يمثّل كتاب الدكتور عزمي بشارة "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة" (المركز العربي للأبحاث والدراسات، بيروت، الدوحة، 2020) مرجعاً قيّماً ومفيداً بحق، وتتبدّى أهميته على أكثر من صعيد، بخاصة أنّه جاء في أعقاب تجربة الربيع العربي 2011، ثم الموجة الثانية 2018-2020، ليقوم بمراجعات جوهرية على الصعد: النظري والسياسي والتطبيقي، لفهم ما الذي حدث؟ ولماذا حدث؟ استناداً إلى الأدبيات النظرية الديمقراطية والتجارب التاريخية. ولكن قيمة الكتاب تتجاوز المراجعة النظرية للأدبيات والاتجاهات النظرية التي سادت في أوساط علماء السياسة والسوسيولوجيا والتنمية فيما يخص عملية الدمقرطة، إذ يوظّف بشارة عقليته المنهجية النقدية التحليلية بصورة واضحة في قراءة تلك الأدبيات وتفكيكها ومساءلة أفكار عديدة، حتى يقدّم وجبة دسمة للنظريات الديمقراطية، مع مقارنة ذلك بوقائع من الربيع العربي والتركيز على الفروق والسمات الخاصة بالمجتمعات المختلفة والمتعدّدة والمتنوعة.
يضعنا بشارة في البداية أمام النظريات الكلاسيكية في الديمقراطية، تلك التي أطلق عليها نظريات التحديث السياسي، ولعلّ أبرز منظّريها سيمور ليبست، ومعه تيار من المدرسة السلوكية، منهم باي وألمون وفيبرا وغيرهم ممن وضعوا شروطاً أساسية للديمقراطية مأخوذة بدرجة كبيرة من التجربة الأنغلوساكسونية، بخاصة البريطانية؛ مثل درجة التحضّر والناتج القومي ومعدّل الدخل الفردي ومستوى التعليم والثقافة المدنية السياسية ... إلخ.
ومن المعروف أنّ هذه المدرسة حكمت العلوم السياسية واتجاهاتها بالتحالف مع توجّهات لجنة السياسة المقارنة في الولايات المتحدة التي توجهت نحو أدبيات التنمية السياسية والتحديث، حتى بدأت تبرُز معالم المدرسة ما بعد السلوكية والاتجاهات الجديدة في العلوم السياسية، في الثمانينيات والتسعينيات، ومن ذلك الاتجاه الذي أطلق عليهم الانتقاليون في الديمقراطية، وهو اتجاه مهم وبارز يقدّم تصوراتٍ ومقترباتٍ مغايرة تماماً للتي تبنّتها مدرسة التحديث، وتقوم على تجاوز ورفض الحتميات التحديثية التي تربط التنمية الاقتصادية بالديمقراطية شرطا مسبقا.
يقدّم لنا بشارة تحليلاً مدهشاً في الكتاب للمناظرة المهمة بين التحديثيين والانتقاليين في النظرية الديمقراطية، والقضايا الإشكالية الجوهرية في عملية الانتقال الديمقراطي. وفي مقابل مدرسة التحديث، نجد هنالك المشروع المهم الذي أشرف عليه كل من أدونيل وشميتر، الذي ينطلق من دروس أوروبا الجنوبية وأميركا الجنوبية، والتحوّلات التي حدثت منذ الموجة الثالثة للديمقراطية في منتصف التسعينيات (مع تحفّظ بشارة بوضوح على كتابات صموئيل هنتنغتون؛ إذ يرى أنّها موجات إقليمية وليست عالمية)، بالإضافة إلى مساهمات لينز وسبتيان وباينتجنون مور (البنيوية الوظيفية)، بل يعود بنا بشارة إلى مقال مهم لدنكوارت روستو في أول السبعينيات من القرن الماضي "نحو نموذج ديناميكي للانتقال الديمقراطي"، الذي يضع موضوع "الوحدة الوطنية" أساسا وحيدا وشرطا رئيسا لعملية الانتقال الديمقراطي مقارنة بالشروط والحيثيات العديدة التي وضعها التحديثيون مثل العالم الشهير روبرت دال (وإنْ لم يلتزم حرفياً بموقف المدرسة التحديثية).
وإن كان من الصعب أن نلمّ بهذا الكتاب المرجعي في هذه السطور القليلة، إلاّ أنّني أودّ التركيز على بعض نقاط وقضايا منهجية المهمة التي أضاءها الكتاب، ومن المهم أن يفكّر فيها السياسيون والمثقفون العرب في مراجعة تجربة الربيع العربي فيما مضى، والإفادة منها في المرحلة المقبلة. أولى هذه النقاط أنّ هنالك إجماعاً بين منظّري المدرستين، التحديثية والانتقالية، على أنّ الانتقال الديمقراطي المتدرّج أفضل من الانتقال الثوري، لأنّه يضمن توافقات أكبر وتجنّباً للأزمات التي تأتي مع انهيار الأنظمة السلطوية، والأهم هو القدرة على إيجاد معادلة وصيغة تقبل فيها القوى السياسية المسيطرة سابقاً، أو القديمة، بما تمثله من شبكة كبيرة من المصالح السياسية والاقتصادية مع القوى الجديدة التي تريد التغيير والدمقرطة، لأنّ هذه "الصفقة" لا يوجد فيها رابحون وخاسرون، بل تنازلات من هذا الطرف أو ذاك، بعد الاقتناع أن هذه الطريق هي الأفضل للجميع.
النقطة الثانية مرتبطة بنظرية الانتقال والتمييز بين التحوّل من النظام السلطوي نحو الديمقراطية أولاً، ثم مرحلة تكريس الديمقراطية ثانياً، وهو تمييزٌ مهم، لأنّ المرحلة الأولية للانتقال تكون مرتبطة بتحدّيات جسيمة وكبيرة وأمام مخاطر حقيقية بالانزلاق نحو العودة إلى مسار السلطوية كما حدث في موجات تاريخية ديمقراطية سابقة، ولعلّ سؤال الشرعية والانتقال من المصادر التقليدية لها إلى مصادر جديدة يمثل السؤال الأكثر أهمية، بخاصة عند "نزع السحر" عن الديمقراطية والتوقعات العالية من الانتقال نحوها.
النقطة الثالثة سؤال الثقافة السياسية الديمقراطية، بخاصة مع ترديد التحديثيين العبارة الشهيرة "لا ديمقراطية بلا ديمقراطيين"، وقد وصل روبرت دال إلى القول إنّ الثقافة السياسية هي الشرط الأكثر أهمية في الديمقراطية، بينما يرى فريق من الانتقاليين أنّ الثقافة السياسية ليست شرطاً مسبقاً في عملية التحوّل، بل هي نتيجة لعملية التحوّل، إذ يمكن أن يصل سلطويون أو قوى سياسية ليست ديمقراطيةً بالمعنى الكامل إلى القبول بالديمقراطية حلا وسطا للخروج من أزمات سياسية وداخلية كبيرة.
تتمثل النقطة الرابعة بالاختلاف الجوهري بين مدرستي التحديث والانتقال، إذ بخلاف التحديثيين (وحتمياتهم السياسية)، يرى الانتقاليون أن العامل الحاسم في الانتقال الديمقراطي هي الخيارات الاستراتيجية للنخب السياسية، وهنا تكمن قضايا مهمّة وحاسمة؛ في مقدمتها الأزمة داخل النظام نفسه والصراع المهم والمفصلي بين نخب النظام السياسي. من يتبنّون الرؤية المغلقة ورفض التغيير والإصلاح ومن يؤمنون أن مصلحة النظام هي بإجراءات اللبرلة السياسية والحوار مع القوى السياسية المعارضة، وبالتالي، ينتقل الأطراف الرسميون والمعارضون إلى مرحلة تأسيس ميثاق للمرحلة المقبلة (قواعد اللعبة السياسية الجديدة)، وهي عملية تواجه أخطارا وتحدّيات وقوى تحاول إفشالها من أطراف متعدّدة. وبالتالي، المعركة الكبرى المهمة تكمن داخل النظام السلطوي نفسه في وجود نخبة تواجه النخبة المتمترسة ضد الديمقراطية والتغيير.
ينتقل بشارة في الفصول الأخيرة لتجارب وتطبيقات عملية من العالم الثالث، ويتم التركيز على دور عاملين رئيسين مهمين: العامل الخارجي ودور المؤسسات العسكرية والأمنية، وهي عوامل كانت حاضرة في نظريات التحديث والموجات الديمقراطية السابقة، لكنها تكتسب في العالم العربي، والعالم الثالث عموماً، أبعاداً وديناميكيات أخرى ترفع من أهميتها وخطورتها في عملية الانتقال والتحول.
على العموم، نحن أمام مرجع مهم لا غنى عنه في العالم العربي اليوم، وهو، للأمانة، ما يحسب للدكتور بشارة والمركز العربي، فهذا الإنتاج المعرفي الكبير يساهم كثيراً في تعزيز البحث العلمي وتفكيك المشكلات العربية ووضعها على المشرحة المعرفية والعلمية، وهو جهد غائي، كما يعترف بشارة نفسه، ليس منفصلاً عن وجود رسالةٍ سياسيةٍ وأخلاقية وتاريخيةٍ تتمثّل بدور العلماء والمثقفين والباحثين في إيجاد حلول ومخارج من الأزمات، وتبنّي خيارات استراتيجية مثل الديمقراطية والحرية بوصفها الأفق المستقبلي لإنقاذ الشعوب والمجتمعات العربية من الوحل الراهن.