فخر الدين فياض
يتحدّث الكثيرون اليوم عن غياب الدور الفاعل والحقيقي، للمثقف العربي، بسبب سيادة ثقافة السلطة، وغياب الحريات العامة، وتحوّل المثقف النظري بالتالي، إلى مثقف سلطوي.
ولكن ما يميز فكر الدكتور عزمي بشارة، هو ثقافة الحرية، وهي الميزة التي لا بد منها لمن يمكن أن يطلق عليه تعبير (مفكر). فلا فكر دون حرية، تلك المقولة التي ينضوي تحتها، الالتزام بمعناه الإنساني البعيد، الالتزام بهموم الكون والأمة والمجتمع والفرد ضمن رؤية تاريخية وواقعية في آن. لأن الحرية هي الشرط الضروري لنمو الروح الإنساني وانبساطه في العالم وفي التاريخ.
المفكر، هو الذي يتفكّر في الزمان والمكان، دون أن (يقونن) تفكيره (شعار!!) أو مصلحة ضيقة لمجموعة فئوية، نظاماً كانت، أو حزباً أو ديناً أو طائفةً أو عرقاً. وحدها الحقيقة، أو السعي نحوها، هي الأعز على قلب المفكر. ووحدها ثوابت التاريخ والواقع وضرورات التغيير هي التي ترسم مساراته دون سلطة الأيديولوجية أو أيديولوجيا السلطة، ودون ثقافوية النخبة أو غوغائية الجماهير.
والقطيعة التي حاول عزمي بشارة خلقها مع هذه (الثقافات) السائدة، جعلت منه (ظاهرة) في صفوف المثقفين العرب.
ومن معالم هذه الظاهرة، أن قوى (العلمانية والحداثة) في العالم العربي تحتفي بفكره وتستشهد به، وكذلك قوى (الممانعة والمقاومة/قومية، إسلامية، ماركسية) تحتفي بفكره أيضاً وتستشهد به. وأيضاً، كلا الجهتين تنتقدان نقده لهما وجرأته في تبيان عيوبهما، وإن كان (نقد) الجهتين يأتي على استحياء، وبالتلميح وليس بالتصريح.
إن سيادة ثقافة السلطة (سلطة نظام أو سلطة مقاومة/ جبهة/ تنظيم/ حزب") في العالم العربي، قد غيّب سلطة الثقافة، مثلما غيّب ثقافة الحرية، مما ساهم في انحدار دور المثقف العربي، من ممثل لضمير الأمة/الوطن إلى ممثل لفئة سائدة ومتنفذة وبيدها القوة والسلطة والمال، فئة استطاعت تحويل المثقف إلى موظف يلّمع شعاراتها ومصالحها في آن، ويبحث جاهداً لتسخير (النظري) في خدمة السلطوي.
والمرعب اليوم، أن نخباً كثيرة من (المثقفين) العرب (ترعى) في مزارع أصحاب السلطة، بحثاً عن (الكلأ والماء). وبدلاً من إنتاج ثقافة، أضحت تنتج (لبناً) وشعارات وأيديولوجيات.
إن ما يميز عزمي بشارة، أنه ظلّ أميناً للثقافة، بوصفها ضمير الأمة، ولم يقع في مطب الأيديولوجيا أو الدوغما من جهة، ولم يؤجر ثقافته لأية سلطة من جهة أخرى، لذلك تراه يعيدنا إلى الثوابت، بين الحين والآخر، محللاً المتغيرات على أساسها، بعيداً عن (الشلف) والتأويل وبعيداً عن اليقينيات الميتة والجامدة.
ليس جديداً أن نقول إن العلاقة بين الثابت والمتغير، تحكمها جدلية فكرية قائمة على معاني الحق والعدالة والتطور في آن، وإن إستراتيجية التغيير (تحرير، مقاومة، دمقرطة، علمنة، عقلانية سياسية) لا يجوز أن تكون معلّقة في الهواء، تتقاذفها القوى الكبرى والمصالح المحلية (فئوية أو شخصية) عبر مفاهيم (الشطارة والتكتكة). واختراع شعارات تتلاءم مع (المرحلة!!) لتحقيق هذه المصلحة أو تلك، بعيداً (وربما بالتعارض) مع مصالح الأمة/الوطن.
يقول عزمي بشارة، في ندوة نظّمتها الجامعة الأميركية في بيروت، في 14 مايو/آيار بمناسبة مرور 61 عاماً على نكبة فلسطين:
"إنّ العودة إلى الثوابت مهمة جداً ليس في سياق سلفية أو أصولية ما، فلست من المتعصبين لثوابت بهذا المعنى، بل أعني بذلك القضية الفلسطينية نفسها، ما هي؟ لتثبيت البديهيات ووضعها في نصابها. وهنا لا أتحدث عن خطاب تقدمي مقابل خطاب رجعي، بل عن نضال عادل وعن نضال من أجل تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني. أما تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني والأمة العربية فيعني العودة إلى ما جرى عام 48. فقضية فلسطين هي قضية النكبة، هي قضية استعمار استيطاني لفلسطين وقد اتخذ هذا الاستعمار الاستيطاني منذ عام 67 أشكالاً تماثل نظام الأبارتهايد (الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا" (1).
يدهشه أن تتحول القضية الفلسطينية (عربياً) إلى قضية فلسطينيين (وصراع) على حدود 1967، فيذكّر أن قضية فلسطين هي إما قضية العرب، أو ليست قضية بل صراع حدود بين كيان فلسطيني وآخر إسرائيلي. فيقول: "ليس هناك من قضية فلسطينية غير عربية، وليس هناك من قضية فلسطين منفصلة عن المسألة العربية (...) ولن يتحرر العرب ما لم يتحرر الفلسطينيون، ولن يتحرر الفلسطينيون دون أن يتحرر العرب" (2).
وما يحدث الآن -فلسطنة القضية- سيقود إلى "إنشاء عربي من نوع جديد، تطغى عليه القطرية، وهذا يعني حتى القبلية والطائفية وغيرها في الدولة القطرية، فمن لا يعتبر قضية فلسطين قضيته لا يكتفي بذلك بل يبدأ وينتهي إلى التعريفات الأضيق. حيث لا يعود جنوب لبنان قضية كل اللبنانيين والعرب، ولا الجولان قضية كل السوريين والعرب، بل تضيق الانتماءات تدريجياً ليتفوّق الانتماء القبلي والعائلي والعشائري على ما عداه من انتماءات" (3) وبالتالي فالمسألة تتعلق بوجود العرب، وطنياً وإقليمياً ودولياً، أو عدم وجودهم.
يدهشه، كيف تحوّل حق المقاومة وحق العودة، من حق فعلي، وطبيعي، في مواجهة الاحتلال والتهجير، إلى ورقة تفاوضية، بيد إسرائيل والنظام العربي الرسمي، ويعود إلى الثوابت والبديهيات العالمية، إن حق المقاومة الذي منعته الأنظمة العربية عن فلسطينيي الخارج، هو حق وواجب في آن، فهناك أرض تدعى فلسطين قد احتلت وهجّر أهلها. وعودة الفلسطيني إلى دياره هو حق كفلته جميع شرائع الكون والتاريخ، فقد هجّر بفعل حربي. فكيف يتحول حقه في المقاومة والعودة إلى حق نظري. ليس إلا؟!
إبان حرب غزة الأخيرة، كتب بشارة (بيان غزة) (4).. وهو بيان المقاومة الوطنية الفلسطينية على اختلاف ألوانها، وبيان قوى المقاومة العربية (المهمشّة والمغيّبة بفعل الشمولية والحصار ومحاربة الحريّات).
بيان أطفال غزة ونسائها ومقاوميها، وبيان الشعوب العربية الجريحة في وجدانها وتطلعاتها وحريتها في التعبير والرفض، إنه بيان مقاومة جميع مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، مشاريع الغرب، ومشاريع الأشقاء في آن.
لقد بدا الدكتور بشارة أثناء الحرب، وكأنه يقطن قلب غزة وقلب مقاوميها، والجميع يذكر ضيق صدره من مذيعة الجزيرة في أخبار الحادية عشرة ليلاً، حين سألته عمن يتحمل مسؤولية المدنيين والعزل الذين يقتلون بلا ذنب، وبلا خيار، إن كانوا يريدون المقاومة أم لا؟ لقد ضاق ذرعاً بهذا التلميح لمسؤولية حماس عن ذلك القتل. لقد رأيته حين نزع الميكروفون، معلناً اكتفاءه من المقابلة، بعد أن أجاب قائلاً: كيف يمكن للضحية أن تكون مسؤولة عن سادية الجلاّد، وكيف يُسأل الدم المسفوح دفاعاً عن ثوابت الأمة والشعب والحضارة عن مسؤوليته عن غطرسة السيف وعنجهيته في القتل؟!
لكن بشارة عاد وكتب عن (مزالق إثارة الإعجاب وطلب الاعتراف) (5) محذراً تلك المقاومة وذاك الدم الوطني من تنظيم (الكفاح المسلح بهدف الإزعاج وليس الانتصار، وبشكل يجبر الطرف الآخر على الاعتراف بأن مصدر الإزعاج هو أيضا القادر على إيقاف الإزعاج). مؤكداً على ضرورة بلورة الإستراتيجية النضالية والأثر التراكمي للكفاح المسلح، وتلمس حركية الواقع والتاريخ في سبيل التحرير والسيادة الوطنية وصيانة الحقوق الثابتة للشعب العربي الفلسطيني.
البوصلة لا تخطئ الشمال. والبوصلة عند المفكر عزمي بشارة لا تخطئ طريق الحرية والتحرير. ولو أخذنا مثالاً (لكي نعرف عما نتحدث هنا) عن هذه البوصلة، يتعلق بالخلاف الفلسطيني الفلسطيني اليوم، فنجد أن بشارة يرى في الوحدة الوطنية الفلسطينية، العتبة الأولى نحو فلسطين حرة، وكعادته لا يجامل ولا يطلب شهادة من أحد. يقول في حماس:
(إن من يعتبر حركة وطنية واسعة مثل حماس حركة تكفيرية هامشية يقوِّض إمكانية بناء المقاومة، وحتى المجتمع في فلسطين. وهو نفس النهج الذي يجهض إمكانية بناء الديمقراطية في المجتمعات العربية) (6). ويؤكد بيقين:
(إن من يتهم حماس بأنها حركة تكفيرية هو إما مغرض، أي ذي غرض آخر غير ما يقول، أو لا يدري عم يتكلم. ومن يرى بإمكانية إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني دون التيار الإسلامي الواسع على الساحة، وهو يشمل حركتي حماس والجهاد الإسلامي، لا يتحدث عن معرفة وتحليل يؤسس لرأي مختلف حول إعادة بناء المشروع الوطني، بل يقصد في الواقع مشروعا آخر. وهو مشروع لا يستند إلى الإجماع الوطني الفلسطيني بما فيه الاتفاق على قواعد اللعبة التي يجب أن يحترمها التيار الإسلامي، بل يعتمد على تفاهم، وربما تحالف، مع إسرائيل وأميركا ضد الإجماع الوطني الفلسطيني). (7)
لكنه ينبه من جهة أخرى إلى أن: (على حماس أن تثبت أنها لا تفرض آراءها ونمط حياة رجالها ونسائها على الناس في غزة تحت أي مسمى كان. ويتوجب على حماس أن تدير قطاع غزة بحكم صالح وشفافية ونجاعة وبتعاون مع كافة القوى السياسية والاجتماعية التي استثنيت من حكومات فتح وحماس، وكما يستحق أهل غزة الذين عانوا الأمرين تحت الاحتلال وتحت أوسلو في ظل السلطة. ولذلك فإن امتحان حماس هو في قدرتها على اجتذاب القوى المجتمعية والفصائل المعارضة فعلا لهذا الانقسام) ولا يفوته أنه يخطّئ دخول حركة حماس السلطة أصلا.
والأهم أنه لا (يتأتئ) ولا (يمأمئ) في تسمية الأشياء بأسمائها، شأن معظم (كتابنا) الساعين إلى نيل (شهادة) مقاومة من حماس أو غيرها، فيعتبر أن ما قامت به حماس في وقت ما، ضد عناصر فتح هو جريمة، يقول: (لقد تجاوز ميدانيو حماس في ممارساتهم العنيفة والانتقامية كل ما يمكن لقيادتهم تبريره. وهنالك فعلا ممارسات لا تبرر وتستحق الإدانة فقط. وقد تفاجأ الناس من ممارسات إجرامية أمام الكاميرات جرت في غزة، وعلل البعض موقفه مع حل حكومة الوحدة وإقامة حكومة طوارئ باستفظاع ما حدث، وهو فظيع فعلا. ثم ووجهت جرائم كتائب القسّام هذه بجرائم ارتكبتها كتائب الأقصى لا تقل عنفاً ضد نشطاء وحتى بيوت معتقلين من حماس، في مناطق لا تستطيع فيها حماس أن تحمل السلاح، ونشطاؤها إما سجناء أو مطلوبون لإسرائيل). (8)
في المقابل، ربما لم ينتقد كاتب عربي السلطة الفلسطينية الممثلة بـ(أبو مازن)، كما انتقدها المفكر عزمي بشارة، لقد سخر من هذه التركيبة طويلاً، ولم يثق بها يوماً.
يقول بشارة ساخراً:
(لم نعد مجرد "حكومة" تحت احتلال، بل تقدمنا إلى "حكومة طوارئ" تحت احتلال، وبقي فقط أن نقيم حكومة احتلال تحت الاحتلال. ولم لا؟ فنحن لسنا في حالة صراع تحرري مع إسرائيل، بل في حالة تنافس بالألقاب والتسميات، وعاشت الرمزية والرموز. هل ستمون "حكومة الطوارئ" على أصدقائها الأسخياء في الغرب لوقف بناء الجدار وإزالته؟ أو لتطبيق قرارات لاهاي، أم أن امتحان نجاحها سيكون جلب المال من أميركا وأتباعها؟). (9)
ويضيف في مكان آخر:
(هناك سعي حثيث إلى تفريغ القضية الفلسطينية من أي محتوى غير تنافس بين كيانين أحدهما تعيس في حصاره والآخر سعيد في حصاره) ويستطرد قائلاً:
(يقود هذا السيناريو طبعا إلى كوابيس من نوع تجويع غزة وإغراق السلطة في الضفة بسخاء غير بريء، مفسد وفاسد، ويشكل أساسا لفساد جديد، وفقدان عنوان يمثل كل الشعب الفلسطيني، وتصاعد العمليات ضد إسرائيل من منطلق "علي وعلى أعدائي يا رب"، والرب وحده يفسر من هم "أعدائي" كما يشاء طبعا). (10)
يقول محللو إسرائيل وقادتها للعرب، لا تكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، بمعنى لا (تزايدوا) على القضية الفلسطينية ما دام القادة الفلسطينيون يحاوروننا، ويفاوضوننا على قيام (دولة، مستعمرة لا تهش ولا تنش).
يرد عزمي بشارة قائلاً: لا وصفة لبقاء العروبة حيّة في الوجدان العربي اليوم، إلا ببقاء القضية الفلسطينية، قضية العرب جميعاً، ويحذر من تحويلها إلى قضية فلسطينيين، ليس خوفاً على الأرض المحتلة فحسب، وإنما هو الخوف على العروبة والعرب في آن، من أن يتحولوا إلى طوائف وملل وقبائل متناحرة داخل القطر الواحد. ويخاطب قادة النظام العربي الرسمي قائلاً:
(لا تكونوا إسرائيليين أكثر من الإسرائيليين أنفسهم). (11)
وينبه إلى أن (سعي بعض الدول العربية إلى عقد صفقة منفردة في سياق ما يعرف باتفاقيات سلام منفرد مع إسرائيل، على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام، فقد انطلق من ضرورة وضع حد للصراع من منطلق أمن الأنظمة لا مصالح شعوبها ودولها، وقد تطلب وضع حد لصراع الدول العربية مع إسرائيل الافتراض أن قضية فلسطين هي قضية الفلسطينيين وحدهم). (12)
ومن جهة ثانية، يذكّر أن النظام العربي الرسمي الذي يؤكد عبر مقولة "الممثل الشرعي الوحيد" تنصله من الصراع مع إسرائيل، قد بدأ بنغمة جديدة تقول: (إن المقاومة شأن خاص بالفلسطينيين وحدهم). ثم انحدر نحو مقولة أشد وخامةً أن (المقاومة تشكل عائقا لعملية السلام). وهكذا كما عبّر أحدهم: يبدو مسار التدهور للقضية الفلسطينية كمرآة للوضع العربي الراهن ومحصلة لضعفه وتفككه. (13)
وربما هم قلّة الذين انتبهوا إلى أن الدكتور بشارة لم يستخدم مصطلح دولة إسرائيل يوماً، إلا وضعه بين مزدوجين، لأنه مصطلح كاذب ومخادع ولا يعترف به، رغم اعتراف العالم والأشقاء وكثير ممن يعتبرون أنفسهم اليوم قادة مقاومة.
ولمن ضاق ذرعاً بالقومية العربية وبخطابها المتخشب الباحث عن معنى واقعي لوجوده، ولمن يروج للدولة القطرية، على أنها الحقيقة الواقعية القائمة، يفترق بشارة عن معظم الكتاب القوميين في الرؤية، في الواقع والمآل، ويرى أن الحرص على الدولة القطرية القائمة، وحمايتها من التفكك والانحلال إلى عصبيات عرقية أو طائفية، يحتاج إلى القومية وفكرها الحداثوي القائم على الديمقراطية والمواطنة والحريات العامة أولاً، إذ كيف يمكن إبقاء الدولة القطرية قائمة، في ظل استيقاظ جميع مفاهيم ما قبل القومية، ناهيك عن السير بهذه الدولة القطرية نحو الدولة الوطنية الحقيقية.
الواقع يقول إننا تأخرنا وتقدّم الآخرون، في الشرق والغرب معاً، وينفرد العرب اليوم عن جميع أمم العالم، أنهم بلا إستراتيجية وبلا أفق وطني أو قومي، وهناك خشية حقيقية على الجيل القادم، أن يكون جيلاً بلا مشروع.
والواقع يقول إن ما كنا نرفضه بالأمس نبكي عليه اليوم، في سيرورة انحدار لا يبدو أن هناك قرارا لها. إنه الواقع.
ولكن واقعية عزمي بشارة لا تشبه واقعية (الواقعيون) العرب، الذين (حولوا الواقعية إلى أيديولوجية لا تتعامل مع الواقع بل مع ضرورة التحلي بصفة الواقعية كضرورة في إطار المسعى لتبني الهيمنة السياسية الثقافية للنظام الرسمي الغربي بشأن إسرائيل وغير إسرائيل).
ولا تشبه واقعية ما يسمى قوى (الممانعة والمقاومة) القائمة على الشعارات والخطابة، وربما على المحسوبيات وواجب الوجود ليس إلا.
واقعيته تعني (في ظروف الشعب الفلسطيني تذوت حقيقة أنه لا توجد تسوية قريبة. وبالتالي السعي للحفاظ على مقومات وحدة الشعب الفلسطيني والمحافظة على المعاني والقيم اللصّاقة للمجتمع الفلسطيني والتي تمنحها حركة التحرر الوطني وأهمها الحفاظ على حق العودة والتحرر من الاحتلال). (14)
(حقاً إن تشاؤم العقل لا يقاومه إلا قوة الإرادة). هكذا تحدّث غرامشي (فيلسوف ماركسي إيطالي) ذات يوم، وهكذا ينظر الدكتور بشارة إلى الاستعصاء التاريخي للعرب والعروبة، إزاء جميع تحديات التاريخ وما أفرزه من نظام عالمي جديد يعتبرنا حديقة خلفية له، وعولمة متأمركة تنبئ بذهاب البلاد والعباد، ونظام عربي شمولي أفرغ الشارع العربي من نبضه، لا يوجد أمامنا إلا التمتع بواقعية حقيقية في النظر، وبإرادة عظيمة في المقاومة والبقاء.
وربما هذا ما عناه في كتابه الأخير «أن تكون عربيا في أيامنا» (15) إنها الجمرة التي تحرق قلوبنا قبل أيدينا، لكنها تؤكد بقاء الروح داخل هذا الجسد المريض والممتد من المحيط إلى الخليج.
أخيراً، رغم أن هذه القراءة قد انصبّت على القضية الفلسطينية، بشكل أساسي، في فكر بشارة، إلا أن هناك أسئلة كبرى، تتعلق بالعرب والعروبة، تحتاج إلى قراءة ثانية عند بشارة، لكن من المفيد طرحها للبحث، وهي الأسئلة التي أعتقد أنه لم يجب عنها بشكل نهائي، وربما انصب جهده باتجاه فلسطين وإشكالياتها الكبرى مع مفاهيم التحرر والاستقلال والسيادة وبناء الدولة. في ظل شروط عالمية جديدة، بدءاً بانتهاء الحرب الباردة، وبروز القطب العالمي الواحد. ثم المتعدد الأقطاب، وصولاً إلى العولمة وإرهاصاتها في الشرق الأوسط. لكنها الأسئلة التي لا بد منها لمفكر عربي استطاع الوصول إلى ضمائر العرب، على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم.
فإن كانت دولة الأمة تُبنى اليوم على الإرادة الحرة، وعلى قيم المواطنة الحقة، والحريات العامة، فضلاً عن التطور العلمي والحضاري، والانتصارات المشتركة لعموم الشعب، بدءا بالرياضة والفن وليس انتهاءً بتحقيق دولة الوطن الواحد القائم على الحياة البرلمانية وتداول السلطة والانتخابات الحرة المتعلقة بمواطن منتمٍ إلى الأمة وليس إلى عرقه أو دينه أو طائفته أو حتى إلى حزبه بالمعنى الضيق للكلمة. أقول إن كانت دولة الأمة (قطرية أو قومية) تبنى على هذه الأساسيات، فكيف يمكن للعرب اليوم بناء دولتهم داخل أقطارهم أولاً، والطموح إلى بناء دولتهم القومية الديمقراطية، في ظل أنظمة شمولية لا هم لها إلا الحفاظ على مكتسباتها في السلطة (أو في مزارعها/أوطانها) من جهة، وفي ظل عودة مفاهيم ما قبل القومية/الوطنية التي تستفحل داخل الشارع العربي، وتحوّل المقاومة (بشكل عام) نحو أهداف الشهادة ونيل الفردوس، والتمترس داخل أطر أقل من وطنية، مبتعدة إلى حد ما عن إستراتيجية التحرر والتحرير وبناء الدولة الوطنية المستقلة؟!
ثم لماذا لم تستطع المقاومات العربية، على اختلاف ألوانها، أن توحّد الشعب حولها، بل على العكس، شكلّت في معظم الأحيان، حالة من الانقسام الفئوي، حزبي أو طائفي، على عكس معظم حركات التحرر في العالم؟!
وأيضاً، لماذا لا يوجد مقاومة فعلية، إلا في البلدان التي تضعف (الدولة) فيها؟!
وهو السؤال الذي تنبه إليه الدكتور بشارة مبكراً، وحوله إلى إشكالية، للنظر والبحث، تتعلق بتفجر المقاومة حيث تضعف الدولة المركزية في العراق ولبنان وفلسطين، وربما أخذه الكثيرون عنه دون الإشارة إلى المرجع. ألا وهو عداء الدولة القطرية الحالية للمقاومة.
ومن جهة ثانية هل الدولة القائمة في العالم العربي اليوم، هي دولة بالمعنى المتعارف عليه، من سيادة ومواطنة ومدنية؟
ويأتي السؤال العلماني، وهو الأهم، من وجهة نظري، في العالم العربي، الذي بدأت أعراقه وأديانه وطوائفه، تعيش حالة من العُصاب المجتمعي، إذا صح التعبير، وصلت في بعض الأماكن إلى حالة من الاقتتال والتناحر، ومحاولات اجتثاث الآخر وإقصائه عن مفهوم (الوطن المشترك). مما يجعل من العلمانية قضية راهنة وبغاية الأهمية بوصفها مفهوماً ضد احتكار الحقيقة من أية جهة كانت، دينية أو قومية أو ماركسية، أو ليبرالية، وبوصفها نظرة إلى الإنسان على أنه مقياس القيم وهدف كل تقدم، ومحور العالم.
السؤال العلماني ظلّ بلا إجابة واضحة عند الدكتور عزمي بشارة، وكأن علمانية بعض القوى في العالم العربي، التي اتصفت بالترويج للمشروع الأميركي، أو الغربي عموماً (بقضّه وقضيضه) جعلته يبتعد عن سؤال العلمانية الكبير في بناء دولة الوطن/الأمة. تلك القوى التي اعتبرت كل ما هو إسلامي، هو أصولي وتكفيري ويجب التخلص منه، وكأن الإسلام هو المشكلة، مقابل (أو نكاية) بشعار (الإسلاميين): الإسلام هو الحل. مع العلم أن العلمانية لا تقول (ولا يمكن أن تقول) إن الإسلام هو المشكلة، لكنها ترفض بالتأكيد أن يكون الإسلام هو الحل.
رغم انتقادات بشارة للتيارات الإسلامية عموماً، وتحذيره من (طوأفة) مشاريعها اجتماعياً، داخل كل بلد على حدة، وكذلك مشروعها المقاوم، فإنه لا يرى الحل في العلمانية، وإنما الحل في إطار دولة الأمة، وعبر مفاهيم القومية الحديثة، مع العلم أنه قد وجه الكثير من الانتقادات إلى الفكر القومي العربي التقليدي، واعتبره مسؤولاً بمعنى ما، عن الكثير من خيبات الأمة.
لكنه، حسب اعتقادي، قد وقع في مطب القوميين العرب نفسه، حين اعتبر أن المشكل العلماني سيحل (أوتوماتيكياً) مع حل المسألة القومية، وهو مطب الشيوعيين العرب مع مسألتي العلمانية والديمقراطية، حين اعتبروا أن الاشتراكية تجب ما قبلها، وبالتالي فالنضال الاشتراكي كفيل بحل هذه الإشكاليات مجتمعة. ولا أعتقد أنهم ابتعدوا (قوميين أو ماركسيين) كثيراً في رؤيتهم لعملية التغيير والبناء، عن شعار الإسلاميين: الإسلام هو الحل. فالجميع كانوا عقائديين بامتياز.
لا شك أنها تساؤلات شديدة الوقع على الضمير العربي، قد تدفع بنا نحو العدم، واليأس من هذا الجسد العربي الضخم بأورامه وأمراضه. ولا أشك أن المفكر عزمي بشارة قد طرح هذه التساؤلات مراراً، دون أن يصرّح بمخاوفه البعيدة على أن الأمة (بجميع أوطانها) في مرحلة من الضياع والبؤس القومي قلّ نظيره في تاريخ الأمم. وربما كان كتابه الأدبي "فصول" يجيب عن هذه الإحباطات الوجودية البعيدة، وعن مأساة سيزيف و(حكم الآلهة) الجائر بدحرجة صخرة نحو قمة لن يصل إليها أبداً. يقول الدكتور بشارة:
"ولذا أقسمت أمام قبر جدتي
أن أرابط عند القضايا الفاشلة
جمر أناشيد الطفولة يحرق راحتي
أنفخ فيه خوف أن يخبو
وأنتظر
أن يزهر الإسمنت" (16)
ومع ذلك، ربما يزهر الإسمنت ذات يوم. كما أتى قطار الأخوين رحباني في محطتهم التي كانت منسية ذات زمن.