جاء الكتاب في اثني عشر فصلًا، فعالج الفصل الأول "مقدمة نظرية" التمييز بين المفردة والمصطلح والمفهوم، وشرح أن المفردة تترجَم، وكذلك المصطلح، أما المفهوم فلا تعني ترجمته شيئًا إذا لم يثبت نفسه في تفسير الظواهر في السياق الذي ينقل إليه عبر الترجمة. فيما عالج الفصل الثاني "مقدّمات العصر الوسيط" باختصار العلاقة بين الكنيسة والكيانات السياسية التي بدأت تتبلور على أنقاض الإمبراطورية الرومانية كعلاقة وحدة وصراع انتهت إلى صعود الدولة؛ واعتبر المؤلف صعود الدولة هذا ومركزة سلطة الملك من أهم علامات نهاية العصر الوسيط. فيما يتطرق الفصل الثالث "النهضة والأنسنية الكاثوليكية ومركزية الإنسان" إلى ما سيعرف بعصر النهضة الذي شهد نهضة الآداب والفنون واللاهوت الأنسني الكاثوليكي ويبيّن كيف تحوّل ثراء الكنيسة ونفوذها إلى بيئة ترعى ثقافة دنيوية في موضوعاتها وتوجهاتها. ويشير كذلك إلى النزعات الكلاسيكية لهذا العصر المتمثلة بالعودة إلى الفلسفة والفنون اليونانية والرومانية، وإلى الفكر السياسي الروماني مع ردات الفعل الأصولية على هذه التحولات المهمة.
تطرق الفصل الرابع "الإصلاح الديني" إلى فكرة أن البروتستانتية لم تنشأ دفعة واحدة، بل تفتحت من براعم فكرية مهمة في حركات شبه بروتستانتية مبكرة انتقدت ما انتقده مارتن لوثر من دنيوية الكنيسة وثرائها وسلطاتها الدنيوية وقدراتها المزعومة على منح الخلاص للبشر. كما تابع تطوّر انشقاقات التيارات الأصولية في البروتستانتية، معتبرًا الانشقاق نتيجة طبيعية لمنطق البروتستانتية الذي لا يؤمن بمرجعية كنسية. وقد قاد منطق البروتستانتية القائم على حق المؤمن في فهم النص إلى مصائر مختلفة من العنف والتكفير وهجر المجتمع من جهة، وإلى التيارات المُسالِمة المناهضة لأي عنف التي أسست فكرَ التسامح لاحقًا من جهة أخرى. وهي التي رفعت مطلب الحرية الدينية، فأرست تقليدَ تحييد الدولة في الشأن الديني في الدول البروتسانتية بعد قرون. فيما يعتبر الفصل الخامس "في نشوء منطق الدولة" فصلا مركزيا في الكتاب لأنه يتناول فكرة الدولة، التي لا يمكن فهم العلمانية من دونها، بشكل جديد؛ ويُميز بين مصطلح الدولة ومفهومها، ويشرح الفرق بين السلطة والدولة؛ والإمبراطورية والدولة بالمعنى الحديث للكلمة كسيادة على أرض وشعب، وبمعنى ظهور فئة السياسيين المتفرغين، كما يتتبع نشور فكرة الدولة والسلطة المطلقة.
يقطع الفصل السادس "الدين وبداية الاكتشافات العلمية" هذ االمسار للوقوف عند مسار آخر متقاطع معه ألا وهو تطور العلم التجريبي والتفكير العلمي، فيحاول تحليل العلاقة الجدلية للكنيسة بالعلم، كما يدرس في طريقه لفهم نشوء العلمانية تحول العلم إلى نمط وعي سائد في فهم الظواهر الطبيعية، محاولا شرح معنى أن يسلب العلم المعنى من المجالات التي يقتحمها. فالكون بموجب التصورات الدينية عالمٌ له بداية ونهاية وهدف وغاية. وعلى هذه الرؤية يقوم بناء أخلاقي مشتق من معنى حياة الإنسان في الكون. ومع زوال المعنى تدريجًا من الكون والظواهر الطبيعية، بما فيها الحياة ذاتها، يدخل التصور هذا في مأزق.
يعالج الفصل السابع "بين العقل في إطار الدين والدين في إطار العقل" المساحة الواقعة بين الريبية المطلقة واليقين المطلق في بحث عن جدلية إخضاع العقل لليقين الديني وإخضاع الدين لليقين العقلي، وكيف يميل التطوّر الفكري إلى الصيرورة الثانية، وذلك لاستحالة وجود علم يقيني في الإلهيات. فنحن نميز اليقين المعرفي غير الممكن في الإلهيات من اليقين الإيماني. كما تم التطرق إلى «علمنة » المجال الديني نفسه بتعريضه للمنهج العلمي والريبية النقدية.
أما الفصل الثامن "في بعض جوانب موضوعة الدين في فكر التنوير" فقد خصص لدراسة فكر التنوير بغرض تجاوز الأفكار المسبقة والرائجة في شأن هذه الموجة الفكرية، منطلقا من المشترك بين مفكري التنوير وهو التفاؤل المعرفي والاعتقاد بأن المعرفة العلمية تضمن حل مشكلات المجتمع باعتبار أن هذه المشكلات تنبع من الجهل والخرافة، وبعد عرض الخطوط الرئيسة في فكر التنوير ممثلًا بأهم نماذجه، أفرد المؤلف جزءًا من الفصل لعرض ردة الفعل الكاثوليكية المحافظة عليه في فرنسا في مرحلته عينها؛ وهي ردة الفعل التي لم تنل الاهتمام البحثي الذي يليق بها. بينما يعرّج الفصل التاسع "ما بعد التنوير بإيجاز: من الريبية إلى العقل المطلق ومنه إلى نقد العقل" على التنوير الألماني ممثلا بكانت وتفاعله الفلسفي مع ديفيد هيوم الذي حاول تفسير الدين انطلاقًا من الطبيعة الإنسانية، لا من الوحي أو الغيب، وتطرق بتوسع نسبي إلى فلسفة هيغل التي اعتبرها المؤلف نقدًا لنقد التنوير، لكنه نقد يتجاوز قصورات التنوير نفسها ويرفعه إلى درجة نسق فلسفي مثالي. وهو يستوعب نقد التنوير للدين، ونقد الفكر الديني للتنوير بإعادة الاعتبار إلى الدين كجزء من عملية فهم الفكرة لذاتها. فالدين هو أكثر الوسائل يسرًا وشيوعًا في التواصل مع المطلق. وجوهر التدين هو الحياة الأخلاقية. وما دام الدين هو الحامل الرئيس للوعي الأخلاقي لا بد من أن تكون للدولة علاقة بالدين.
يتناول الفصل العاشر "العلمانية باعتبارها أيديولوجيا في القرن التاسع عشر" الجمعيات العلمانية العاملة في الشأن العام والتي بشرت بأخلاق اجتماعية صارمة ليس الدين مرجعيتها، والتي اعتمدت على مثقفي الطبقة الوسطى الذين أسّسوا لمطلب فصل الدين عن الدولة، كما يتطرق الفصل إلى موقف الحركة الشيوعية في القرن نفسه _القرن التاسع عشر_ من الدين، بينما انطلق الفصل الحادي عشر "نماذج في النقد الحداثي للتنوير" إلى نماذج حداثية في نقد التنوير، ومنها ما أصبح يسمى ما بعد الحداثة. منطلقا من أحد أهم تجليات أزمة الحداثة المتمثل بصدمة سيطرة الفكر النازي والشمولي عمومًا في مجتمعات صناعية متطورة تهيمن عليها ثقافة عقلانية. كما تناول كأنموذج المدرسة الفكرية التي شخّصت أصل المشكلة في المنزلق الخطير الكامن في تحويل العقل إلى أداة، والمؤدي حكمًا إلى قلب الإنسان إلى أداة.
يتطرق الفصل الثاني عشر: نماذج ليبرالية وديمقراطية معاصرة في حرية الدين والعقيدة إلى بعض النقاشات المعاصرة في ما يتعلق بالموقف من علاقة الدين بالدولة بعد أن بينا عدم وجود علاقة ضرورية بين الليبرالية واقتصاد السوق الحرة، وأن ما يسمى الليبرالية الاقتصادية لم تُعبّر عن نفسها بنظام حكم محددٍ، وحين اندمجت في الدولة لم تنتج ليبرالية سياسية. وانطلقت الفلسفة التي أطلق عليها لاحقًا تسمية ليبرالية من افتراض البشر كأفراد لهم الحق بالحياة والحرية والملكية الخاصة عند جون لوك. وكان هذا هو التأسيس النظري لحرية الاعتقاد وضرورة التسامح الديني.