نشوء الطائفية كظاهرة سياسية اجتماعية في السياق العربي مبحث ينشغل به المفكر العربي عزمي بشارة منذ فترة حيث ظهر أثر ذلك في مقالاته، كما تقاطع مع محاور مؤلفات سابقة مثل "في المسألة العربية: من أجل بيان ديمقراطي" و"هل من مسألة قبطية في مصر؟"، وكل ذلك ضمن انشغال أعمّ بأبرز الظواهر والمفاهيم المؤثرة في صناعة الواقع العربي.
بعنوان "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة"، صدر هذا الشهر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب جديد لبشارة يسعى فيه إلى تطوير نظرية في الطائفة والطائفية تقوم على مقارنة واسعة لتواريخها الاجتماعية والفكرية وديناميتها الداخلية.
يعدّ الكتاب نتاج بحثٍ نظري وتاريخي في ظاهرتَي الطائفة والطائفية بمنهجٍ متعدّد التخصّصات، فعلى الرغم من الانشغال بالطوائف والطائفية إلى درجة استحواذها على الخطاب اليومي للرأي العام، لم يتطوّر البحث العلمي في هذا الموضوع، فضلاً عن تطوير نظرية في فهمه وتفسيره انطلاقاً من الواقع العربي.
يتساءل بشارة عن حدود النظريات الاجتماعية السائدة بهذا الشأن، ويجد تميّزه في طرح مفهوم للطائفية قوامه نقد مفاهيم الطائفة والطائفية، وإدماج أطروحة الطوائف المتخيّلة في فهم هذه الظواهر، مناقشاً تطوّرها في التاريخ العربي الإسلامي، ومميّزاً لها من مفاهيم أخرى استخدمت لدراسة تطوّر الجماعات الدينية في السياق الغربي.
يمثّل الكتاب فضاء اشتغال جديدا ضمن مشروع معرفي تراكمي لدراسة تاريخ الظاهرة الدينية وعلاقتها بالعلمنة، وقد صدر له سابقاً جزءان من هذا المشروع بعنوان "الدين والعلمانية في سياق تاريخي".
يستقرئ صاحب "أن تكون عربياً في أيامنا" (2016) نماذج من بلدان عربية مختلفة، مع مقارنتها بنماذج من بلدان أخرى، ويميّز بين الطائفة بوصفها جماعة عضوية (مجتمعا محلّيا) والطائفة بوصفها جماعة متخيّلة هي غالباً نِتاج الطائفية، وليس العكس. كما يبيّن كيف تُنتِج الطائفية، ولا سيّما الطائفية السياسية، طوائف متخيّلة مثل الشيعة والسنّة، ويدرس آليات إنتاجها في مجتمعات مختلفة، وتأثير ذلك في فهم التاريخ باعتباره تاريخ طوائف.
في معرض الإجابة عن أسئلة نظرية فكرية وتاريخية، يركّز الكتاب على عناصر أزمة الطائفية في العالم العربي وإسقاطاتها الاجتماعية الأخلاقية، من خلال تفحّص نماذج تاريخية ومعاصرة، وعلى دور العوامل الداخلية والخارجية فضلاً عن التنافس بين النخب السياسية في صياغة الهوية الطائفية.
بالنسبة لبشارة فإن المشكلة تتمثّل في كون "الطائفية المتولِّدة في الحاضر تقوم عملياً بإنتاج الطوائف بتحويل الانتماءات الدينية والمذهبية هذه إلى جماعات متخيلة تشكّل مرجعية سياسية للأفراد الذين ينتمون إليها"، أي إن الطائفية في عصرنا تنتج طوائفَ هي جماعات متخيلة وهو في ذلك يخالف تصوّرات رائجة تعتقد أن الطوائف تنتج الطائفية.
في مجمله، يضم الكتاب خمسة عشر فصلاً هي على الترتيب: "في إشكالية الطائفية"، و"من اللفظ ودلالاته المتبدّلة"، و"عن التمذهب والتطييف"، و"هل هي جماعية أهلية (مجتمع محلي)؟"، و"الفرقة والافتراق إسلامياً"، و"الصراع الاجتماعي والطوائف والتدخل الأجنبي"، و"في تركيب العصبية الخلدونية على الطائفة"، و"بصدد تاريخية الظاهرة"، و"أصحيح أنها كانت قائمة دائماً وستبقى؟"، و"الطائفية الحديثة: أهي نتاج العلمنة؟"، و"من الطائفية الدينية بما هي جماعة"، و"الطائفية من شكل مشاركة العامة في المجال العمومي إلى عائق أمام هذه المشاركة" و"الأكثرية والأقلية والتسامح"، و"في تطوّر مفهوم الديمقراطية التوافقية وملاءمتها"، و"نموذج العراق".
المصدر: صحيفة العربي الجديد