تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الانتفاضة والمجتمع الإسرائيلي

2002-09-01

عرضإبراهيم غرايبة

في هذا الكتاب يحلل عضو الكنيست الإسرائيلي د. عزمي بشارة، هذا المنعطف التاريخي الذي دخلته القضية الوطنية الفلسطينية بعد انتفاضة الأقصى أو انتفاضة الاستقلال في 28 أيلول/ سبتمبر عام 2000، والذي تمثل في وصول عملية التسوية القائمة عبر اتفاقية أوسلو إلى طريق مسدود ممتنع على الاستئناف، ودخول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي طورا جديدا من الاشتباك المادي المسلح لا سابق له وما تبعه من موجات العمليات الاستشهادية، والقمع الإسرائيلي الوحشي للشعب الفلسطيني وللانتفاضة والذي بلغ حد إعادة احتلال مناطق السلطة وتدمير البنى التحتية الحياتية والمؤسساتية للفلسطينيين والقتل الجماعي والاغتيالات المنظمة وعزل المناطق عن بعضها البعض وعن العالم الخارجي.

إسرائيل منذ اغتيال رابين إلى انتخاب باراك، لا تعبر انتخاباتها عن الموقف من اتفاقيات أوسلو. فالجامع السياسي بما يتعلق بالقضية الفلسطينية في مرحلتها الحالية أو بالموقف مما يسمى الحل الدائم يكاد يجمع بين ميريتس وليكود. وما يحكم الاصطفاف الانتخابي في الشارع الإسرائيلي هو: الموقف السياسي، وموقع الأحزاب الدينية في الدولة، وأصل الناخب وانتماؤه (شرقي، غربي، روسي، مغربي، متدين، علماني).

وقد عمت فرحة كبيرة في نصف المجتمع الإسرائيلي بعد سقوط نتنياهو عام 1999، أكثر بكثير مما حدث بعد سقوط شامير. فقد حاول نتنياهو إحداث انقلاب جذري في تركيبة النخبة الإسرائيلية الحاكمة. بينما اكتفى شامير بالحكم وبتغيير السياسة لصالح اليمين، وتجميد العملية السلمية دون أن يمس المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة. كما جاء نتنياهو ببرنامج طموح لتغيير النخب القائمة بدءا من ليكود نفسه وانتهاء بالصدام مع النخب الأكاديمية والثقافية والقضائية، بالتحالف مع عنصر هامشية في المؤسسة الإسرائيلية، مثل الأحزاب الدينية والأثرياء السماسرة غير المنتجين الذين يعملون في المنطقة الرمادية بين القانوني وغير القانوني.

وقد تكون العوامل الثقافية والنفسية أكثر أهمية في تفسير التحولات الجارية في إسرائيل، فقد كان اغتيال رابين على سبيل المثال ذا أثر كبير في المجتمع الإسرائيلي، وقد تركت مرحلة نتنياهو هذا الجرح مفتوحا ونازفا.

وكشفت الانتخابات الإسرائيلية عن مجموعة من الظواهر الجديدة، مثل: تراجع شعبية وتأثير الأحزاب الكبيرة التقليدية، وتنامي قوة حركة شاس لتصبح الحزب الثالث في إسرائيل بعد العمل وليكود، وزيادة عدد الكتل البرلمانية أي التشظي والتشتت السياسي والانتخابي، وانخفاض قوة حركة مفدال الدينية التقليدية بسبب انقسامها.

الأفق السياسي للانتفاضة
هل قدر للشعب الفلسطيني أن يناضل من دون أفق سياسي؟ يتساءل المؤلف، ملاحظا أن شعوبا أخرى حققت الاستقلال بأقل من نصف ما قدم الشعب الفلسطيني من تضحيات ووقت.

لقد رفض الفلسطينيون إملاءات باراك، ويعتبر هذا الرفض إنجازا سياسيا للقيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني. ولكن الفلسطينيين لم يتقدموا ببرنامج سياسي لتحقيق السلام العادل والدائم كعنوان للانتفاضة، ولم يعد بالإمكان التقدم ببرنامج سلام من هذا النوع من دون تنسيق مع سوريا ولبنان. وباقتراح السلام الشامل مع سوريا ولبنان والشعب الفلسطيني سيحدث اختراقا للرأي العام الإسرائيلي والأوروبي والأميركي، ومن المفروض أن تجد مثل هذه المحاولة غطاء مصريا وأردنيا.

ولا طائل من وراء تمني النفس أن شارون قد تغير، وليس بالإمكان التقدم على المسار الفلسطيني إلا بالقبول لمرحلة انتقالية طويلة المدى، وتكريس حالة "البنتوستان" مع الاستمرار في التوسع الاستيطاني. وليس لدى شارون برنامج سياسي آخر، ولا تهدف مناوراته إلا لكسب الوقت وتوسيع هامش المناورة الدولي، لقمع الانتفاضة أو لإبقائها في حدود الممكن تحمله إسرائيليا مدة طويلة.

هناك وضوح سياسي نادر لدى شارون، وهو يستطيع تشخيص الحالة الإسرائيلية بدقة، ولا مكان للاعتقاد بإمكانية العودة إلى تنفيذ إسرائيل التزاماتها من اتفاقات أوسلو المتعاقبة. وقد انتهت هذه اللعبة بنظر شارون، ولم تعد المرحلة الانتقالية تستمر عاما أو عامين من أجل العودة إلى مفاوضات الحل الدائم، ولكنها مرحلة حقيقية غير محدودة بالزمن بل بتحقيق الأهداف.

وقد كشفت الانتفاضة عن ظاهرة جديدة تمثلت في هبة شعبية عارمة، قام بها الشعب الفلسطيني ممن بقوا على أرضهم في إطار المواطنة الإسرائيلية. وقد تعاملت أجهزة الأمن الإسرائيلية مع الاحتجاج السياسي الغاضب لعرب 48 كعمل عدائي بكل ما يحمله هذا التعبير من معان، وبدا أنها تنفذ سياسة مبنية على دروس استخلصت من تحليل ظاهرة الكفاحية المتزايدة لدى المواطنين العرب. ويبدو أن الدرس الذي تم استخلاصه هو ضرورة زيادة منسوب القوة القمعية، بما في ذلك إطلاق النار بهدف القتل.

سقوط باراك

لم يعد كافيا لفهم ما يدور في إسرائيل تحليل الاختلافات والاتجاهات الانتخابية بين اليمين واليسار، وبين تيارات اليمين المختلفة رغم صحة هذا التحليل. فالمهاجرون الروس على سبيل المثال وهم خمس السكان في إسرائيل يعيشون صراعا بين نزعتين: تؤكد الأولى على أهمية نمط الحياة العلماني، وبين نزعة أخرى علمانية تضع الصراع مع العرب في المرتبة الأولى.

وتبدي حركة شاس موقفا أقل تشددا في القضايا السياسية. وعندما تمحورت الانتخابات الأخيرة عام 2001 حول القضايا السياسية، خشيت الحركة أن تذهب أصوات جمهورها إلى ليكود، فعارضت حل الكنيست وإجراء انتخابات برلمانية تجنبا لمجيء ليكود على حسابها.

ولكن شارون تفوق على باراك، وتبين أن الأخير لم ينجح عام 1999 بجهوده الشخصية فحسب، وإنما كان نجاحه حصيلة تجند قوى وأحزاب كثيرة لم تتجند في انتخابات رئاسية دون انتخابات برلمانية. ثم إن باراك خسر عندما استهل فترته في السلطة بمواجهة مع حزبه "العمل"، أدت إلى تآمر أقطاب الحزب عليه في الكنيست وفي الائتلاف. وخسر أيضا عندما تعامل مع المواطنين العرب وكأنهم في جيبه، وعندما حاول أن يفرض تصوره للسلام بموجب جدول مواعيد أعد سلفا.

ونجح شارون لأنه فهم التحول الجاري في المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين. ويرد بعض علماء الاجتماع الإسرائيليين هذه الظاهرة إلى ازدياد نسبة المصوتين من المتدينين والشرقيين لارتفاع نسبة الولادة بينهم. ولكن المهاجرين الروس وهم غربيون في القاموس الإسرائيلي لا يقلون يمينية عن المتدينين والشرقيين، ولذلك فإن هذا التفسير لا يقدر على الاستمرار إلا كوصف لحالة مؤقتة.

وربح شارون لأن أعداءه بعد مرور ثمانية عشر عاما على حرب لبنان كانوا أقل من أعداء باراك ونتنياهو، وفضل الصمت على برنامجه السياسي في أثناء الحملة الانتخابية، وأحاط نفسه بعدد كبير من المستشارين والخبراء يتلخص عملهم بالمحافظة على صمته.

وقد يحاول شارون إضافة مفهوم الدولة وبعض التواصل الإقليمي الفلسطيني بإزالة مستوطنات صغيرة ومعزولة دون التنازل عن القدس أو حق العودة، ولكن هذه الدولة ستتحول إلى "أبارتهيد" وسيكون ذلك مقدمة لصدام مع السلطة.

لقد فضح باراك أمر حزب العمل عندما بين أنه غير قادر على تحقيق المهام التاريخية التي تبرر وجوده، من نوع تحقيق السلام الدائم مع الفلسطينيين. وكان المبرر التاريخي لحركة العمال الصهيونية هو بناء الأمة الدولة. وقد تبين في هذه المرحلة أن حزب العمل لا يعيش أزمة عادية بعد فشله في الانتخابات، وإنما يتخبط في مأزق وجودي، ومن حق الباحث أو المعلق أن يتساءل عن مستقبل هذا الحزب.

صعود شارون

يفكر شارون بحل مرحلي طويل قائم على أنه لا يمكن أن يذهب أبعد من باراك لإرضاء العرب، وعلى الفلسطينيين أن يغيروا وجهة نظرهم. وهذا أمر لن يتم قريبا، فلا بد من مرحلة انتقالية طويلة يخلق الله فيها ما لا تعلمون، وتولد فيها حقائق جديدة على الأرض.

وشارون مضطر لاحترام قواعد اللعبة السياسية في مجتمعه وفي المنطقة، وأن يوفق أيضا بينها وبين المنطق اليميني القائم على ردع العرب ونزعاته الاستيطانية التوسعية.

والاستيطان لدى شارون مستمد من ثيولوجيا دينية، تجد توافقا مع الأميركان الذين هم أيضا مستوطنون استخدموا مصطلحات ومفاهيم مستقاة من العهد القديم، وسموا أنفسهم ومستوطناتهم بأسماء توراتية. فما يجمع بين الإسرائيليين والأميركان ليس المصالح فقط، وإنما الثيولوجيا الدينية الواحدة.

مقاطعة انتخابات 2001

اتفقت الأحزاب العربية الأساسية الفاعلة بالداخل على مقاطعة انتخابات رئاسة الحكومة الإسرائيلية التي جرت في 6 فبراير/ 2001. ولم يخرج عن هذا القرار إلا الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وبعض المرتبطين بالأحزاب الصهيونية -وبخاصة حزب العمل وحزب ميريتس- بالمصلحة أو بالانتماء الحزبي أو بالموقف، ومنهم عرب ليسوا أعضاء في أحزاب صهيونية، ولكنهم لا يستطيعون الفكاك من إسار حزب العمل واليسار الصهيوني كسقف للعمل السياسي داخل الدولة العبرية.

وقد كشفت هذه المقاطعة أن المؤسسة الصهيونية الحاكمة تحتفظ بجيوب مصلحية قوية في المجتمع العربي. ولكنها (المقاطعة) عملت في ظرف سياسي محدد على تنمية الشخصية الوطنية المستقلة لعرب الداخل كجزء من الأمة العربية والشعب الفلسطيني وكأقلية قومية منظمة، والخروج من سقف حزب العمل وعن ابتزاز اختيار أهون الشرين أو الأقل سوءا حتى في سياق السياسة الإسرائيلية. وكانت نسبة التزام الجماهير العربية بقرار المقاطعة تساوي 82% من أصحاب حق الاقتراع.

الأزمة الإسرائيلية

كشفت الانتفاضة عن أزمة حادة تعيشها إسرائيل، وانهارت دعاوى ما بعد الصهيونية التي راجت في الثمانينيات وكانت تتحدث عن تطور المجتمع المدني في إسرائيل وانتصار الفردية والتعددية الثقافية. فقد أثبتت الأزمة أن المرحلة الحاضرة التي تعيشها إسرائيل تدعو للحديث عن ديمقراطية مجتمع استيطاني، يعيش في وعيه على الأقل حالة تناقض وجودي مستمر مع محيطه أو حالة صراع تهدد وجوده الاستيطاني، وعن ديمقراطية في مجتمع استيطاني يهودي يضيف إلى قضية الوجود عقد الغيتو والملاحقة التي تشكل مركبا أساسيا في وعيه الجماعي.

وقد كشف الإعلام الإسرائيلي -في حملته للتعبئة ضد الانتفاضة والمقاومة والمواطنين العرب، ولرفع معنويات الجنود والشرطة- عن عمق أزمة إسرائيل والإسرائيليين نفسيا واجتماعيا وتاريخيا، مثل أن يفتخر جندي أمام وسائل الإعلام بقتله الفلسطينيين بدم بارد ليس بدافع الخوف وإنما الاستمتاع والبحث عن بطولة، وعن اندفاع المجندات لمنافسة الرجال في قتل الفلسطينيين وعن مهارتهن في التصويب ومتعة مشاهدتهم بعد إطلاق النار عليهم، مع التأكيد المستمر والمتكرر أن إطلاق النار لم يكن خوفا من حجارة الأطفال.

وتحتل إسرائيل المكان الأول بين الدول الغربية في نسبة العنف بين الأولاد بالمدارس، والمكان الأول في اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء. ويعتقد 72% من الإسرائيليين أن إسرائيل لا تستخدم عنفا كافيا ضد الفلسطينيين، وأنه يجب زيادة وتيرة القمع. وفي استطلاع للرأي أجرته رئاسة الكنيست، تبين أن معظم الإسرائيليين (86% منهم) لا يثقون بالكنيست مقابل 76% يثقون بالجيش.

فالثقافة السياسية السائدة في إسرائيل ليست ثقافة ديمقراطية تمثيلية، ولكنها ثقافة شعبوية تجعل الجمهور الإسرائيلي الذي يحملها معرضا للديماغوجيا الشعبوية اليمينية.
 
المصدر: الجزيرة نت