صدر هذا الكاتب بداية في الداخل الفلسطيني، كان ذلك في العام 1998 تحت عنوان "الخطاب السياسي المبتور"، ثم صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت في العام 2000 طبعة ثانية. وها هو المركز يطلب مقدمة للطبعة الثالثة الخاصة به، بعد أن أضفنا إليها فصلين.
لقد وجدنا من الضروري بعد هذه السنوات إضافة فصلٍ عن الحالة الاجتماعية الاقتصادية لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني الذي يتناوله الكتاب، وفصل آخر عن مسألة "يهودية الدولة". فقد التفت الوسط الثقافي العربي أخيرا إلى إشكالية "الدولة اليهودية" بسبب إثارة إسرائيل مسألة الاعتراف بها كدولة يهودية في عدة مناسبات في السنوات الأخيرة. ولا شك أن علاقتها بموضوع بحثنا في هذا الكتاب هي علاقة عضوية.
وقد تركنا بقية الأجزاء دون تغيير، وذلك لأن بعضها يتضمن تحليلات نظرية بنيت عليها مواقف وشكلت مرشدا للتجربة العملية. فإضافة لقيمتها الأكاديمية، إذ اعتبرت تجديدا في مقاربة مسألة العرب في إسرائيل نظريا، فإن لها كما هي قيمة وثائقية أيضا بالنسبة لمن يرغب بدراسة نوع التحليل الذي قاد جهدنا السياسي في عملية بناء الحركة الوطنية. وفي الواقع لم يتغير تحليلنا النظري في محاوره الرئيسية كثيرا. ونحن ندعي أن الأيام أثبتت صحة هذا التحليل، وأكثر من ذلك فقد تحقق الكثير من التوقعات التي يتضمنها. فالنموذج الذي طرحه سمح بتشخيص نزعات التطور المستقبلي، خاصة حول فعل صيرورتين متزامنتين في المجتمع العربي في الداخل:
1. عملية أسرلة تتجلى في نشوء ثقافة سياسية تابعة، ومشوهة، متولدة دون وساطة الوعي الوطني، أي متولدة مباشرة عن التهميش الاقتصادي الاجتماعي الحقوقي للعرب في إطار كيان قام على أنقاض الشعب الفلسطيني، وصيرورة تشكُّلٍ وطني. وتتولد هذه الصيرورة عن عملية إقصاء المجتمع والدولة الاسرائيليين للمواطنين العرب بفعل سياسة التمييز والعنصرية الإسرائيلية من جهة، وعن تشكل العرب والهوية العربية في عملية تواصل لم ينقطع مع تاريخ البلاد وماضيها القريب ومع بقية أجزاء الشعب الفلسطيني والمنطقة العربية عموما من جهة أخرى.
منذ تلك الفترة كانت مقاربتنا لموضوع الهوية في هذا الكتاب أن الهوية ليست معطى أبديا بل نتاج اجتماعي ثقافي متشكل ومتغير. ولكنها ليست متشكلة ومتغيرة من لا شيء بل من عناصر قائمة.
لقد انطلق تحليلنا للعرب في الداخل من أنه لا يمكن أن نفهم مسألة عرب الداخل بنيويا فقط بتجرد عن تاريخ نشوء هذه المسألة، أي بتحليل بنية دولة إسرائيل كأنها دولة وطنية عادية، هي الدولة اليهودية، تعيش فيها أقلية عربية تتعرض للتمييز أو الإهمال (أو تعيش فيها أقليات دينية بموجب الخطاب الاستشراقي الصهيوني). فالعرب في إسرائيل هم سكان البلاد الأصليون وهم جزء من الأمة العربية التي تعيش حالة صراع مع إسرائيل ومن الشعب الفلسطيني الذي تعرض لعملية سطو مسلح على أرضة شملت هدم مشروعه الوطني. وقد نشأت قضيتهم تاريخيا كجزء من القضية الفلسطينية، فلولا نشوء قضية اللاجئين لما نشأت مسألة "أقلية" عربية في الداخل. أما الممارسات الإسرائيلية التي تتضمن مصادرة أراضي العرب في الداخل ومحاصرتهم وتجميعهم ديموغرافيا، والعمل على إعادة تشكيل هويتهم الثقافية بما يتناسب مع احتوائهم كأقليات متنافرة متنازلة عن المساواة الكاملة وعن الشخصية العربية الكاملة في دولة يهودية... هذه كلها ليست مجرد مركبات في سياسة تمييز، بل هي جزء من سياسة تشكل استمرارا تاريخيا لقضية فلسطين وتضع لنفسها أيضا أهدافا تاريخية. فهي ما زالت تجري وتنفَّذ بعقلية كولونيالية استيطانية إحلالية، وتتخذ شكلا كولونياليا أيضا.
2. انه لا يمكن أن نفهم قضية عرب الداخل بالنهج التاريخي وحده. إذا لا يكفي فهم تاريخ تشكل القضية الفلسطينية وكيفية تحول الفلسطينيين إلى أقلية في بلدهم في فهم واقعهم الحالي. يكفي هذا لفهم نشوء هذا الواقع، ولكن ليس لفهم الواقع ذاته. فهنالك ما يميز حاضرهم عن تاريخه، وإلا لما تميزوا عن بقية التجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات الفلسطيني. وهم يتميزون بأنهم خلافا لبقية الفلسطينين تحولوا إلى جزء (غير مرحب به) من الكيان الذي قام على أرضهم، ولو على هامش اقتصاده، كما تحولوا رسميا إلى مواطنين، بصرف النظر الآن عن نوع هذه المواطنة ومن أية درجة هي... وقد أدى هذان الأمرين سوية إلى تغيرات في نمط السلوك السياسي والثقافة السياسية السائدة، خاصة وأن 90% من المواطنين العرب في الداخل ولدوا في هذا الواقع الإسرائيلي، بما فيه من تغيرات ثقافية تمس حتى اللغة، أقصد لغة المخاطبة اليومية ولغة الصحافة واللغة السياسية، وتحول القرية إلى هامش اقتصادي للمدينة اليهودية... المفارقة الكبرى التي عاشها العرب في الداخل أن عملية التحديث كانت في الوقت ذاته عملية مصادرة وقطع أواصر العلاقة الاقتصادية مع الأرض وعملية تهميش، كما أن عملية التحديث ذاتها هي عملية إسرائيلية، وعملية أسرلة في الوقت ذاته.
3. كما انطلق من أن من قارب موضوع العرب قي الداخل بنيويا لم يخطئ منهجيا في فهم تميُّزِهم ( نقصد تميّزهم عن أقليات مهاجرة في دول أوروبية مثلا) فحسب، ولم يتجاهل الطابع الكولونيالي لإسرائيل فحسب، بل قاده ذلك إلى طرح مسألة المساواة كما تطرح في حالة المهاجرين في الدول الديمقراطية، أي كمطلب اندماجي. ولا يوجد خيار اندماجي حقيقي أمام العرب في دولةٍ، لا هي دولة مواطنين، ولا هي دولة تعترف ببنية ثنائية القومية. ومن ناحية أخرى، فمن قارب موضوع عرب الداخل من زاوية النظر التاريخية وحدها انتهى إلى عجز أمام فهم السلوك السياسي والثقافة السياسية السائدة عند عرب الداخل من التصويت إلى أحزاب صهيونية وحتى نشوء أحزاب وقوى "عربية إسرائيلية"، وإلى انعدام القدرة على طرح برنامج وطني في الظروف الخاصة لهذا المجتمع، لأنه ببساطة لم ير الخصوصية. وخصوصية العرب في إسرائيل مقابل أقليات قومية وإثنية أخرى هي خصوصية تاريخية، وخصوصية عرب الداخل مقارنة مع بقية الفلسطينيين هي بنيوية الطابع وليست تاريخية فحسب.
وطبعا يمكننا من هنا أن نتشعب أكثر لنجد أن التاريخي بنيوي وإلا لما تحول الى واقع قائم، كما ان البنيوي تاريخي، فتاريخه فاعل في بنيته. أ. بنية دولة إسرائيل تاريخية ليس فقط من حيث تطورها الاستيطاني بل أيضا في تعريفها لنفسها كدولة يهودية في الفكر والممارسة. وإذا طرح مطلب المساواة للغرب في الداخل بشكل كامل دون مساومات على الحقوق، ودون التخلي عن الهوية الوطنية، هوية السكان الأصليين، فإنه لا بد أن يتناقض مع البنية القائمة للدولة وتعريفها لذاتها كدولة يهودية ومع الوظائف الناجمة عن هذا التعريف. من خلال هذا التناقض يتصل مطلب المساواة الكاملة في دولة مواطنين مع القضية الوطنية الناشئة تاريخيا في صراع مع الصهيونية. ب. تأطرت تاريخية الحالة العربية في الداخل في البنية القائمة، ولذلك نشأ وضع يصاغ فيه خطاب وطني ضمن الإطار القائم، ويتخذ شكل المطالبة بحقوق جماعية والاعتراف بالعرب كجماعة قومية هي جزء من الشعب الفلسطيني والأمة العربية، والمطالبة يحق وضع برامج التدريس العربية، وبتطوير الثقافة العربية.
4. ينتج هذا الواقع الذي تجري فيه صياغة المطالب المدنية بلغة وطنية وصياغة المطالب الوطنية بلغة مدنية كما هائلا من التناقضات والتشويهات... من الانضواء تحت لواء الأحزاب الصهيونية وتشكل "العربي الإسرائيلي" وحتى إقامة أحزاب عربية قولا وإسرائيلية في الممارسة. لقد نشأت قوى سياسية ذات خطابين واحد بالعربية وآخر بالعبرية، كما نشأ في ظل التنافس الانتخابي تحت السقف الإسرائيلي نواب الخدمات الذي يتواسطون بين مطالب المواطن الفرد والسلطة الإسرائيلية الحاكمة بلغتها، أما الموقف الوطني عند هؤلاء فمسألة تُمَارسُ خطابةً في الإعلام العربي. فالقوى السياسية "العربية الإسرائيلية" لا تتخلى عن الرغبة بكسب كافة العوالم، بما فيها خطاب الولاء لإسرائيل والخطاب النضالي الوطني في وسائل الإعلام العربية. ويبدو هذا السلوك ممكنا، خاصة وأنه في ظروف نشوء تيار في الدول العربية المحيطة يجاهر بالتطبيع، و"يناضل" من أجل فرض تسوية غير عادلة على الفلسطينيين، فقد انتقل قسم من الرأي العام العربي من موقف خاطئ هو تخوين عرب الداخل إلى موقف خاطئ آخر هو اعتبار كل ما يقوله عربي بصوتٍ عالٍ داخل إسرائيل بطولة... مع أن ذلك يجري في دولة يتوفر فيها هامش واسع لحرية التعبير، ولا يكلِّفُ فيها الكلامُ كثيرا.
وكما ينتج هذا الواقع الملتبس وغير العادي تشويهات سياسية وثقافية تطيح بالتجربة العربية في الداخل، كذلك قد ينتج حالة سياسية مركبة وغنية التجربة في الوقت ذاته، إذا نجحت بالمحافظة على الهوية العربية الفلسطينية من جهة، وإذا عرفت كيف تعمل في إطار المواطنة بتحويل خطاب الحقوق إلى خطاب معادٍ للصهيونية... وطبعا إذا كانت مستعدة لدفع الثمن. فهذا الموقف يشكل حالة نضالية. وهو لا يواجه مقاومة من المؤسسة الصهيونية الحاكمة فحسب، بل أيضا من قبل القوى السياسية العربية المحلية المحتواة في فضاء سياسي ثقافي اجتماعي على هامش الدولة اليهودية والمرتبطة بالوضع القائم.
لقد كُتِب هذا الكتاب مدفوعا بأكثر من التحليل الاكاديمي الذي اعتبر في حينه تجديدا حتى في الجامعات الإسرائيلية، بل أيضا بإرساء القاعدة الفكرية لهذا الخيار الأخير الذي لا يتجنب التناقضات بل يشخصها ويحولها من قوة هدم لمجتمع لا يعي فعلها، ولا يحاول أن يوجهه، إلى قوة دفع عند مجتمع يعيها ويخضعها لمشروعه. ولذلك يجد القارئ في الجزء الثاني من الكتاب محاولة لطرح مشروع وطني ديمقراطي في ظروف الداخل يبني على جدلية العلاقة بين الوطني والمدني، وبين الخطاب العروبي الفلسطيني والمواطنة.
يصعب تخيل مشروع آخر يطرح كمشروع في هذا الواقع المركب، أي فيما يتجاوز ردود الفعل الآنية ومجاراة الأحداث. ولذلك فعندما حاول بعضُ المثقفين العرب من اتجاهات مختلفة مؤخرا، اي في الأعوام 2006-2008، التصدي لمهمة طرح مشروع متكامل لمستقبل العلاقة بين المواطنين العرب والدولة والمحيط العربي على شكل أوراق وجدوا أنفسهم يطرحون أجوبة تدور حول هذين المحورين: الهوية القومية والمواطنة، ويطرحون بتنوعات مختلفة مسألة دولة المواطنين ووجود جماعتين قوميتين وحقوق قومية. كما وجدوا أنفسهم مدفوعين بضرورة طرح مشاريع تخطيط بديلة للعرب لكي يتصرفوا كشعب في دولة تخطط لاستيعاب الهجرة اليهودية، ولبناء جيش قوي، واقتصاد يهودي قوي، وتتعامل مع وجود العرب كمشكلة وكعبء.
في هذه الأثناء حصلت تغيرات هامة تؤكد برأينا عمليتين متوازيتين جرى الكلام عنهما في الكتاب: لقد تحدثنا عن عملية "أسرلة" موضوعية ناجمة عن البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية، وأن هذه العملية تولِّد "أسرلةً" ثقافيةً تؤدي الى تشويه الثقافة العربية، دون ان تتحول الى ثقافة عبرية، كما تتجلى في تحويل الاندماج إلى مطلب، وذلك على هامش دولة تعرف نفسها كدولة يهودية ولا تقبل بدولة مواطنة اندماجية. وقد شهدنا منذ كتابة هذه الكتاب ليس فقط تطور مشروع وطني ديمقراطي يطرح نفسه على الساحة بل ردة فعل صهيونية و"عربية إسرائيلية" عليه من قبل قوى سياسية عربية تقليدية رأت به خطرا. كما شهدنا من ناحية أخرى تفاعلا غير مسبوق مع القضية الوطنية للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال عبر عنه المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل في بداية الانتفاضة الثانية، ثم شهدنا ردة فعل إسرائيلية عليها ليس فقط في تشديد ملاحقة من تنعتهم ب"المتطرفين" والتضييق عليهم، بل أيضا في عملية دعم و"تشجيع" ما تسمية المعتدلين حتى لو تأطروا في أحزاب عربية.
لقد سن البرلمان الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة عدة قوانين تراجع الحريات السياسية وتحدد الشروط المفروضة على الأحزاب لتتمكن من المشاركة في الانتخابات البرلمانية، وتمنع التواصل الحر مع الأمة العربية، وبشكل خاص الدول العربية في ما تسميه دول العدو، كما زادت في تحديد مسألة الولاء للدولة والاعتراف بها كدولة يهودية. وقد شكلت هذه تعبيرات حادة عن رد إسرائيل على تطورين هما: 1. نشوء قوى سياسية عربية تجاهر بموقفها الوطني المتمسك بالهوية العربية والمعترض على طبيعة إسرائيل الصهيونية وبدعمها لحق الشعوب في مقاومة الاحتلال رافضة التحديد الإسرائيلي الرسمي لمعنى الولاء للدولة. 2. تطوير التيار العروبي، وهو الى حد بعيد نفس التيار المجاهر في دعم حق الشعوب في مقاومة الاحتلال، لعملية تواصل بين العرب في الداخل والأمة العربية. لقد تجلى ذلك في زيارة الدول العربية، حتى تلك التي تسمى دول العدو، حين سمحت هذه الأخيرة، وذلك دون تنسيق مع إسرائيل أو طلب إذنها. لم يكن لدى إسرائيل في الماضي اي مانع من ان يقوم مواطنوها العرب بزيارات حتى لدول عربية تعرفها كدول عدو. وقد مكَّنت وفودا ونوابا عربا في الماضي من زيارة دول مثل سوريا واليمن. فإسرائيل تعتبر مثل هذه الزيارات اذا تمت بإذن منها وبتنسيق معها نوعا من التطبيع. لقد ثارت ثائرة المؤسسة الصهيونية عندما نشأ تيار يرغب بالتواصل مع الدول العربية، كعربي وليس ك"عربي إسرائيلي"، ويرفض ان يطلب إذنا لذلك من إسرائيل، لكي لا تتحكم هي بنوع العلاقة. هنا بدأت إسرائيل علمية ملاحقة قانونية لهذا التيار وسن قوانين تسمح بمحاكمة ممثليه. بذلك أوضح التيار العروبي في الداخل الفرق بين التطبيع وبين التواصل على أساس قومي. وهذا أحد أسباب ملاحقته حاليا.
وفي الوقت الذي بودر فيه الى سن العديد من القوانين التي تهدف إلى تضييق مجال العمل السياسي على القوى التي تعتبرها إسرائيل راديكالية، وحين تعرضت هذه القوى لملاحقة سياسية وأمنية، حدث ما توقعنا في هذا الكتاب منذ العام 1998 وهو اتجاه المؤسسة الإسرائيلية لتعيين وزير عربي، ذلك لأنه يسهل على المؤسسة الإسرائيلية احتواء مطلب وحلم عرب الأحزاب الصهيونية هذا. فهي تتجه من التمييز العنصري البسيط الى التمييز المركب القادر على احتواء مطالب رمزية للعرب "المعتدلين" تنفس الاحتقان وتورط جزءً من العرب مباشرة في المسؤولية عن سياسات الدولة العنصرية. لقد تم تعيين وزير عربي مرتين في حكومات إسرائيل منذ الفترة التي صدر فيها الكتاب، وقد عين واحد منهم في حكومة شارون. ولم نشهد عملية مقاطعة عربية لهذا النوع من التورط في السياسة والمؤسسة الصهيونية في محاولة لنزع الشرعية عنه.
وفي مقابل توسيع هذا النمط من فهم "الحقوق" كاحتواء في سياسة التمييز القائمة، وهذا النموذج من "المساواة"، تطرح الحكومة الإسرائيلية مسألة الخدمة الوطنية الإسرائيلية على العرب كبديل عن الخدمة العسكرية وكشكل من اشكال تعبير الشباب العرب عن "الولاء للدولة"، وخلق فضاء سياسي "عربي إسرائيلي".
وعلينا أن نذكر أن الخطر ماثل في غياب مؤسسات دولة وطنية عربية، وغياب حتى مؤسسات اجتماعية اقتصادية عربية مستقلة. وبرامج التدريس في المدارس العربية لا تمنح الطالب أيَّ نوعٍ من التربية الوطنية، وأيّ نوع من المعرفة المنهجية لتاريخ شعبه. يفترض إذا أن يتم الحفاظ على الهويّة العربية والفلسطينية وتطويرها على مستوى التنظيم الذاتي السياسي والاجتماعي وبناء المؤسسات التي تقدم أطرا ومضامين وطنية بديلة للطلب.
ولكن محاولات التحكم في أجندات المجتمع العربي وإعاقة تنظيمه على أساس قومي تأتي من مصادر أخرى أيضا. فمن الظواهر التي نشأت مؤخرا أيضا في العقد الأخير ولوج مؤسسات التمويل الاجنبية، الأوروبية والأميركية ساحة العرب في الداخل، كما فعلت قبل ذلك طيلة عقود في الضفة الغربية وقطاع غزة حاملة أجندة شبيهة جدا بأجندة حزب العمل الإسرائيلي في دعم المعتدلين ومحاربة المتطرفين، واحتواء مثقّفين في صناعة الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، وإبعادهم عن الفعل السياسي المباشر، ونشر ثقافة التعايش عند الشعب الواقع تحت الاحتلال وحده، والتحكم بأجندة التنمية السياسية بوضع أجندات غربية في مقابل الأجندة الوطنية وحاجات المجتمع العربي. لقد جرى بذلك إبعاد كم كبير نسبيا من المثقّفين خاصة العلمانيين واليساريين عن دائرة العمل الساسي والوطني، أو إخضاع عملهم لأجندة صناديق الدعم. ويجرى بشكل واضح حرمان المؤسسات ذات الأجندة الوطنية المستقلة من التمويل بما فيها المؤسسات الثقافيّة والبحثيّة التي تضع نصب أعينها إجراء أبحاث بأجندة وطنيّة مستقلّة. ويُفترَض أن يشكل المثقفون في مجتمعات العالم الثالث مركبا أساسيا في الحركات الوطنية. وكان الملفت هو دخول حتى صناديق دعم مالي أميركيّة صهيونيّة ساحة العمل في أوساط العرب في الداخل بعد الانتفاضةِ الثانيةِ، وذلك بعد أن كان دعمها يقتصر في الماضي على الدولة والمجتمع اليهودي. وطبعا ما زال دعمها موجّها بالاساس للمجتمع الصهيوني، ولكن يمكن النظر الى هذا الإجراء كخطوة استثنائية لأسباب سياسية متعلقة بدعم "الاعتدال" و"تشجيع" نزعات التعايش مع الصهيونيّة عند العرب، دون تغيير سياسة الدولة ذاتها.
يزداد الواقع الذي تناوله هذا الكتاب تركيبا إذا، ويفرز في تطوره نفس الصراعات. فنفس القوى التي كانت تعارض تطوير رؤية بديلة لرؤية المؤسسة الحاكمة لمستقبل عرب الداخل كشعب، استسلمت لرغبة العرب أن تكون لهم مؤسسات مستقلة عن الدولة، ولكنها تحاول الآن التحكم بها عبر التمويل وغيره، وتحولها إلى أدوات رقابة وسيطرة ونكريس نهج "اعتدال"... ينطبق صراع الأضداد هذا على كافة التطورات. فقد استسلمت الدولة لمطلب العرب في تحصيل وظائف وفرص عمل في المؤسسات الحكومية، ولكنها تحاول الآن ان تتحكّم بالعدد والنوع ومواقف الناس الذين يتم تعيينهم، كما تطالب بالولاء وفرض الخدمة الوطنية الإسرائيلية على الشباب العرب مقابل ذلك. لا يتوقف التطور بعد تحقيق أمر ما، بل يعاد إنتاج نفس أطراف التناقض ونفس الصيرورات المتناقضة على حلبة أخرى على مستوى أعلى.
لن نلمّ في هذه المقدمة للطبعة الثالثة من الكتاب بكافة التطورات التي وقعت في العقد الأخير. وإنما رغبنا هنا فقط بتقديم لمحة عن نوع التطورات، وكيفية فهمها في إطار النموذج النظري الذي قدمه الكتاب، وفي فهم الحالة التي تشكل موضوع بحثه.
يبقى موضوع هذا الكتاب راهنا وهاما، وامتحانه في مدى علمية النموذج الذي يقترحه وقدرته على تفسير الواقع المركّب الذي يتناوله. ونبقى مدينين لمؤسسة دراسات الوحدة العربية على مثابرتها في التوزيع وفي تنوير القارئ العربي بمثل هذه القضايا.