وضاح يوسف الحلو
عندما كتب جبران خليل جبران احتجاجه الرفضوي على شكل «الحرية معبودتي»، واهدانا شاعر المقاومة الافرنسية بول ايلوار جداريته الانسانية «الحرية» حيث كتب على الخبز والدفاتر المدرسية واعشاش الطيور ولاهيات الطفولة اسم «معشوقته» كان هذان المبدعان يبشران بظهور حالة ضياء جمالي ذات اختراق من مثل راحلنا باكرا محمود درويش او مفكرنا وروائينا وباحثنا عزمي بشارة الرمز المعاصر لفتكة المثقف العربي البكر ضد الاسترقاق والظلامية والعسف وتمويت العقلية العربية المنتجة.
قبل مقاومة الدكتور عزمي بشارة للصهيونية كان رفيق ايلوار في المقاومة الفرنسية ضد النازية موريس لاكازيت يكتب الى زوجته قبل اعدامه: «وداعاً، كوني سعيدة، وعندما تشفين من ألمك النفسي قريباً اتمنى عليك ان تجدي رفيقا يليق بك. يصعب عليّ ان اقول لك هذا فأنا اغار عليك حتى في مواجهة الموت لكنك تستحقين السعادة».
هذه سيرة كل الروائيين والشعراء والفنانين الذين صادموا الفاشيات والدكتاتوريات من طرفة بن العبد الى ابن رشد الى الغرناطي لوركا الى التشيلي فكتور هارا الذي بتر اصابع يديه البينوشتيون لكنه ظل يعزف على غيتاره خلال ساعات ما قبل موته. عندما ضغطت اسرائيل على زناد حقدها فأصابت رصاصة لحم عزمي بشارة كان هذا الانسان العربي ينضم الى اولمب الاستشهاد في حياة الحلاج او انشوطة محيي الدين بن عربي، ويشير الى هذا لأن لعزمي بشارة يعود عمل «ان تكون عربياً في ايامنا. تكلمت وسأتكلم عن الحب والتصادمية في ادب عزمي بشارة لأني قرأت له فيما قرأت روايته الصدامية والرفضوية «الحاجز» والاخرى «حب في منطقة الظل» وفي صداميته وحبه تعشش عصافير العرب الجائعة. المنهجي، التغييري، الناقد الشمولي ماركس كتب الشعر لزوجته المهووسة به فقال: «الاضطجاع عند قدميك احلى من الكتابة عن البروليتارياً، وكان فتى الانتفاض فلاديمير ماياكوفسكي يكاغي ليلي بريغ شقيقة زوجة المقاوم لويس اراغون السا ومن منا لم تقل له «عينا السا»: بقوسه، صباح الخير.
كان فتى العبقرية ارثور رامبو يقول: «مستحيل ان توجد حياة اكثر فظاعة من هذه، وهذه الفظاعة رسمها الدكتور عزمي بشارة في «الانتفاضة والمجتمع في اسرائيل» ودراسة في «تناقض الديموقراطية الاسرائيلية». وعندما عضته رصاصة اسرائيلية كان مؤسس «التجمع الوطني الديموقراطي» يقهقه مفتوناً بخمرة النضال بعد ان كان مترئساً «لاتحاد الطلبة الجامعيين». وفي موضوعة الحب او العشق سواء للمرأة او الديموقراطية يرى الدكتور عزمي بشارة ان «المنزلقات الطائفية متوقعة ومن الخطأ كنسها تحت سجادة الوحدة ثم التغاضي عن خطورة تداعياتها السلبية على التحوّل الديموقراطي». الطائفية هي في نص عزمي، ضد الديموقراطية اي منافية للحب لا علاقة له بالدين ولا الادب ولا حتى بالتبشير.
عمله «في المسألة العربية» يتضمن فكرة اتهام التدخّلات الاستعمارية في التسبب بتشكيل الطائفية وتسييسها و«قومنة» الطائفية، وتحويل الطوائف من كيانات اجتماعية الى كيانات سياسية. في عمل «في تناقض الديموقراطية الاسرائيلية» يرى ان هذه الديموقراطية وقف على المفكّر اليهودي اي ان التعددية الطائفية في اسرائيل ليست تعددية ديموقراطية حتى ضمن المجتمع اليهودي حيث الاديب من اصول يهودية - شرقية لا يحظى بنفس منزلة دلال الاديب المتحدر من اصول اخرى. تفجر الغرائز الانسانية في رواية «الحاجز» او «حب في منطقة الظل» كثيف ومدمى وخرافي. في «الحاجز» تدندن عصافير بيارة فلسطينية لحن جنازة الارض التي وطأتها اقدام المسيح حافياً احبوا بعضكم بعضاً وازيلوا الحاجز بين عيوني وجسد ريتا.
وعندما تنهدت الرصاصة في جسد عزمي صار جزءاً من كل «فينومينولوجيا» النضال الفلسطيني والعربي.
ميتافيزيقيا النضال وجدلية عزمي بشارة
ان الفيلسوف تاليس يقول: «كل شيء مليء بالآلهة» في رفض لعدمية او الحاد ابيقور او الرفضوي الاطلاقي هيراقليط، ووفق المفكر عزمي بشارة فإن كل شيء مليئ بالطائفية في العالم العربي التي هي ضد الديموقراطية لأن الطائفية، ووفق اطروحة عزمي، نقيض المواطنة وسيادة الامة وليست الطائفية الا صراخاً سياسياً لا علاقة له بالدين كما يقول عزمي.
ونتيجة لافتقار التنظيمات الكفاحية البيروقراطية العربية للشكل المؤسساتي المعاصر أسس المفكر عزمي بشارة «التجمع الوطني الديموقراطي» في الارض المحتلة في محاولة لربط النضال الفلسطيني بخلاصات الفكر الثوري الفلسفي اي بالعقل المفكر لا بالتعبير الطائفي وكان الاغريقي اناكساغوراس اول من قال «العقل هو الذي يحكم العالم» وردد عنه المعري «لا امام سوى العقل» ومادية هيغل وفيورباخ وماركس ولينين جاءت نقلا ومتأخرة وان يكن ماركس ربط دور العقل في التحرر الاقتصادي.
وربطاً لافكار عزمي بشارة بعصر الثورات العربية لا بد من التوضيح ان الكاتب يرى ان «الطائفية مجموعة مغالطات لكنها تبدو منطقية أي ان الطائفية هي التعصب لجماعة سواء اكانت تضم متدينين ام غير متدينين»، وهذا يعني ان الانتفاضات العربية محكومة بالاختناقات ما دامت مدارة سياسيا من تعدديات طائفية لا تعترف بالتعدديات الديموقراطية. المفكر عزمي بشارة طوّر النضالية الفلسطينية العربية جماليا وادبيا ونقديا على طريقة مكسيم رودنسون وجاك بيرك وجاك كولان ولبنانيا الدكتور الباحث جورج حنا. في اعماله الكثيرة، وفي روايته «الحاجز» يدين المفكر عزمي بشارة العقلية الكولونية الصهيونية ولا يعقل ان من حرق او تفحم في «اوشفيتز» او «بوختفالد» يأتي حفيده الينا اليوم منتقما من الانسان العربي الفلسطيني لا من النازي الاوروبي.
يقف اليوم المفكر عزمي بشارة على رأس كتيبة ادبية فلسطينية من رموزها محمود درويش وسميح القاسم واميل حبيبي، ولأول مرة، في العالم العربي، نصطدم بمفكّر من وزن عزمي بشارة يربط الادب والفلسفة بمهام النضال اليومي، وربما في هذا يكون عزمي خلاصة تاريخية لقلائل هم: ارسطو، ديكارت، كنط، هيغل وماركس. هومير الاغريقي لم يكن من هؤلاء العقلانيين اذ «الياذته» حكاية دم بينما ملحمة «غلغامش» الأكادية قبلها هي حكاية بحث عن الخلود والمطلوب اليوم من جماهير العرب نبذ اهراق الدم والتفتيش عن خلود امة عندها محكم التنزيل.
قق فتى الادب والفلسفة عزمي بشارة الكثير لربط الجماليات العربية بالسياسات لامة قال لها محمود درويش: «اوقفي موتك يا امتنا» هذا الموت الذي يراه عزمي بشارة في الطائفية والتشظي وسبل مكافحتهما. ويستمر المفكر عزمي بشارة عدوا للتنويري الانكليزي هوبس القائل: «الانسان ذئب لأخيه الانسان» مع الخط المقابل للتنوير الاوروبي: «الانسان اخ لاخيه الانسان».
المصدر: هلا صور