قوة الشعب الفلسطيني: وجوده "على أرضه"، و"عدم تسليمه بواقع الاحتلال"، و"عجز الولايات المتحدة وإسرائيل عن فرض رؤية ترامب – نتنياهو عليه
يقتضي مخاطبة أوساط أوسع فأوسع من الرأي العام الإسرائيلي، والتعاون مع قوى يهودية "ليس على إحياء المفاوضات وإسقاط اليمين وغيره، بل على العدالة في فلسطين، ومستقبل العيش سويًا، من دون نظام صهيوني حاكم. وهذا مختلفٌ تمامًا عن الحوارات الجارية من أجل السلام، فموضوع الحوارات الجارية بموجب هذا النهج ليس هو السلام، بل العدالة في ظل نظام غير صهيوني".
والأولوية الآن ليست لاقتراح الحلول، بل "للنضال الديمقراطي لتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني" الذي يتمتع بنقاط قوة عديدة، منها وجوده "على أرضه"، و"عدم تسليمه بواقع الاحتلال"، و"عجز الولايات المتحدة وإسرائيل عن فرض رؤية ترامب – نتنياهو عليه"، و"استمرار النضال"، و"بناء المؤسسات" لتعزيز الصمود، و"حصول انقلاب مهم في أوساط واسعة في الرأي العام العالمي"، و"المبادرات الشبابية التي تعبّر عن أن الشعب الفلسطيني حي، وأهمية المبادرة لتجميعها ليكون لها قول في السياسة الفلسطينية".
هذه رؤية عزمي بشارة لمستقبل المشروع الوطني الفلسطيني، وهي رؤية شاملة يمكن البناء عليها، بعد إخضاعها لنقاشٍ واسع، ووضع الآليات اللازمة، وتحديد أساليب العمل في مجالاتها المختلفة، وبرامجها المتعدّدة في أماكن انتشار الشعب الفلسطيني، ومع المناضلين العرب ضد التطبيع، ومع الأصدقاء المؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية، الشركاء في مقاومة نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري في العالم كله.