كلمة المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة في افتتاح المؤتمر السنويّ الأوّل لفرع المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات في واشنطن ويقدّم فيه تحليلًا وافيًا حول الربيع العربي وسياسات الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة.
لقد ظننّا أنّ ما جرى عام 2011 قد أسقط تلك الادّعاءات التي كثيرًا ما نسمعها بخصوص حالة الاستثناء العربيّة باعتبار أنّها "تفسير" لتعثر التحوّل الديمقراطي في البلدان العربية وتأخره.
في ذلك العام شهدت الشوارع والميادين مظاهرات ضخمة، ولم تكن هذه المظاهرات احتجاجًا على سياسة بعينها ولكنّها كانت ضدّ النظام بأكمله، وضدّ ما يقترفه من استبداد وفساد. إن جماهيرية الحراك ومطلب تغيير النظام هو الذي حول الاحتجاج إلى ثورة.
لقد تفاقم غضب الناس وتراكم حيال ما بات معروفًا من سمات مشتركة بين الأنظمة العربيّة: سلالات حاكمة نشأت حتّى في الجمهوريّات وتحالفت مع طبقات جديدة من الأغنياء الجدد والمحاسيب من رجال الأعمال وأزلام السلطة من كل الفئات بالإضافة إلى تغوّل الأجهزة الأمنيّة في الشؤون العامّة والخاصّة للنّاس في الدولة.
كانت مطالب المتظاهرين متعدّدة، فقد رفعت مطالب بتغيير النظام وحفظ كرامة المواطنين وترسيخ قيم العدالة وحكم القانون، وغيرها من القيم التي لا يمكن أن تتحقّق إلا في مجتمع حر في ظل نظام ديمقراطي. وقد طرحت مجموعات واسعة من الناشطين الشباب الديمقراطيّة فعلًا وشعارًا وبرنامجًا سياسيًا.
ظننّا حينها أنّنا نشهد حلمًا يتحقّق.. أمّا اليوم فبتنا نتحدّث عن كابوس من العنف والاحتراب الأهليّ. أعتقد أنّ ثمّة علاقة بين اندلاع العنف وفشل الديمقراطيّة. وثمة نزاع حاد بين الأنظمة العربية ومعارضيها السياسيين أميل إلى وصفه بعبارة استفهاميّة مكثّفة: هل المسؤول عن هذا العنف هو التطلّع نحو التغيير أم الفشل في تحقيق هذا التغيير؟
جذور الفشل
تدّعي الأنظمة ومنظروها وإعلاميوها أن المشكلة تكمن في التطلع إلى الديمقراطية، أما بالنسبة للديمقراطيين فيكمن الجواب في فشل هذه الجولة من عمليّة التحوّل الديمقراطي، والذي يعود إلى مجموعة من الأسباب، على رأسها ردّة الفعل الوحشيّة من الأنظمة القديمة ولجوئها للعنف لقمع المظاهرات وإخمادها. فالمصدر الرئيسي للعنف جاء من طرف الأنظمة الحاكمة غير المستعدة لأي نوع من تداول السلطة أو التنازل عن الامتيازات والتي تحولت إلى تعامل مع البلاد وكأنها مزرعة خاصة.
لقد شهد العالم بأسره أن رأسي النظام الحاكم في كلّ من تونس ومصر قد أجبرا على التنازل عن الكرسيّ والتخلّي عن السلطة. أمّا الديكتاتوريات الأخرى في المنطقة فقد استنتجت من ذلك أنّ هذين النظامين لم يستخدما القدر اللازم من العنف ضد الثورات. فأي مظاهرات سلميّة يمكنها أن تصمد أمام إطلاق النار، لو جرى قمعها بشكل منهجي؟ هذه هي الخلاصة التي توصّل إليها بشار الأسد والقذافي وعلي عبد الله صالح.
وهذا هو "المنطق" الذي يتبعه بشّار الأسد حتّى اليوم والذي يتجلّى يوميًّا في استخدامه القوّة العسكريّة الغاشمة بدءًا بإطلاق النار بشكل منهجي، ونهاية بالسلاح الثقيل والغارات الجوية ضدّ شعبه بعد أن أصبح مسلحًا. لقد تحوّل جيشه إلى ميليشيا للنظام. بل إنّ هذا المنطق قد ذهب في الواقع أبعد من ذلك، حيث جرى استغلال الظروف في تلك المجتمعات المتعدّدة إثنيًا ودينيًّا فراح النظام يستخدم الانتماءات والولاءات الفرعية في الدولة كي يحوّل انتفاضة شعبيّة سلميّة إلى حرب أهليّة بواسطة الاعتماد على الولاءات الفرعية في أجهزة الأمن وسلك الضباط.
لكن ما افترضته هذه الأنظمة ليس صحيحًا. فلم يكن بمقدور النظام في مصر أو تونس استخدام قدر أكبر من العنف ضدّ المتظاهرين، وذلك لأنّه قد كانت لدى الجيش هناك مخطّطات أخرى.
ففي الحالة التونسيّة كان النّظام قد همّش الجيش ولم يوله أيّ اهتمام (من ناحية أعداد المجنّدين والميزانيات المخصصة للجيش بل وحتّى على مستوى المعدّات العسكريّة) مقارنة بما كانت تحظى به أجهزة الاستخبارات، فكان الجيش فعليًّا خارج المشهد السياسيّ.
أمّا في مصر، فكان الجيش يخشى من نشوء حكم وراثي مدنيّ متحالف مع طبقة جديدة من رجال الأعمال (وهذا توجّه سائد في جمهوريات عربيّة مثل ليبيا وسوريا واليمن) وهذا ما شكّل تهديدًا للامتيازات الاقتصاديّة التي ينعم بها الجيش هناك. ولهذا تمهّل الجيش حتى حانت الفرصة الملائمة للاستيلاء على السلطة مجدّدًا، لأنّه كان يخشى أن تحرمه الديمقراطيّة من امتيازاته الواسعة في البلاد.
من جانب آخر، رأينا كيف سادت حالة من عدم التنظيم بين الشباب الثائرين، إذ شعر الشباب بأنّ دورهم قد انتهى حين شهدوا سقوط النظام.
كما سادت حالة من الخلاف والتنافس بين النخب السياسيّة التقليديّة حتّى قبل أن يتوصّلوا إلى تفاهم حول تعريف الديمقراطيّة رغم ادّعاءاتهم بأنّهم معنيّون بالقيم الديمقراطيّة، التي نادى بها الشباب في الميادين. فتنافست هذه النخب وتخاصمت للإمساك بحكمٍ لم يصبح في يدهم بعد، وقبل الاتفاق على مبادئ النظام الجديد، وحتّى قبل أن يتأكّدوا من سقوط النظام السابق.
أسئلة وجوديّة
تمخّض مسلسل الخلافات والنزاعات التي كشفت عن مستوى العداء بين النخب السياسيّة عن ثلاث قضايا أساسيّة ما يزال من الضروريّ تناولها على ضوء التطوّرات المتلاحقة:
1 ـ عدم كفاءة النخب السياسية التقليديّة المعارضة وغياب قدرتها على التوصّل إلى تسويات بخصوص قضايا مفصليّة. حتّى أنّ الأمر ذهب بهم حدّ التنافس للاصطفاف مع الجيش أو الأجهزة الأمنيّة نكاية في منافسيها.
لم تتفق هذه النخب السياسية المعارضة على المبادئ الديمقراطية للنظام الجديد مع الحفاظ على الخلاف في كافّة القضايا الأخرى. فلم يعد ثمة سقف يجمعها للاختلاف تحته.
لقد قلت في كتابي "في المسألة العربية" إنّ ما يعيق التحوّل الديمقراطيّ ليس ثقافة المجتمع وإنّما الثقافة السياسيّة لدى النخب. وقد أكّد هذا ما شهدناه من أحداث خلال السنوات الخمس الماضية. كما ذكرت في هذا الكتاب الذي نشر عام 2007 إنّ الثورات بذاتها لا تضمن نشوء الديمقراطيّة، فالثورات قد تؤدّي إلى الفوضى وإلى الحرب الأهلية أو العودة للنظام السلطوي. فلا يمكن للثورة أن تؤدي إلى تحوّل ديمقراطيّ إلا بتقديم برنامج للإصلاح الديمقراطيّ تتّحد القوى المطالبة بالتغيير من أجل تطبيقه. فثمة علاقة جدلية بين الثورة والإصلاح، ويخفق من يعتبرهما نقيضين.
2 ـ لقد أظهرت الحركات الإسلاميّة توجّهًا إشكاليًّا في العديد من القضايا التي يلزم التعامل معها في أي تحوّل ديمقراطيّ في المستقبل: أ- الالتزام بالمبادئ الديمقراطيّة وعدم اختزالها بفكرة حكم الأغلبيّة، ب- إدراك أهمّية الحريات المدنيّة لدى قطاعات متزايدة في المجتمعات العربيّة.
يمكن القول إنّ قضيّة الإسلام السياسيّ قد كانت من الأسباب الأساسيّة لفشل هذه الجولة من التحوّل الديمقراطيّ. ولا أقصد هنا أنّ الناس كانوا خائفين من الأسلمة أو "الأخونة" كما يدّعي البعض، ولكن كان ثمّة تخوّف من توجّه جماعة الإخوان المسلمين كجماعة منغلقة تشبه الطائفة أكثر مما تشبه الحزب السياسي، و ليس لديها التزام قاطع باحترام الحريّات المدنيّة.
لقد كانت الكارثة في نشوء حالة من الاستقطاب في المجتمع خلال هذه الفترة الانتقالية العصيبة بين العلمانيّة - كنمط حياة لا أيديولوجيا- والحركات الإسلامية السياسيّة، حتى تحوّل الأمر إلى شكلٍ من سياسات الهويّة. فما حدث ليس تعدّدًا سياسيًّا وإنّما حالة استقطاب وانشطار مجتمعيّ. والنتيجة هي أنّ الأطراف المتناقضة لم تتورّع عن اللجوء إلى اصطفافات مع الجيش أو حتّى النظام القديم في غمرة التنافس والخلاف بينهم.
3 ـ الجيش في السياسة: لا يتّسع المقام هنا لشرح الفرق في هيكلية الجيوش في الدول العربيّة وخلفياتها الاجتماعية والتاريخيّة ومقدار انخراط كلّ منها في السياسة، ولكن تبقى هذه إحدى القضايا التي يطرحها فشل هذه الجولة من التحوّل الديمقراطيّ في المنطقة.
إنّ سبب هشاشة الدول العربيّة ليس في ضعف بناء المؤسسات فيها وحسب، بل يمكن تفسيره كذلك على ضوء قضايا تاريخيّة إشكاليّة تتعلق بشرعية الدولة الوطنية والنظام الحاكم في كلّ منها أو غيابها. ولذلك فإن الأيديوجيات البديلة المهمينة غالبًا ما تكون أيديولوجيات متجاوزة للدولة. لقد أثبتت الهوية العربيّة مجدّدًا أنّها تؤدي دورًا أساسيًّا كهويّة ثقافيّة وطنيّة ترفض الطائفيّة، وحين أُضعفت هذه الهويّة العربية تعززت الطائفيّة السياسيّة.
سياسات أوباما
كانت منهجيّة أوباما في الشرق الأوسط من بداية فترته الرئاسيّة تتّسم بالسطحيّة، وبضحالة التفكير والرؤية (بخلاف سياساته في مناطق أخرى)، فكان لديه تبرير شعبويّ سريع يكون عادة بمثابة ردّة فعل تبسيطية على ما كان يفعله سلفه في البيت الأبيض (وأعني هنا أنّ أوباما كان يفعل عكس كلّ شيء كان يفعله الرئيس بوش).
لقد كانت تلك التبريرات تعتمد على صور نمطية تشكّلت لدى الليبراليين الغربيين عن الشرق الأوسط: وصف كل شيء بأنّه "صعب، ومعقّد، ومتشعّب بطرق مستحيلة"، يرافقه ذلك توجّه من قبيل "ليس من مصلحة أحد العبث مع إسرائيل، أو إزعاجها، أو إغضابها!"
لقد أدار أوباما ظهره للقضيّة الفلسطينية بعد أول "لا" سمعها من إسرائيل، بل وبلغ الأمر أن كافأ إسرائيل بجوائز لقاء سياسات الفصل العنصريّ الكولونيالي التي تتبعها في فلسطين.
لقد ذهب أوباما لزيارة ملك السعودية الراحل عبد الله بن عبد العزيز كي "ينهل من حكمته"، وألقى محاضرة في القاهرة بحضور مبارك، وأشار في حديث له في أحلك فترات الثورة السوريّة إلى 800 عام من النزاع بين السنّة والشيعة معتمدًا على أساطير لا يصدّقها (بل ويحظرها) حتى المستشرقون أنفسهم، إذ يصفونها بالتعميمات الخاطئة. لم يكن أوباما مهتمًّا بمدى صحّة أنصاف الحقائق التي ذكرها بقدر ما كان يريد أن يسوّغ عدم رغبته في الانخراط بهذه الفوضى والتورّط بها والتعامل مع العواقب المحتملة لذلك.
كان أوباما ينسحب ببساطة في كلّ مرة كان يحاول أن يفعل شيئًا وتعرض له أي مشكلة، أو كلّما وجد أنّ البلاغة الكلامية التي يتمتع بها لا تفي بالغرض. حتّى أنّ أوباما قد نسي بعض المسلّمات التي تعرفها القوى الاستعمارية القديمة بأن الاحتلال أمر سيئ ولكن تبقى لدى القوّة المحتلّة مسؤوليات لا يسعها التخلّي عنها، أو أنّ الانسحاب قد يترتّب عليه مصائب توازي في حجمها مصائب الاحتلال نفسه إن لم يجرِ الانسحاب بعد حسابات وافية ودقيقة في كيفية التعامل مع حالة الفراغ التي تنشأ عنه وتبعات ذلك.
جريمة وكارثة
لا أدري إن كان البريطانيون قد تعلموا أيّ شيء من انسحابهم من فلسطين في أيار/مايو 1948. ولكن الفلسطينيون خبروا الأمر على جلودهم. إنهم يعرفون جيّدًا أنّه مثلما كان الاحتلالَ بحدّ ذاته جريمة، فإن التوقيت الذي جرى فيه انسحاب القوّات البريطانيّة كان كارثة. إذ حلت الميلشيات الصهيونية المسلحة محل الانكليز.
وحين قامت إدارة أمريكيّة خرقاء بحلّ الجيش العراقي، ودعم المالكي الذي لم يفز بالانتخابات لتشكيل حكومة، ولم تفعل أيّ شيء، وهي الدولة المحتلة، حيال الطريقة التي قام بها هذا المتعصّب الطائفيّ بإدارة البلاد، ولم تحرّك ساكنًا أمام السياسات الوحشية ذات الطابع الانتقاميّ التي انتهجها حتى بلغ الوضع حدًّا لم يعد يجدي معه التدخّل شيئًا.
من الصعب فهم "تنظيم الدولة الإسلامية" دون أن نأخذ بالاعتبار مجموعة من العوامل منها السنوات الطويلة من الحكم الاستبدادي تحت الحصار، والاحتلال الأمريكي، والنظام الطائفيّ ذو الممارسات النابعة من الحقد والرغبة في الانتقام.
بعد أحداث كانون الثاني/يناير 2011 في مصر، قدّم أوباما بعض التصريحات القويّة وإن أتت متأخرة، ولكنّه سرعان ما خاب ظنّه، وأدار ظهره. بل إنّ إدارته في واقع الأمر لم تدعم الديمقراطية في مصر، وبدت غير مكترثة إزاء الانقلاب العسكري الذي كان لحظة فارقة في تاريخ التحوّل الديمقراطيّ في المنطقة.
في هذه المرّة عمل اللوبي الإسرائيلي إلى جانب بعض اللوبيات العربيّة لإضفاء القبول على الحكم الدكتاتوري للسيسي في واشنطن وعواصم غربية أخرى. وظهر مجدّدًا أنّ أمن إسرائيل هو الهوس الذي يمكن التضحية بحقوق الناس من أجل الحفاظ عليه. ثم ما لبث النظام المصري حتى شرعَ بابتزاز الولايات المتحدّة حين قررت التقارب من روسيا.
لقد تأخّر أوباما كثيرًا في سوريا حتى فات الأوان وتفاقم العنف، ويبدو أنّه كان يخلط بين واجب حماية المدنيين وبين التحرّك غير المشروع وغير القانوني لتغيير النظام من خلال التدخّل الأجنبي العسكري الذي عارضه بعض الناس، وأنا من بينهم، في العراق، وما زلت أعارضه.
لقد تخطّى الأسد الخطوط الحمراء التي وضعها أوباما غير مرّة، ولم يتوانَ غير مرّة في اختبار "صبر" ما يدعى المجتمع الدوليّ، حتى أدرك أنه لا يوجد سقف لاستخدام العنف. وقد ترتّب على ذلك آثار وخيمة على الشعب السوري.