حنين زعبي
نستطيع أن نتحدث عن ملامح ظاهرة ما، كما نستطيع أن نتحدث عن ملامح "شخص" ما، لكن الأصعب أن تتحدث عما أصبح يشكل جزءا من قواعد لعبة وبديهيات مرحلة طوت ما سبقتها من مراحل.
فكر إنساني
مكمن الصعوبة في مواجهة الفكر والمشروع السياسيين لبشارة ليس فقط في دفاعه عن الضحية، ولا في توضيحه للعلاقة التاريخية بيننا وبين وطننا، ولا في التعامل مع الانتماء القومي كسياق تحرري ونهضوي، ولا في إعادة الاعتبار للكرامة الوطنية. كل ذلك لا قيمة له لدى شعب، لا يرانا ويعتبر كل من يناهض مصلحته وقوته وأمنه ودعمه - كما يعرفها هو- إحدى تجليات اللاسامية والعنصرية أو الإرهاب. مكمن الصعوبة إسرائيليًا، هو في مواجهة القيم المؤسسة لفكر ولمشروع التجمع، تلك القيم التي هي ملك للإنسانية وليس للشعب الفلسطيني فقط.
يبرز مقابل هذا خطاب سياسي بات يستعمل كثيرا في الآونة الأخيرة من قبل رئيس الحكومة نتانياهو ومن قبل غيره، يشدد فيه على "الأخلاق اليهودية"، كما يبرز غياب المرجعيات الإنسانية عامة، مثل حقوق الإنسان، قيم العدالة والحرية والمساواة في الخطاب السياسي الرسمي أو الشعبي في إسرائيل. أما المرجعية "الأخلاقية" أو "المثالية" الوحيدة تقريبًا المستعملة في الخطاب الرسمي الإسرائيلي فهي إما "الحداثة" أو التقدم والتطور، و"الغرب" كانتماء ثقافي وحداثي، تحب إسرائيل اعتبار نفسها جزءا منه، وإما "الأخلاق اليهودية"، دون شرح ما تحمله هذه الأخيرة، وإن لم يتم الفصل في اليهودية بين التعاليم الدينية والتعاليم الأخلاقية.
لكن مما يرشح من هذه "الأخلاق اليهودية"، في جانبها المتداول فيما يتعلق "بالتعامل مع العرب" أو مع دول الجوار، (ويمكن أن نرى ذلك في خطابات الكنيست) يمكن تلخيصه بأن كل من يريد الهجوم على إسرائيل هو "مجرم"، يتوجب عقابه، وأن اليهودي عليه أن يسارع إلى قتل كل من "ينوي" (أو قد ينوي) قتله، أي أن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع، وأن ضرب العدو هو ليس فقط حق لليهودي، وإنما واجب عليه.
مقابل ذلك الإنغلاق "والمرجعية الأخلاقية الذاتية"، شدد فكر بشارة، على: العدالة والحداثة، ركيزتين إنسانيتين. العدالة التي ترى الماضي كجزء من مرجعيات الحق، والحداثة التي ترى المستقبل بأعين مفتوحه عليه.
لكن الغريب أن تلك المرجعيات الإنسانية العدل، حرية الفرد، المساواة بين الأفراد وبين الشعوب، ديمقراطية النظام، والتي هي المنطلقات الليبرالية التي أسس عليها بشارة فكره ومشروعه السياسي، لم تحم مشروع بشارة من أن يتهم بالعنصرية أو بالإنغلاق القومي.
ولم يبخل في هذا الاتهام، لا "اليسار الصهيوني" الذي يعتبر نفسه، والذي عومل عربيا حتى الآونة الأخيرة، كالوكيل الحصري للنضال الفلسطيني، ولا الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي لم يقرأ بشارة، إنما قرأ جموده السياسي من خلال فكر سياسي حديث نجح ليس فقط في مواجهة تناقضات الواقع وتركيباته، بل في تجييره النزيه لصالح الضحية.
والأكثر غرابة، أن يتهم بالاتغلاق القومي، ليس فقط من بنى مشروعه على أسس إنسانية عامة، بل من أدخل الخطاب القومي الفلسطيني إلى الحيز العام الإسرائيلي، مخرجا إياه من دائرة "الوجدانية" الفلسطينية، إلى دائرة الخطاب والفعل السياسي في الحيز العام الإسرائيلي.
من اتهم ولوحق وعمل على تصفيته سياسيا في إسرائيل بذريعة "القومجية العربية" التي تشكل تهديدًا استراتيجيا لإسرائيل، يتهم الآن، ولنفس الأسباب - الارتكاز على قيم العدل والإنسانية، وحق الشعوب في الكرامة والحقوق- بالإنعدام القومي.
واستنادا إلى مفاهيم في العلاقة بين العلمانية والدين والسياسة قام بشارة بمساهمة فكرية كبيرة، في نقض الصهيونية في إطار علاقتها مع اليهودية ومع الدولة العبرية، وليس فقط في إطار علاقتها مع الشعب الفلسطيني، وفصل بشارة بين الصهيونية وبين الحقوق التي يمكن الاعتراف بها لليهود في فلسطين. وتعتبر هذه المساهمة من المساهمات التي ما زالت غائبة في الفكر السياسي في العالم العربي، ومغيبة في الفكر السياسي في إسرائيل ذاتها.
ضمن هذه المنظومة الأخلاقية الإنسانية العامة، قام بشارة بقيادة مسار ترجم بشكل عملي قناعات القيادات والقاعدة في التجمع بضرورة أخذ المرأة مكانتها في القيادة السياسية للحزب، مما أدى إلى قرار تحصين المرأة في قائمة التجمع.
ما بين "الوجدان الوطني" و"المشروع الوطني" - تسييس الهوية
منذ قيام الدولة حمل الفلسطينيون هويتهم وانتماءهم الوطني والعروبي كجزء من وجدانهم ومن شحناتهم العاطفية. ولم تستطع سياسات تدجين وترويض الفلسطيني أن تعيد تشكيل هذا الوجدان، الذي تم التعبير عنه طوال الوقت من خلال التعاطف التلقائي مع عبد الناصر، منظمة التحرير، حركات المقاومة، الانتفاضات الفلسطينية، أو أي تعبير عن أي نصر عربي أو تحد عربي للقوة الإسرائيلية، بغض النظر عن نجاحه وعن نجاعته (صدام حسين مثلا).
وكان هذا الوجدان يتشكل ويعيد إنتاج نفسه بمعزل عن الدولة وأذرعها من جهة، لكن بمعزل أيضًا عن البرامج السياسية للأحزاب العربية نفسها. بمعنى، أنه تم عزل وجداننا الوطني، العفوي، الصادق، غير الخاضع لسياسات وموازين القوة، أيضا عن برامج أحزابنا السياسية، التي خضعت في المسكوت عنه وفي المفصوح عنه، لسقف يتحدد إسرائيليًا.
تلك الأحزاب حصرت إنجازاتنا "الوطنية" في تعبيرات "هوية ثقافية"، مثل: الحفاظ على اللغة العربية، الحفاظ على الوعي الوطني، وتعبيرات أدبية عرفت باسم أدب المقاومة، وهي تعبيرات بقيت في مجال "الخطاب الداخلي"، أو "الثقافة الداخلية"، أو الحيز الداخلي للمجتمع الفلسطيني، وبقي "الوجدان الوطني"، المتعلق بما حصل في النكبة، القرى المهدمة، حقوق اللاجئين، جزءا من خطاب غير مطروح أمام إسرائيل، وبالتالي جزء من خطاب غير مطلبي، وإن كان جزءا من هوية ومن وعي وطني.
إذا، انفصل وجداننا الوطني عن مشروعنا السياسي، وانحصر مشروعنا السياسي، في مطالب مساواة أقلية قومية، تطالب بإعادة تقسيم موارد الدولة في الحاضر. وبإنجاز بتر كامل، ما بين المطالب السياسية أمام إسرائيل، وما بين موقعنا التاريخي كجزء من الشعب الفلسطيني.
أما المشروع أو المطالب السياسية، فتنطلق من "المواطنة"، ابنة الأمس، وليس من موقعي التاريخي "كأصحاب الأرض الأصليين"، وتندرج في باب "المساواة"، التي يستطيع أن يطالب بها أيضا كل يهودي غير أشكنازي.
ما قام به مشروع التجمع، بفكر واضح، لكن مركب جدا، هو أنه حول مطلب ليبرالي "بسيط": المساواة، الذي قد نتعامل معه كمطلب "أعمى للقوميات"، إلى مطلب قومي ينطلق من المكانة التاريخية للشعب الفلسطيني، وبالتالي لمطلب مناقض للصهيونية. وتم التأسيس للعلاقة بين "القومية" والمواطنة، بشكل مركب، وليس كحقوق مفصولة ثم مجموعة. ما قام به التجمع، هو أنه عمليًا سيّس الهوية، وسع حضورها من الساحة الوجدانية، إلى الساحة السياسية، ووسع تعبيراتها من تعبيرات داخلية فلسطينية إلى استحقاقات مطلبية وسياسية موجه إلى إسرائيل.
بهذه الشمولية القيمية والمطلبية، لا نستطيع اعتبار مشروع التجمع مشروعا حزبيا فقط، بل هو مشروع سياسي يطرح للفلسطينيين داخل إسرائيل، ولإسرائيل معًا، مواقع جديدة، يقوم الواحد من خلالها بمخاطبة الآخر. وهو مشروع يعمل ما قد يبدو متناقضا لأول وهلة: ينزع البعد القومي-الديني عن الدولة العبرية، ويعيد بشكل ما، البعد القومي لمواطنة الفلسطينيين.