ساطع نور الدين
من بيروت بالذات ، تصبح قراءة الكتاب -المرجع مهمة شاقة وممتعة في آن. الابحار في صفحاته ال927 ليس مجرد محاولة لإستكشاف نظرية جديدة تتشكل أمامك، او لإكتساب معارف جديدة ومراكمة وقائع ومقارنات لا بد منها. ثمة تحدٍ إضافي: كيف يتم تفكيك رموز وألغاز واحدة من أصعب القضايا العربية المعاصرة وأعقدها، بشكل علمي يساعد في فهم أحوال اللبنانيين، والعرب عموما ، وفي تقدير موعد الخروج من النفق ، والسير نحو بناء دولة طبيعية، ومجتمع ينتمي الى روح العصر، بدلا من أن يستمر الغرق في المجهول الى ما لا نهاية. في المحصلة النهائية، يرى الصديق الدكتور عزمي بشارة أن تلك النهاية في المتناول. فالطائفة فكرة مفتعلة، والطائفية حالة مصطنعة، والطوائف هي بالتالي كيانات خيالية، تستمد وجودها من العدم، في كل حقبة إنهارت فيها الدولة العربية التي لم تكتسب يوما، صفات الدولة-الامة، وفق المعايير الغربية ألاوروبية تحديدا، وتضافرت عوامل الصراع الداخلي ،على السلطة ليس إلا، مع عناصر التدخل الخارجي الذي كان ولا يزال حاسما في تشكيل الهويات الطائفية في العالم العربي.
لكنها ليست مجرد أمنية يعبر عنها بشارة ، أو صرخة يطلقها في وجه المتورطين في شرذمة أمة وإنحلال مكوناتها. في التاريخ شواهد لا تعد ولا تحصى، وفي العلم براهين قاطعة على أن الطائفة هي غير ما يدعيه المنتمون إليها، وغير ما يزعمه المتعاملون معها بوصفها كيانا سياسيا. وفي الاسلام بالتحديد، هناك ما ينفي الفكرة من أساسها، وفي ديار المسلمين ما ينكر ذلك التوزيع الراهن للهويات القاتلة، لا سيما منها الهويات السنية والشيعية، على أفراد وجماعات فرقها العرق ، السلطة، الخلافة ، القبيلة ، العشيرة، أكثر بكثير مما مزقها المذهب ووضعها على جبهات حرب مشتعلة، تكاد تبدو الآن وكأنها موروثة منذ القدم، ومكملة لحروب لم تتوقف يوما. الشرخ السني الشيعي، هو محور أساسي، لذلك الجهد العلمي الهائل الذي بذله الدكتور بشارة، في كتابه المرجعي:"الطائفة،الطائفية، الطوائف المتخيلة"، الصادر حديثاً عن المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات. والعراق حالة دراسية خاصة إستحقت فصلاً ختامياً مطولاً، ومقدمات موجودة في مختلف الفصول السابقة. وهو ما يبدو أنه بحث واقعي جدا، وتأصيل نظري عملي جدا.
لكنه ، للمفارقة ، انحدار عربي نحو القاع من جهة، وإرتقاء في طبيعة الثنائية الاخرى التي حكمت الهوية العربية في ما مضى، ثنائية الاسلام والمسيحية، وتعايشهما الصعب في المشرق العربي تحديداً. لا يعني ذلك بالضرورة أن ثمة نضوجاً عربياً يتخطى تلك الثنائية، وإشتباكاتها ومنافساتها المتكررة، بل ربما يؤشر الى أن المسيحية العربية في طريقها الى ان تستعيد سيرتها الاولى مع الخلفاء الامويين والعباسيين، بوصفها حكما، وسيطا، رابطا، يمنع الاحتراب الاسلامي، أو على الاقل يحول دون تفاقمه، ويعيد إنتاج الهوية الجامعة لمختلف مكونات الامة، التي كانت في فتراتها الامبراطورية تضم خليطا من الاعراق والقوميات، فباتت عاجزة عن إدارة الخلافات بين أفراد القبيلة أو القرية او الاسرة الواحدة. وتسليط الضوء على هذا الدور، ليس ابتساراً ولا هو توهم. في المشرق خاصة، ثمة ما هو آني . لكنه مفتقد جداً.
وفي التجربة اللبنانية التي يعترف بشارة بصعوبتها، من دون أن يقر باستحالتها، ويتناولها من أكثر من زاوية تاريخية، هناك مختبر صغير، مفتوح، يمكن أن تسقط عليه جميع الاسس العلمية التي بني عليها الكتاب، ولا تجد في أي منها تفسيراً شافياً، لذلك الفشل الدائم في تكوين المجتمع، وبناء الدولة، وفي بلوغ الحداثة المشتهاة، منذ أن إرتسمت الحدود الدولية. والحال أن لبنان يتحدى الكتاب، ويصعب النظرية: وجد البلد لمصلحة طائفة محددة المعالم والعناصر، وتوسعت حدود الدولة حسب المشيئة الاستعمارية، وهو بالمناسبة ما جرى مع غالبية الكيانات الوطنية العربية ، التي لو ترك أمر ترسيم حدودها لطوائفها ومذاهبها لما أختارت الخريطة الحالية، ولإنتهت عملية الترسيم الى كانتونات طائفية شبيهة بتلك القائمة واقعاً في مختلف بلدان المشرق. التحدي اللبناني للكتاب قوي، ثمة طائفة مؤسِسة للكيان، تتصل مع طائفة ضامنة للكيان، وتتفرع منها طائفة حامية للكيان. الادعاء موجود في كتب التاريخ، والحاضر. والتعريف ثابت في الوجدان،راسخ في الاذهان، في الاجتماع ، في التربية، في الثقافة، في الديموغرافيا. كيف تحل هذه المعضلة. نفي الانتماء الطائفي مستحيل، لأنه هو الهوية الحقيقية، والمتوارثة عبر الاجيال. إنكار وجود "الديموقراطية التوافقية" اللبنانية، كما جاء في فصل خاص من الكتاب سهل جداً.
فهذه "الديموقراطية" المزعومة، هي مجرد خدعة يستخدمها اللبنانيون لكي يتباهوا بها أمام بقية أشقائهم العرب، ولكي يتميزوا عنهم.. الكل يعرف ويسلم بان "فيدرالية الطوائف" اللبنانية، هي الاصل وكل ما عداها فروع وهوامش. وهي حالة فريدة في العالم أجمع. لكنها حالة عربية في الاساس وفي المآل. ولعل التعريف اللافت الذي يطلقه الكاتب نفسه، في مقدمة كتابه وفي ثناياه، على "الطائفة" ، هو الدليل العلمي الاهم الذي يمكن تحويله من عنوان لنظرية تتشكل الى جوهر لها: الطائفة هي ،بتعريفها لنفسها، كيان مظلوم، تدعي المظلومية لكي تؤسس لهوية سياسية. لكن هنا أيضا، سؤال جدي: إذا أصبح أدعاء المظلومية شاملا لجميع الطوائف، كما هو الحال في لبنان، فمن هو الظالم؟ القدر الذي وضع تلك الطوائف في جغرافيا واحدة؟ أم المستعمر الذي تسرع في رسم الحدود الوطنية؟ أم الأمة التي عجزت عن إنتاج وتطوير النموذج الوطني والقومي المرتجى؟ لبنان حالة عابرة في الكتاب، الذي يجانب الصراع المذهبي بين سنته وشيعته، وهو صراع حقيقي، يمكن ان يستغرق القرن الحادي والعشرين كله. ولا يفيد معه الطموح القائم والدائم لدولة وطنية مدنية فعلية.
في بعض الدوائر اللبنانية، تفكير بأنه ربما آن الاوان للعودة بلبنان الى ما قبل إختراع فكرة الدولة. الى فيدرالية طائفية حقيقية. وقد كان البلد على وشك القفز الى تلك الهاوية، عندما طرح مشروع القانون الانتخابي الارثوذكسي الشهير الذي يتيح لكل طائفة ان تنتخب ممثليها في مجلس النواب. العراق الذي يجهد الكتاب في تفنيد هوياته المذهبية القاتلة، وقف على تلك الحافة، لكنه إبتعد قليلا الآن. دول عربية متعددة ما زالت تقف هناك، وتمسك بجمر الاسلام السياسي.
المصدر: صحيفة المدن