تسبر هذه الورقة ما لمصطلحيّ العدل والعدالة من تاريخ عريق وعابر للثقافات، تقلَّبَ وتطوّرَ إلى أن بلغ مفهومه المعاصر الذي يربط العدالة بالمواطنة عبر مفهوم الحقوق، وذلك بعد طول انفصال بينهما.
هكذا، تستكشف الورقة معالم الطّريق الذي سارت عليه فكرة العدالة في تطوّرها، من أفلاطون وأرسطو وزينون وشيشرون والقانون الروماني، مرورًا بالتوراة وتعاليم المسيحيّة والتصوّر المثالي الإسلامي للمُلْك، وصولًا إلى ثورة الفكر الحديث.
تكشف الورقة، بشأن العدالة في الحداثة، أنّ الشيء المميّز هنا هو مفهوم "الحقوق" الحديث الذي تأسست عليه العدالة في خطوة أحدث. كما تكشف توسّع مفهوم العدالة لتقوم على المساواة الاجتماعية وليس الطبيعيّة فقط ولتأخذ الحرّية في الحسبان بوصفها أحد مركّباتها. من جون رولز وأمارتيا سن، تدلف الورقة إلى لقاء العرب مع الحداثة الغربية (خاصّة لدى الطهطاوي) وإلى ما يواجه الفكر العربي من تحدّيات راهنة على مستوى مركّبات العدالة جميعًا (الحقوق المرتبطة بالمواطنة المتساوية، العدالة الاجتماعية، الحرّيات المدنية والسياسية). وترى أن المراحل الانتقالية، كالتي يعيشها العرب الآن، هي المناسبات الأفضل للخوض في موضوع العدالة وطرح التصوّرات النظرية والعملية حولها.
غير أن الأهم، والأميز، هو ما تطرحه الورقة من قضية رابعة لا يمكن لأي مفهوم للعدالة في سياق بناء الدولة الحديثة أن يتجاهلها، وهي "مسألة الهوية" التي يكتسي طرحها مزيدًا من الأهمية عربيًا بسبب ظاهرة تسييس الهويات الفرعية داخل الدولة في خضم الصراع ضد الاستبداد، وضرورة معالجة ذلك كلّه في سياق مستنير، بحثًا عن نظرية لا تنظّم العلاقة بين مبدأي المساواة والحرية فحسب، بل تبحث أيضًا عن مفهوم للعدالة يشمل جماعات الانتماء، أو الهويّات، من دون أن يأتي على حساب الحرّية والمساواة، بل على قاعدتهما.
أول ما ينفتح أمامنا عند مقاربتنا موضوع العدالة هو الطريق السهل المؤدي إلى تفسير العدالة بضدّها. وهذه طريقة في التعريف تُدعى مدرسيًا بالتعريف السلبي، أو السالب (وهو الأدق). وهو التفسير المألوف منذ شريعة حمورابي؛ كون العدالة هي منع الشر الكامن في الظّلم، وذلك بواسطة قواعد مفروضة، سواء أكانت تعاقديّة أم عقابيّة. ومن هنا اعتبار العدل كامنًا في تطبيق هذه القواعد، سواء أكانت أعرافًا أم قوانين.
وإذا رغبنا في تجاوز ذلك إلى المعنى الموجب، فإن الأسهل لنا أن ننطلق أولًا من معنى لفظ العدالة كمصطلح (قبل أن تصبح مفهومًا مبلورًا في نظريات) لنجد أنه يقع في حقول دلالية متقاطعة مثل التساوي، والمعاملة بالمثل، والملاءمة، والاستقامة، وغيرها من الدلالات التي يتضمّنها اللفظ العربي؛ فلفظ "عادَلَ" بالعربية معناه ناظَرَ أو شابَهَ، وهو يعني أيضًا وازَن، و"عدّل" الشيء أي صحّحه وجعله مستقيمًا، ومن هنا ارتباط مقولة شهيرة من مأثور عمر حول تقويم الاعوجاج بالعدالة: "من رأى منكم اعوجاجاً فيَّ فليقومني". الاستقامة والعدالة في مقابل الظلم والاعوجاج. وكذلك نجد الزيغ والميلان والهوى، في مقابل العدل. فالعادل هو أيضًا من لا يميل به الهوى حين يحكم بين خصمين، أو حين يطبّق القواعد الاجتماعية المانعة للشرّ.
حتى فعل عَدَل في "عَدَل عن" بمعنى تخلّى عن فعل، أو تراجع عن القيام بأمر أراد القيام به، إنما يفيد معنى التفكير بالأمر ووزنه قبل القيام به إلى درجة رجحان العدول عنه. ويقول ابن منظور في لسان العرب: "إن العدل هو ما قام في النفوس أنه مستقيم". وعكس العدل في العربية هو الجوْر أو الظلم، وليس الـ"لا-عدل" كما في الإنكليزية؛ ففي تلك اللغة نجد في مقابل كلمةjustice كلمة injustice. وقد صنّف لسان العرب الاستخدامات القرآنية للعدل كما يلي: العدل في الحكم، قال الله –تعالى-: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾[1]، والمقصود هنا طبعًا الحكم بين الناس لا حكم الناس، أو السلطة عليهم. الحكم هنا هو القضاء في مفهومنا المعاصر. كما نجد في القرآن العدل في القول ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾[2]، والعدل بمعنى الفدية: ﴿وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾[3]، والعدل في الإشراك: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾[4] أي يشركون، وأمّا قوله – تعالى-: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾[5] وذلك في التحفظ القرآني على تعدد الزوجات المتاح شرعيًا مع واجب العدل بينهن، مع استحالة العدل بين النساء، ولا سيما في توزيع الزوج لواجباته الزوجية بين النساء.
وقد يعتبر المرء هذا الأمرَ هامشيًّا باعتبار أن المفاهيم لا تُشتَقّ فيلولوجيًا من الألفاظ، ولكننا نتعامل هنا مع لفظ له تاريخ في التحول إلى مصطلح؛ وحتى في ترجمة dike اليونانية إليه.
وهذا التاريخ العريق والعابر للثقافات والحضارات لمفهوم العدل والعدالة هو في رأينا جزء من المفهوم المعاصر، من منطلق التاريخ البحت للأفكار التي يتّسم انتقالها جزئيًا أو كليًا، أو بروز أحد عنصرها، بتعقيد شديد. وهو ما يختلف الباحثون في تعريفاته، ليس فقط لأنهم يختلفون في المنهج، بل لأنهم أيضًا يختلفون في المواقف القيميّة، أو المعيارية. ومن حقنا، بل من واجبنا أن نأخذ المصطلح العربي بجدية، إذا أردنا أن نتعامل مع سؤال العدالة في السياق العربي.
ابتدأ تاريخ هذا اللفظ كمصطلح مع نشوء مفهوم الشريعة التي يشكّل القانون صلبها، وذلك باستخدامه للتدليل على التعامل بالمثل من العين بالعين والسن بالسن في شريعة حمورابي، حتى الدلالة على "إعطاء كل ذي حقٍ حقّه"، وهو المجال الدلالي الذي يشمله اللفظ العربي. ولا شك أن في إعطاء كل ذي حق حقه بعضًا من بقايا دلالة التعامل بالمثل، فما يفترض أن يُعطى للإنسان هنا يتماثلُ مع حقّه.
وقد يتعذّر التوفيق بين دلالة التساوي والتعادل الكامنة في خصوصية اللفظ، وبين مفهوم العدالة القائمة على التراتبيّة الهرمية في عصور ماضية، مثلما يبدو التوفيق بين الامتيازات والحرمان القائمة في الأنظمة الاجتماعية السياسية التراتبية عسيرًا. فحتى بداية العصر الحديث -ونفكر هنا بالتاريخ الغربي- لم تعن العدالة تساوي المواطنين في الحقوق أو في الواجبات. ومفهوم الحقوق المرتبطة بالمواطنة هو بحد ذاته مفهوم حديث. ولم يتكون دفعة واحدةً بل على دفعات استغرقها تطور تاريخي طويل. والتالي، لم يكن مفهومًا مكوّنًا بل مفهومًا يتكون باستمرار في سياق التطور التاريخي. وحتى حين طرحت الأرستقراطية مسألة الحقوق في العلاقة مع الملك (المغْناكارتا مثلًا) فإنها كانت تقصد امتيازات اللوردات. ليست المواطنة مفهومًا حديثًا (إلّا بمضامينها الجديدة) ولا العدالة مفهوم حديث. ولكن ربط العدالة بالمواطنة عبر مفهوم الحقوق هو الحديث في مفهوم العدالة. وهنا يكمن جوهر ثورة عصر الحداثة في تصور العلاقة بين المواطن والدولة.
قامت نُظُم ما قبل الحداثة على التراتبية المولودة كأساس للامتيازات أو غيابها، وكان يمثّلها النظام الإقطاعي" الفيودالي" الفرنسي بتراتبيته المعقدة وامتيازيته الشديدة، وانبثق عنه نظام من الحقوق والامتيازات التراتبية هو نظام الامتيازات الاجتماعية والتراتبية ما قبل الثورة الفرنسية. وضد هذه الهيئات" الفيودالية" قامت الثورة الفرنسية، ضد ما نعنيه اليوم بمبسّطاتنا "النظام الإقطاعي". لقد كانت ثورة على نظام" فيودالي" كامل. تعني العدالة غالبًا تلاؤمَ حصص مختلفة من المنافع أو الخيرات (goods)[6] مع المراتب والطبقات المختلفة، وكذلك في الامتيازات الإقليمية، مثل إدارة الأقاليم، وتلك الممنوحة للبارون، أو الأمير، أو الوالي في تسيير الشأن العام في منطقته أو في مجاله. وتتلاءم مع ذلك حتى إجراءات عقابيّة مختلفة تتواءم ومرتبة الإنسان ومنزلته الاجتماعية. لكن العدالة لم تعن فوضى الاختلاف؛ فثمة نظام مضبوط من توزيع الحصص في الثروة والجاه والسلطة والولاء أيضًا. ولا شك أن الفارق بين العدالة وغيابها كان في مدى الالتزام بقواعد تدير الفوارق هذه بين الطبقات، أو الطوائف الاجتماعية (بمعنى estates) أو تدبّرها؛ العدالة هنا تعني تدبير معقول للتراتبية، كما أنها كانت تعني سريان نوع من المساواة والتعامل بالمثل بين من ينتمون إلى الفئة المرجعية نفسها: منزلة اجتماعية، طائفة، طبقة...
ويمكن للباحث أن يختار زاوية نظر يراجع من خلالها تاريخ تطور العدالة منسوبًا إلى تطّور فئة من الفئات وتوسيعها وتضييقها مثل: فئة الأحرار، فئة المواطنين، الشعب، الأمة، الدولة، وكذلك إلى انحسار مفهوم الامتيازات مع توسّع هذه التعريفات للفئة التي تنطبق عليها العدالة حتى نصل إلى فكرة الحقوق والواجبات في الدولة الحديثة.
مفهوم الحقوق هذا مفهوم حديث، وأحدث منه في الأدبيات الحديثة تأسيس العدالة عليه. وهذا ما لم يكن ممكنًا أن يخطر ببال أفلاطون مثلًا؛ فالمتوافر في مفهوم العدالة عنده هو ذلك الأساس الذي يبقى في أي حس أخلاقي بالعدالة، وهو الحس بالتناسق، والملاءمة، والاعتدال، والتناظر، وجميعها من الحقل الدلالي للتساوي، والتماثل. وهي قائمة في الكون بشكل عام. ولكنه لا يعني المساواة بالحقوق والواجبات بعد. فالعدالة عنده هي أن يقوم كل إنسان بوظيفته بحسب كفاءاته ومقدراته المتلائمة مع بنيته الذهنية والطبيعية، وليس في إطار مساواة في الحقوق أو الفرص أو غيرها. العدالة هنا هي ذلك الانسجام المتحقّق نتيجة قيام كلِّ إنسان بواجباته تبعًا لكفاءاته ومرتبته المحددة بموجب ذلك، وبحسب مرتبات في النفس البشرية ذاتها، بحيث ينسجم نسق الكون وبنية النفس وتنظيم الدولة.
وقد طرح أفلاطون في حوارات الجمهورية أغلبية الأسئلة والمعضلات التي تشغلنا حتى اليوم بشأن العدالة: هل لها علاقة بمفهوم الخير؟ ما علاقتها بمفهوم القوة والسلطة والقانون؟ ونحن نجد على لسان المتحاورين تلك الأفكار المبكّرة التي يمكن اعتبارها جذور النقاش المعاصر الدائر حول قضايا العدالة في الحداثة: أولًا، بدايات نظرية منفعية للعدالة على لسان سقراط تتضمن نوعًا من التبادلية أو التعامل بالمثل بين من ينتمون إلى الفئة عينها؛ ثانيًا، العدالة كتعبير عن علاقات القوى السائدة في المجتمع، كما عند السفسطائيين، أي كمفهوم خطابي (بلغة ما بعد الحداثة)، أو أيديولوجيا بلغة الحداثة؛ وثالثًا، أن العدالة ليست معطًى طبيعيًا وإنما هي تدبير مجتمعي لتقييد نزعات طبيعية عند البشر، ومن العدالة أن يطيع الناس ما توافقوا عليه، ومن الظلم أن يعصوه. نجد هنا جذور فكرة العقد الاجتماعي في تاريخ الأفكار المؤسسة على مفهوم القانون.
وللعدالة عند أرسطو معنى في سياق المنزلة الاجتماعية/السياسية الواحدة، أو في سياقٍ مرجعيٍّ محدّد. فالعدالة تكون بالتساوي بين الرجال المواطنين الأحرار؛ ففي فكره وفكر معاصريه لا عدالة في التساوي بين الرجال والنساء، ولا بين الأحرار والعبيد، أو بين سكان مدينةٍ دولةٍ ما وسكان مدينةٍ دولةٍ أخرى. العدالة هنا تعني التفاوت لا التساوي. وهذا يصحّ في حضارات ما قبل الحداثة كافة. وقد بقيت آثار هذا الفهم للعدالة قائمة حتى يومنا في عدم نشوء عدالة كونية، إذ إن الوحدات المرجعيّة للعدالة لم تتوّحد حتى اليوم.
لكن مرجعية العدالة توحّدت في الدولة الوطنية على الأقل. وكلما توحّدت المرجعية التي بموجبها تُحدّد العدالة خُفّف مضمونها الموجِب، وكلما ضمر المضمون ازداد وزن الإجراء. في الدولة الوطنية ازدادت تعريفات العدالة وممارستها إجرائية. لقد خففت الصيرورة التاريخية من المضمون الموحّد للعدالة، وازداد الاعتماد على الإجراءات (الشكلية) أي القانونية العادلة، ولكن ليس من دون مضمون، فقد تثبتت في التراكم الزمني مبادئ قيمية معيارية للعدالة يمكن التوصل إليها إجرائيًا. ومن دون ذلك، لا يمكن فهم التطور التاريخي الذي يقود إلى العدالة في إطار النظام الديمقراطي.
لم يعد ممكنًا تخيّل عدالة لا تعني تساويًا ما بين المواطنين (تساوٍ سياسي، أو تساوٍ اقتصادي بالفرص، أو تساوٍ بالقدرات، أو على الأقل تساوٍ أمام القانون، أو جميعها)، ولكن حتى يومنا هذا، لا تعني العدالة تساويًا بين الدول والشعوب إلّا عبر علاقة تبادلية ضامرة جدًا، ولا يضمنها قانون في الواقع؛ ولم تستطع حرية التجارة ومنظمتها العالمية أن تحقق العدالة في وصول بلدان الجنوب والشمال إلى منافع متساوية بقدر ما قامت على منظومة جائرة من الامتيازات تخلق خاسرين ورابحين بالمفهوم النيولبرالي للعدالة، وظالمين ومظلومين في نقد ذلك المفهوم. ثم إن العدالة تصبح قاصرة في غالبية الدول حين يتعلق الأمر بالتفاوت بين المواطنين وغير المواطنين، وأحيانا حين يتعلق الأمر بالفئات المختلفة داخل الدولة ذاتها. هذا عدا عن أن العدالة التصحيحية، العقابية أو الجنائية التي غالبًا ما تكون موحّدة نظريًا في سريانها على المواطن وغير المواطن على الأقل داخل الدولة. أمّا محاولة تطبيقها بين الدول، فما زالت حلمًا، أو أيديولوجيا تفتقر إلى الواقع.
معالم في طريق فكرة العدالة
قسّم أرسطو العدالة، بمعنى الإنصاف في توزيع حصص الأفراد، إلى شكلين: عدالة التوزيع وعدالة التصحيح. والحصة المنصفة التي يحصل عليها شخص ما لا تكون بالضرورة حصة متساوية مع غيره؛ فالتناسب بين الحصص يجب أن يخضع للتناسب بين الأشخاص. وإذا لم يكونوا متساوين فمن العدل ألّا تتساوى حصصهم. وقد كتب أرسطو في كتاب الأخلاق النيقوماخية: "إن أصل النزاعات هو في حصول متساوين على أشياء غير متساوية، وفي حصول غير متساوين على أشياء متساوية[7]... يعترف الجميع بأنه ينبغي تطبيق العدالة التوزيعية، على أساس الاستحقاق القائم على الأهلية، على الرغم من أنه لا يتفق الجميع على نوع الأهلية ذاته الذي يمكن أن يقرر الاستحقاق. فيدّعي الديمقراطيون أن هذا المعيار هو منزلة الرجال الأحرار، ويقول أتباع الأوليغاركية إنها الثروة (وفي بعض الأحيان النبل بالولادة، أو النسب)، أمّا الأرستقراطيون، فيقولون إنها الامتياز أو البراعة"[8]. ولا يحاول أرسطو أن يحكم بين هذه المعايير، لكّنه يتمسك بمبدأ التناسب بموجب علاقة التساوي وعدم التساوي المختلف على معاييرها بين الأفراد وبين الأشياء، كما أسلفنا. و"العادل هو المتناسب، أمّا غير العادل فهو الذي يخرق التناسب"[9]، أي إذا حصل توزيع للخيرات ونقيضها (تحمّل ما هو عكس الخيرات أي الشرور أو الأعباء)، يجب أن يجري ذلك بما يتناسب مع المساهمات التي يقدّمها الأفراد، ويحصل الظلم الذي يتناقض مع هذه العدالة عند عدم الالتزام بمبدأ التناسب.
أمّا عدالة التصحيح، فهي في الواقع عدالة قضائية، تصحح عدم التناسب. وهي وسيطة، بمعنى أنها تبحث عن الوسط بين غير متساوين، بين من زادت حصته ومن نقصت. وهي تبحث عن المساواة في العدالة التوزيعية التي تقوم على العلاقات التبادلية الطوعية (ما نسمّيه في عصرنا العقود والقانون المدني). وهنا تبحث العدالة عن الوسط لتصحح الزيادة والنقصان عنه، ولذلك يُعتبر القاضي فيها وسيطًا. أمّا في حالة التبادلية غير الطوعية، بدءًا بالسرقة والغش وانتهاء بالقتل (أي ما نسمّيه في عصرنا الحق العام)، فإنها لا تأخذ بعين الاعتبار المساواة التناسبيّة، بل تتعامل مع مساواة مطلقة في قضايا قيميّة مطلقة مثل الغش والسرقة والزنا وغيرها. وهنا يتم تصحيح الخطأ من دون اعتبار شخصيات الفاعلين والمتضررين، وقيمة مساهمتهم الاجتماعية، إذا كانت الضحية من المرتبة ذاتها.
على الرغم من أن فكرة العدالة قابلة لأن تُطَبّق على أي شكل من الروابط بين الأشخاص المتساوين نسبيًّا، فإن الميدان الأكثر أهمية لسيادة العدالة هو السياسة[10]. لقد كتب أرسطو يقول: "والعدالة السياسية ممكنة بين رجال يتشاركون في علاقات متبادلة، ويعيشون حياة مشتركة ويحكمهم علاقاتهم قانون. والقانون يحكم في العلاقات والأعمال غير العادلة، حينما يأخذ الإنسان لنفسه أكثر ممّا يستحق من الخيرات، ويتحمّل قدرًا أقل ممّا يجب من الأعباء. ولهذا لا نسمح لرجل أن يحكم، فما يحكم هو القانون، لأن الرجل يتصرف بموجب مصالحه الذاتية ويصبح طاغية "[11].
ويقسّم أرسطو ما هو عادل سياسيًّا إلى صنفين، العادل بطبيعته والعادل عرفيًّا (أو قانونيًا). ويتأثّر التفسير الأكثر انتشارًا لتصوّر أرسطو للعادل بطبيعته بالتصورات الرواقيّة والمسيحيّة، والتصورات الحديثة عن القانون الطبيعي. وكلّها تتعامل مع القانون الطبيعي كمعيار أبدي وثابت وشامل يمكّن الانسان من الحكم على مدى عدالة النصوص القانونية. الحقيقة أن أرسطو لم يقصد هذا، فالعادل بطبيعته يختلف عن تطوّرات هذا المفهوم في الفكر الرواقي، وفي المسيحيّة، وفي نظريات العقد الاجتماعي لاحقًا. فقد كان لفكرة العدل الطبيعي ورديفه العدل الإلهي دور مهم جدًا في تبلور الفكر السياسي والاجتماعي اللاحق منذ الرواقية.
لكن أرسطو يعتبر ما هو عادل بطبيعته أمرًا متغيّرًا، مثل العادل عرفيًّا أو قانونيًا. والفارق بينه وبين العادل عرفيًا يكمن في أنه غير مرتبط بتقلّب تفكير البشر أو أهوائهم. وقد قصد أرسطو التفريق في ذلك بين العدالة وقواعد السلوك الشائعة التي يعتبر خرقها ابتعادًا عن العدل. العادل بطبيعته يشير إلى الأمور التي نراعيها حتى في غياب مجموعة من القواعد والأعراف. وهي متغيرة كما تتغير الأشياء الطبيعية، لكنها لا تتغير بمجرد اتفاق البشر على قواعد مخالفة لها، أو بتغير أهوائهم ومصالحهم.
العدالة القانونية هي ما يتفق عليه الناس قانونيًا، وما يجري عليه الاتفاق أو العرف. وأمّا العدالة الطبيعية، فهي أقرب إلى الفعل الناجم عن أحكام خلقية تدفع لرفض الرذيلة والمساهمة في أعمال تدفع الاعتداء أو الجريمة، وتساهم في إسعاد البشر. هذا بينما العدل العرفي ليس بالضرورة عادلًا بطبيعته؛ فكل قانون هو عادل لأننا نتفق على أننا نعتبر ما ينتج من التشريع عادلًا. لكن القانون يصبح عادلًا فعلًا عندما يصاغ ببراعة وعناية وتعقّل. وتظهر التناقضات بين القانون والعدالة عندما يفتقر النظام السياسي إلى الخاصية الأساسية، وهي بالتحديد العيش المشترك بين أشخاص أحرار ومتساوين نسبيًا (أي نسبة إلى المعيار المتّفَق عليه، كما أسلفنا). فالعدالة هي القواعد اللازمة لعيش مشترك يجمع أفرادًا أحرارًا ومتساوين. ومن دون هذا لا تعني العدالة كنظام حياة شيئًا، فنعود القهقرى إلى معانيها كلفظ، ودلالاتها المتعلقة بالتعامل بالمثل. ويؤكد أرسطو أن فعل الإنسان الحر فقط هو الذي يُعتبر فعلًا عادلًا أو غير عادل، أمّا فعل الإنسان غير الحر فلا تنطبق عليه صفة العدالة أو غير العدالة، إلّا حدوثًا وبشكل مفارق incident, contingent) ).
هذه العناصر تظل في رأينا ثابتة كأطر للعدالة السياسية. وما يتغير هو توسع الفئة التي ينطبق عليها هذا التعريف، وتوسّع التعريف ذاته، وأقصد تعريف الذوات التي تنطبق عليهم (بتوسّعهم من جماعة الرجال الأحرار الذين يحكمهم قانون إلى فئات أوسع، مثل المواطنين، ثم المواطنين والمواطنات في دولة وطنية).
يناقش أرسطو في كتابه السياسة موقف أفلاطون في الجمهورية في أنه يجب أن يكون الحكم اختصاصًا دائمًا لفئة معيّنة، مثل بقية الوظائف في المجتمع، بما يماثل توزيع الوظائف على أعضاء الجسد الإنساني. ويكتب مقتربًا من فكرة السياسة كشأن عمومي، ومؤسّسًا لها نظريًا، لكن المهم هنا أنه يبني الفكرة على فكرة التبادلية التي تطرّق إليها في كتاب الأخلاق: "لهذا فإن خلاص الدول يكون في مبدأ التبادلية، كما سبق أن نبهت في كتاب الأخلاق. يجب الحفاظ على هذا المبدأ حتى بين المتساوين والأحرار، لأنه لا يمكنهم أن يحكموا جميعًا في الوقت ذاته، ويجب أن يتغيروا في نهاية العام، أو في نهاية مدة أخرى، أو يكون شكل من أشكال التتابع (التوارث)... وهذا لا يتحقق بالمساواة الطبيعية التي يتمتع بها كل المواطنين، وفي الوقت ذاته فإن العدالة تتطلّب أن يكون لكل الناس على حدٍ سواء حق مشترك في ممارسة الحكم (سواء أكان هذا الأمر جيدا أم سيئًا) في مثل هذه الحالات ينبغي أن تُبذل محاولة لمحاكاة الاختلاف الموجود في الأصل بين الناس، وذلك بالتناوب على ممارسة الحكم، وكذلك الخضوع للحكم بين الأشخاص المتساوين. من هنا سوف يوجد على الدوام بعض الأشخاص الذين يكونون في موقع الحكم بينما يخضع آخرون للحكم، وسوف يحصل أن يخضع حكام زمن معيّن لحكام زمن آخر الأشخاص"[12].
ليس المقصود هنا تداول السلطة بالطبع، بل رفض فكرة أن الحكم اختصاص مقصور على فئة دون غيرها، وتأكيد أن الحكام قد يصبحون محكومين، والمحكومون قد يصبحون حكامًا، وأن السياسة في جوهرها شأن عمومي. والناس يتساوون عمومًا، أمّا الاختلاف بين الناس فمتغير، ويستنتج منه ضرورة تغيير الحكام، وليس ثباتهم في مواقعهم كأنَّ الحكم صفة طبيعية في البشر تقابلها صفة طبيعية أخرى في المحكومين. وافتراض الفوارق الاجتماعية كفوارق طبيعية هي الأساس الفلسفي للتراتبية الأرستقراطية الطابع، التي تركت آثارها برأينا في العنصرية عبر العصور. لكنها انحرفت عبر عصور طويلة من الارستقراطية بالنسب العائلي السلالي داخل المجتمعات لتصل إلى التفسير الطبيعي العرقي للاختلاف بين البشر، ومن النخبوية الفكرية التي بدأ بها بعض تعليلات حكم القلة الأرستقراطية لتصل إلى الانتخاب الطبيعي في بعض نظريات القرنين التاسع عشر والعشرين.
يطرح أرسطو نظريّته في العدالة في إطار فهمه للفضائل الإنسانية. ويعتمد مفهوم العدالة عنده على الإنصاف في توزيع الخيرات والأعباء بين الأفراد، وعلى التعامل بالمثل. والتعامل بالمثل هو المنهج الذي بموجبه يُحكم على عدالة التوزيع وعدالة التصحيح[13]. لكن التعامل بالمثل ليس مرادفًا لما هو عادل، فلا يمكن مثلًا أن يكون التعامل بين مسؤول ومواطن بالضرب كردّ على الضرب من أي من الطرفين. وعندما يقوم واقع هرمي غير متكافئ لا تكون العدالة تعاملًا بالمثل، بل تجري مناقشة فكرة التعامل بالمثل (وهي في صميم نظرية العدالة عند أرسطو) بناء على ارتباط "الحقوق والواجبات" في بيئة المواطن، وبناء على منزلته الاجتماعية، والطبقة التي ينتمي إليها. التعامل بالمثل ليس تبادلًا لأشياء ذات قيمة متساوية حسابيًّا، وإنما هو منسوب إلى عدم المساواة بين الأشخاص؛ فهو تبادل عادل إذا كانت الأشياء المتبادلة تتناسب مع الاستحقاقات أو المؤهلات، أي مساهمة الأطراف في عمليّة التبادل. إن المفهوم الجوهري وغير المشروط للعدالة لا ينطبق إلّا على علاقات التبادل المتناسب بين أشخاص متساوين نسبيًّا[14].
هل يعني هذا أن العدالة هي التفاوت، وبالتالي فقدان معنى الكلمة تمامًا، وتحولها إلى مجرّد تعبير عن علاقات غير متساوية بين القوى السائدة في مجتمع من المجتمعات؟ إذا صح ذلك، فلن يكون، تاليًا، ثمّة فارق بين العدالة والظلم. هذا ما يعتقده بعضهم. وهذه مقولة عدمية معروفة نجدها عند أحد متحاوري جمهورية أفلاطون، ويصوغها نيتشه أيضًا من جديد في أصول القيموما وراء الخير والشر لتلائم التعبير عن أزمات الحداثة. تصبح العدالة هنا مجرد انعكاس لعلاقات القوى القائمة اجتماعيًا. وهي في تحليل آخر بنية فوقية، وأداة في تبرير النظام السياسي، أو الطبقي، القائم وتكريسه (مثلما هو مفهوم الأيديولوجيا عند ماركس)، ومن هنا تصبح العدالة إمّا غير ممكنة في نقد للحداثة، وإمّا ممكنة في نقد آخر إذا أُلغي التقسيم الطبقي، وحتى تقسيم العمل، وتحقّقت المساواة المطلقة والكاملة، ومعها الحرية.
ولكن لا، هذا ليس صحيحًا؛ فالعدالة ليست التفاوت ذاته، ولا هي إلغاءه، بل هي قائمة فيه، أو للدقة إذا أردنا استخدام فهم أكثر حداثة، هو قدرة الإنسان على الإحساس بالعدالة حتى في النظم التي تتضمن تفاوتًا، بحيث تتضمن الصيرورة التاريخية صراعًا دائمًا مع مظاهر الظلم في هذا التفاوت.
لقد كانت البداية تاريخيًا ممكنة فقط لأن التفاوت يشمل تساوي الشيء مع ذاته، كما أن العدالة في التفاوت تعني نظامًا ما من العلاقات التبادلية غير المتساوية، ولكن المحددة بين غير متساوين. والعدالة كانت بدايةً قائمة في هذا التساوي بين المتساوين، وفي عدم تساوي الأشياء المختلفة ولكن من خلال نظام ما يحدد نوعًا من التبادلية يمكن توقّعه. ولكن من هنا انطلق تطور العدالة إلى آفاق أرحب.
لا تفقد العدالة معناها، وإنما يبدأ كلَّ تساوٍ بتساوي الشيء مع ذاته. فإذا قلنا ليس هناك مساواة بين الأحرار والعبيد، فهذا يعني غياب العدالة في عصرنا، ولكنه لا يعني غياب أي استخدام للفظ العدالة في ذلك العصر يميّزه من الظلم بقدر ما يعني أن دلالتها كانت مختلفة؛ لأن غياب العدالة بشكل مطلق وضياع حسها عند البشر يعنيان غياب المساواة بين الأحرار والأحرار، وبين العبيد والعبيد. وسياق المفهوم التاريخي في حينه هو تساوي الأحرار مع ذاتهم، وتساوي العبيد مع ذاتهم، وليس تساوي العبيد والأحرار؛ فهي لا يمكن أن تعني غياب أي تساويًا بين الأحرار أنفسهم. وفي ما يتعلّق بإدارة الشأن العام مثلًا، كانت الديمقراطيّة الأثينيّة تعني مساواة المواطنين مع ذاتهم، وهذا يعني مساواة في العضوية السياسية في الجماعة، أي داخل فئة المواطنين، وهذه كانت العدالة. ولكن من منظورنا المعاصر للعدالة، لم يكن تعريف المواطن نفسه عادلًا، وهذا ما لم يكن ممكنًا أن يخطر للأثينيين على بال. والحقيقة أن المواطن في حينه لم يَعنِ ما نعنيه اليوم بالمواطن، فهو ليس الفرد في علاقته مع الدولة، بل هو عضو في الجماعة، بحيث تُشتقّ حقوقه وواجباته من هذه العضوية. لم يكن ثمة حقوق وواجبات لصيقة بالإنسان الفرد بما هو فرد مولود في كيان سياسي، بل كانت امتيازاته وواجباته مشتقة من انتمائه إلى فئة محددة، قبيلة، طبقة، مواطني مدينة...
ولقد توسّعت شمولية مفهوم المواطن ليصبح هذا المفهوم أكثر ارتباطًا بالفرد والحقوق والواجبات، ويتوسع ليشمل أفرادًا كان يقصيهم، فاختلف معناه أيضًا؛ ففئة المواطنين في حينه لم تشمل المرأة، وطبعًا لم تشمل السكان الذين لا يملكون شيئًا، ولم تشمل العبيد.
هنالك إذًا دلالة تميّز العدالة، وتجعل حدسها والإحساس بها ممكنين. وهي ليست مجرّد انعكاس لموازين القوى كما ذهب نيتشه، وتبعه في ذلك مزاج المفكرين ما بعد الحداثيين. فموازين القوة تتحكّم في ممارستها، وكذلك في شموليّتها. ولا هي أيديولوجيا وبنية فوقية تعكسان البنية الاقتصادية للمجتمع فحسب، فالعدالة تحمل في داخلها عبر التطور التاريخي دائمًا فكرة التساوي والتعادل، على الرغم من التقلبات التاريخية وتوسّع وتضيّق المعنى الذي تعرّضت له، وإلّا فإنها لا تختلف عن الظلم أو الجور. إنها تحمل دائمًا معنى ما يفترض أن يتماثل، ويتناظر، ويعتدل، ويتلاءم مع ما يفترض أنه صحيح في الحكم على الأشياء. ولكنها ليست أيضًا مثالًا مطلقًا، ونموذجًا مجرّدًا يمكن تنفيذه مثل خطة كونية على المجتمعات بحيث لا تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة البشرية ذاتها، بل هي حكم أخلاقي ناجم عن إحساس بها ويتدخّل في النظام السياسي والاجتماعي.
وقد عنى هذا في تطبيقه على المجتمع ما هو عكس الظلم والجور، باعتبار الأخير خرقاً لما هو حق بحسب العرف السائد عمومًا، أو بموجب العدل الطبيعي (وهو معرفة ما هو صحيح في سلوك الإنسان، بغضّ النظر عمّا إذا وجد عرف أو قانون أم لم يوجد) أو بموجب الإرادة الإلهية، وهذا هو الأهم في مراحل تاريخية محددة يهمين فيها الفكر الديني، ويحتل محله الحق الطبيعي في الفكر الحديث. والحق الطبيعي في رأينا هو علمنة للحق الإلهي يشترك معه بوجود تصور لعدل متجاوز للواقع أو سابق عليه. وجوهره استخدام مفهوم حالة الطبيعة لتقرير حالة المساواة والعدالة المنقوشة في" جبلّة" الإنسان الطبيعية الأولى. وهذا هو جوهر المفهوم الروسوي، كما هو مضمون الراية الفكرية العظيمة التي رفعها عمر بن الخطّاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا". فلقد كانت راية الخطّاب "حادثًا" في زمان بداية العصور الوسطى، وتتجاوز مفاهيم العدالة في زمنها. وطبعًا لا علاقة لهذه الحرية الطبيعية التي يولد معها الإنسان في رأي عمر بمفهوم الحرية كقيمة؛ فالإنسان، في رأينا، لا يولد حرًا. الحرية التي نقصدها، وهي التي سوف تدخل لاحقًا في مفهوم العدالة، لا تولد مع الإنسان، بل هي حرية تُكتسب الحاجة إليها بالوعي، وتُطبَّق اجتماعيًا وسياسيًا، ولا تمارسها الكائنات الحية طبيعيًا. فالعصفور ليس حرًا، خلافًا لما يظهر في الاستعارات الأدبية، وكذلك لا يولد الإنسان حرًا، وما كلام عمر بن الخطاب إلّا استعارة، أو فرضية معيارية الطابع من نوع فرضيات الحالة الطبيعية في نظريات العقد الاجتماعي.
ومشكلة التصوّرين النيتشوي والما بعد حداثي من جهة، والماركسي من جهة أخرى، في عدم أخذهما بجدية أن أصل العدالة كمعطى موضوعي (طبيعي أو إلهي) يعتمد على وجود حس أخلاقي بالعدالة لدى جزء من الناس على الأقل ممّن يمكننا أن نسمّيهم أحرارًا ينفرون ممّا هو غير عادل. وهؤلاء هم الذين يتصورون العدل الطبيعي، ولكنهم يقصرونه على تصورهم هم، ويقطعون صلته بتصوراتهم الخلقية الذاتية. ولذلك ما زلت أعتقد أن عدم وجود "علم أخلاق" لدى فكر محدد يحجب عن هذا الفكر إمكانية أن يتحول إلى فلسفة سياسية فعلًا.
وكما يبدو لنا بمنظور تاريخي، ربما كان "علم الأخلاق" دافع المعتزلة الذين سمّوا أنفسهم أهل العدل والتوحيد، إلى المساواة بين الله والحق، وبين الله والعدل، بصفة الأخير قيمة إلهية عظمى. وهو تمييز غير متعلّق بالفصل بين نظامي حكم، العادل والمستبد. فالعدالة ليست مسألة نظام حكم في الحضارة الإسلامية، بل هي صفة يُتَّسَم بها في سلوك الحكّام والمحكومين، أو لا يُتَّسَم بها. ولا ترتبط بنظام حكم من نوع معيّن. هنا ظهرت الأخلاق سمة خلقية لا في نظر المحلل فحسب، بل هي سمة خلقية سلوكية منفصلة عن نظام الحكم ومشخصنة في الحاكم والمحكوم وسلوكهما.
تأصّل هذا المفهوم، دلالةً وقيمةً في وقت واحد، في الخبرة الإسلامية "المثالية" للاجتماع الإسلامي مع الحكم، وهي الخبرة التي يلخصها مبدأ "العدل أساس الملْك"، "ولو دامت لغيرك لما انتهت إليك"؛ فممّا لا ريب فيه أن العدل هو القيمة العليا للتصور المثالي الإسلامي للملْك، إلى درجة أن هذا الفهم قُبل فيها باعتبار السوية في الظلم عدالة، لأن ليس لديه تعريف موجب للعدالة، فهي تتعلق بالاستقامة والسوية وتصور العدالة بإحقاق الحق، من دون تعريف موجب للحقوق.
العدالة في الله جوهر حتميّ، تمامًا مثل التوحيد. وهي في الإنسان قيمة أخلاقية تقوم على الحرية؛ فالله عادل بطبيعته وجوهره (وليس لأنه لا يمكنه أن يكون غير عادل، بل لأنه هو قيمة العدل المطلقة)، أمّا الإنسان، فليس عادلًا بطبيعته، بل في خياراته، ويمكنه أن يكون ظالمًا، ومن هنا الحق في محاسبته. إن ضرورة التوحيد والعدل وتلازمهما هي ما يجعل مفهوم الحرية إنسانيًا غيرَ منطبقٍ على الله. وإن الظلم المتناقض مع طبيعة الله هو الذي يجعلنا نرى الإنسان حرًا قادرًا على اتخاذ القرار بين العدل والظلم.
ولا شك أن الخلاف الكلامي بين القدرية والجبرية والمرجئة، وتطويره عند المعتزلة والحنابلة والأشعرية لاحقًا كانا صراعًا سياسيًا. أمّا فلسفيًا، فهو خلاف على مصطلحات لا يشترك المتخاصمون في تعريفها؛ فلا شك أن فهم كلية القدرة الإلهية تجعل الحنابلة يكفِّرون من يجرؤ على القول بأن ليس في إمكان الله أن يدفع الإنسان على فعل الظلم، لأنه لا يمكن أن يصدر عنه ظلم، في حين أن التعامل مع الله كمطلق العدل ومطلق القدرة تمنع من طرح هذه الأسئلة، وتمكّن المعتزلة من نقل النقاش من الميتافيزيقا واللاهوت إلى الأخلاق.
ولكن الناحية القيمية لم تقتصر على المعتزلة؛ إذ اعتقد عدد من السلف من أهل السنّة بقيمة العدل من زاوية أنه حيث ساد العدل فثمة شرع الله (كما وضعها ابن القيم)، أو كما نجدها عند ابن تيمية، ويحتاج كثير من مقلّدي هذا العالِم إلى وقت لهضمها: "إن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرّمٌ مطلقاً لا يباحُ بحال". وهو لا يقصر ذلك على تطبيق الشريعة، بل قال أيضًا: "وأمورُ الناس تستقيمُ في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراكُ في أنواع الإثم، أكثر ممّا تستقيمُ مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيمُ الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وان كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: 'ليس ذنب أسرعَ عقوبة في الدنيا من البغي وقطيعة الرحم' ، فالباغي يُصرع في الدنيا وإن كان مغفورًا له مرحومًا في الآخرة ... وذلك أن العدل نظام كل شيء. فإذا أقيم أمرُ الدنيا بعدل، قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خَلاق، ومتى لم تقم بعدل، لم تقم، وان كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة"[15].
في هذا التصور، كانت تتردد فكرة أن الحكم قد يدوم مع الكفر لكنه لا يدوم مع الظلم. ومازالت حتى الآن تتردد أصداء الحكاية التيمورية الشهيرة عن التفضيل بين حاكم كافر عادل وحاكم ظالم مسلم لمصلحة تفضيل الكافر العادل. وجوهر ذلك أن العدل يحقق أحد أهم مصالح الدِّين وكلياته التي هي مصالح الاجتماع نفسه. ولقد كمن فهم مقاصدي مبكر في هذا الفهم يتجاوز حدود الوسائل والقياسات قبل أن يصاغ فقهيًا في المدرسة المقاصدية، ولا سيما لدى ألمعها، الشاطبي الذي أعطاها مداها، مع أنه تبقى للمقاصدية حدودها وتناقضاتها إن لم تتلقح بالمفاهيم الحديثة. وفي تاريخ السرديات الإسلامية الكلاسيكية للتاريخ الإسلامي يحضر عدل الخليفة والحاكم كقيمة عليا باستمرار، وتُضرب الأمثلة "المناقبية" به، وتضطلع بدور مهم في تقييم دور الخليفة أو الحاكم.
يقول ابن تيمية إن العدل في الدنيا ممكن في ظل حكومة غير مسلمة؛ ففي ظل حكومة عادلة، ولو كانت غير مسلمة، تستقيم أمور الناس في الدنيا أكثر ممّا تستقيم في ظل حكومة ظالمة، ولو كانت مسلمة. والعدل (نعم حتى العدل الإلهي) قائم في الأولى أكثر ممّا هو قائم في الثانية، أمّا الإيمان فغير كاف لإقامة العدل في الدنيا، ولا يقال عن صاحبه أنه عادل إلّا إذا كان عادلًا فعلًا، وهذه صفة قد يستحقها غير المؤمنين، أمّا المؤمن فيجازى على إيمانه في الآخرة.
لكن العدل الذي يقصده ابن تيمية هنا هو المقصود في الآية ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[16]. ونحن نعتقد أنه يقترب من أحد مفهومين للعدل، إمّا أخلاقي وإما إجرائي؛ إذ لا مضمون جوهريًا عنده في حالة دولة الإسلام سوى حكم الشريعة كما يفهمه. وهو يفترض أن العدل ممكن عند حاكم غير مسلم، أي من دون حكم الشريعة، ومعنى أن العدل ممكن عند حاكم غير مسلم هو أن العدل لا يتطلّب تطبيق الشريعة، والتالي ليس عنده مضمون موحَّد للعدل. وهو لا يعني بالضرورة المساواة مثلًا، وإلّا تعذّر علينا التوفيق بين موقفه هذا وبين إصراره على رفض أي نوع من المساواة لأهل الذمة، ومنعهم من إظهار دينهم، واعتبار إذلالهم متوافقًا مع العدل كما يقتبس الخليفة عمر بن الخطاب في قوله: "وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول أذلوهم ولا تظلموهم"[17]. العدالة هنا لا تعني المساواة، بل تقتضي عدم المساواة بين المسلم وغير المسلم. ونحن نرى ذلك على طول الجزء المسمّى "السياسة الشرعية" في مجمع الفتاوى.
يمكن مناقشة هذا الأمر في مجلدات. ولن تنفع الاقتباسات كلها من دون فهم الفارق في الموقف؛ فثمة فارق جوهري بين أن يؤمن الإنسان بقيمة العدالة التي يمكنه تحديدها أخلاقيًا، وبأنه إذا سادت ساد شرع الله من جهة، وبين أن يؤمن الإنسان بتفسير معيّن لشرع الله وأنه إذا ساد هذا التفسير تكون العدالة من دون تعريف أخلاقي قيمي للعدالة سابق على هذه التفسيرات. هذا فارق جوهري بين مواقف ولا يُحَلّ بالنقاش مهما يطُل، ومهما يُسكَب عليه من مداد. ونحن لا نعتقد أن ابن تيمية كان في وارد وضع تعريفات معيارية للعدالة، أو وضع نظرية في العدالة.
تكمن الثورة التي أحدثها الفكر الحديث منذ نظريات العقد الاجتماعي في: أولًا، رفض فكرة وجود لامساواة طبيعية بين البشر تبرّر الفارق بين حاكم ومحكوم بها وحدها، وقد رأينا أصل هذا الموقف في الفكر اليوناني عند أرسطو مثلًا؛ ثانيًا، في تخيّل المساواة بين مختلفين، وليس فقط بين متساوين؛ ثالثا، في القدرة على رؤية فكرة الإنسان كمرجعية لفكرة العدالة، ومفادها أن البشر متساوون بطبيعتهم، وأن الفوارق الطبيعية بين البشر لا تؤسس لجعل بعضهم أحرارًا وبعضهم الآخر عبيدًا، وهذا ما لا نجده عند أرسطو، ونجد بدايته في الفكر الرواقي الذي أبقى للإنسانية فكرة الأخلاق الكونية التي جسدتها مقولة زينون أن "البشر أخوة في الإنسانية" أربعة قرون قبل المسيحية، ثم في المسيحية ذاتها.
تاريخيًا، تفاعلت فكرة المساواة الطبيعية بين البشر مع فكرة الحرية وتأسيس اجتماع مدني يتساوى فيه بالاجتماع السياسي، أو بالمواطَنة. ولكن هذا التفاعل لم يُمنح الاهتمام الكافي؛ فقد بدت فكرة المساواة متنافرة مع فكرة الحرية في الأيديولوجيات. ولكن الحرية هي بدايةً عكس العبودية، أي عكس عدم المساواة بين البشر. والمساواة الطبيعية بين البشر تعني أن الطبيعة لا تبرّر أن يكون إنسان سيدًا والآخر عبدًا. وإن النضال ضد الظلم عبر التاريخ هو الذي حوّل العدل من فضيلة إلى مجموعة حقوق منصوص عليها؛ وما لبث أن حوّل الحرية من نقيض مجرّد للعبودية، بمعنى أن الحر هو رجل لا يملكه رجل آخر[18]، إلى حرية موجبة ذات مضمون يتجاوز نقض العبودية في مواطني المدن في العصر الوسيط، ثم إلى حرية التعاقد في عقود قوانين السوق، إلى "حريّات سياسية" يملكها رجال ونساء في مفهوم المواطَنة المعاصر.
وإذا كانت فكرة المحكومين والحاكمين بالطبيعة مرفوضة عند أرسطو، فإن تصور المساواة الطبيعية بين البشر لم يكن بدوره حديثًا بالكامل، ولا هو فكرة علمانية قائمة بذاتها منذ نظريات العقد الاجتماعي، بل علمنة لفكرة دينية متعلقة بتساوي المؤمنين أمام الله مع صعود المسيحية في صراع مع اللاهوت العبري القديم.
وحتى هذه الفكرة الدينية المتعلقة بـ"الإنسان كإنسان"، لم تكن أيضًا دينية خالصة، بل نتاج تطوّر تاريخي طويل. العدالة في التوراة (أو كما يسمّيها المسيحيون العهد القديم، والمقصود العهد القديم بين الله وشعبه) لا تخرج عن سياق العصور القديمة عمومًا، فهي عدالة تنطبق على شعب، أكان هذا الشعب إثنيًّا أم طائفة دينيّة أو غير ذلك. أمّا في العلاقة بالشعوب الأخرى جماعةً وأفرادًا، فلا تسود العدالة، ولا حتى التعامل الأخلاقي، وإنما يسود الصراع وشرعة القتل، ويسود الغدر والخداع المتاحان في الحروب عمومًا. وإن دلالة "دار الحرب"، بمعنى قانون الحرب الذي يسود مع "الآخرين"، وردت أولًا وقبل كل شيء في التعامل مع غير اليهود في التوراة من الكنعانيين والفلسطينيين والعماليق. ولست بحاجة إلى تقديم اقتباسات بشأن تبرير إبادة الشعوب في التوراة كأمر إلهي، وحتى قتل من يرفض المشاركة فيها من شعب "يهوه" نفسه.
وفي السياق المتوسطي، بدأ هذا الموقف بالتغيّر عند زينون مؤسس المذهب الرواقي، ثم بالتطلّعات التوسعية للإمبراطورية الرومانية، وتمثله تنظيرات سيسرو (شيشرون بالترجمة العربية) الذي يجعل تعريف الكائن البشري شاملًا للبشر عمومًا، وهو ارتفاعهم كبشر عن مملكة الحيوان بملَكة العقل، والقدرة على التفكير والاستدلال المنطقي من دون أن تكون لديهم مساواة في هذه الملَكة، وكذلك في مجال الفضيلة. وهذا يعني أن التساوي الطبيعي بين البشر لا يعني التساوي بملَكة العقل والفضيلة، وهذا ما يرفع بعضهم فوق بعض عند أرسطو أيضًا.
ولكن كما يؤكد سيسيرو، "ما من شخص، بغضّ النظر عن الأمّة التي ينتمي إليها، لا يستطيع الوصول إلى المستوى المطلوب من الفضيلة إذا تلقى مساعدة من مرشد ما"[19]، أي إن التهذيب والتعليم يمكنهما أن يساعدا الإنسان في تجاوز الفوارق في العقل والفضيلة. لقد قال هذا قبل عصر التنوير الأوروبي بقرون عديدة. وطبقًا لذلك، فإن العدالة متعلقة بالتّعامل مع البشر لأنهم جميعًا (وليس المواطنون فقط) قادرون على اكتساب مفهوم العدالة. ويقول سيسرو: "نحن مجبرون بطبيعتنا على أن نكون عادلين في تعاملاتنا مع الآخرين، بغضّ النظر عمّا إذا كنا نشترك معهم في رابطة سياسية أو هوية، وهم بدورهم مجبرون أيضًا على أن يكونوا عادلين معنا من ناحية أخرى"[20]. وهذا فكر إمبراطوري روماني يخرج من حدود المدينة الدولة، ويتعارض مع فكرة شعب الله المختار طبعًا، ويناقض فكر أرسطو وفكر زينون أيضًا. فالعدالة عند الأخير، وفي الفكر الرواقي نفسه، هي عدالة داخل المدينة/الدولة.
لقد تأثر القانون الروماني بوجهة النظر الامبراطورية العابرة للقوميات هذه. كما تداخل لاحقًا مع تعاليم المسيح المتحررة من اليهودية والمتعلقة بالإنسان كإنسان، ونحن نجدها بشكل خاص في كتاب ملخصات تشريعية مختارة الذي تم تأليفه خلال فترة حكم الإمبراطور البيزنطي جستنيان في القرن السادس. ومن هذه الناحية، يمكن اعتبار الكنيسة المسيحيّة وريثًا للإمبراطورية الرومانية في سعيها الديني للخلاص العالمي، بما هو من نصيب كل إنسان، بغضّ النظر عن هويته أو منزلته الاجتماعية. وهو يشدّد تحديدًا على الفقراء والمنبوذين. هذا هو المنبع الرئيس لمفهوم العدالة العالمية النطاق في الفلسفة السياسية الحديثة. ولا علاقة، بالضرورة، بين فكرة أن العدالة طبيعية وبين شموليّة العدالة لجميع البشر، فشمولية العدالة في المسيحية والإسلام تنجم عن عدالة إلهية لاعن الطبيعة. كما أن التساوي بين البشر في العقيدتين هو تساوٍ إلهي المصدر، لأن الله اختار أن يخلق البشر على صورته ومثاله. وعلى كل حال، فإن الحق الطبيعي والعدالة الإلهية يتساويان عند منظّري التنوير الأوائل، ومنهم جون لوك.
أفكار بشأن العدالة في الحداثة
نجد في بداية الحداثة أنَّ هوبز يبدأ الحالة الطبيعية في فكرة المساواة بين أي فرد مفترض وأي فرد آخر، وأن العقد الاجتماعي لا يكون ممكنًا إلّا إذا كان كل فردٍ مستعدًا للاعتراف بأن جميع الناس مساوون له بطبيعته. وهنا ينتقد هوبز أرسطو مباشرة؛ فقد اعتبر أرسطو أن القدرة على التفكير والنطق مشتركة بين جميع البشر، لكن الفارق بينهم في الدرجة كبير وشاسع إلى درجة تبرير أن يكون العبد عبدًا بالطبيعة والسيّد سيّدًا. هذا عند الفيلسوف نفسه الذي رفض أن يكون الحاكم حاكمًا بالطبيعة، والمحكوم محكومًا. ولذلك اعتبر هوبز هذا التنظير مناقضًا لفلسفة أرسطو ذاتها وللتجربة، فلا توجد فوارق كبيرة إلى درجة تعلل أن من غير الممكن لبعضهم إلّا أن يكون محكومًا وأن من غير الممكن لبعض آخر من الأذكياء إلّا أن يكون حاكمًا[21].
لقد انطلقت نظريات العقد الاجتماعي من الفكرة التي تقول إن البشر متساوون في الطبيعة والعقل والقدرات نسبيًّا، وإن هذا التساوي يؤهلهم للعيش في حالة حرب أو حالة سلام، بحسب زاوية نظر المفكّر، وإن هذا يؤدي إلى دخولهم في حالة تعاقد، لمنع حالة الحرب كقاعدة قائمة في حالة الطبيعة عند هوبز، وذلك عبر تأسيس دولة مطلقة الصلاحيات بواسطة العقد الاجتماعي، ولمنع حالة الحرب كاستثناء في دولة محددة الصلاحيات ناجمة عن عقد عند لوك.
وفكرة العدل هنا ما زالت منفصلة عن الحقوق؛ فمن العدل مثلًا أن تُلغى حالة الحرب السائدة في الطبيعة قبل تنظيم المجتمعات، والناجمة عن تساوي القدرات والحاجات ورغبة البشر في تلبية حاجاتهم من دون أخذ الآخرين بعين الاعتبار. ومن العدالة أن تقوم دولة تحقّق السلم، ولكن هذا لا يعني بالضّرورة حصول المواطنين على حقوق معيّنة؛ فالعدالة هنا تعني أن يفقد الجميع حقوقهم بالتساوي لمصلحة الدولة، التي تصبح مصدر الحقوق، والمحظور والمتاح، منذ تلك اللحظة. وتعني العدالة هنا انصياع الناس للعقد الذي وقّعوه، وما الظلم إلّا خرقه.
انقسمت المدارس الفلسفية بشأن العدالة بين فكر استند إلى هيوم وطوّره بنثام، وهو يتعامل مع العدالة من منطلق ما يأتي بالسعادة لأكبر عدد من البشر، وبالتالي اعتمادها على فكرة المنفعة، في مقابل كانْط الذي يرى أن فكرة المنفعة أو السعي لتحقيق السعادة لا تصلح لتأسيس الأخلاق، وبالتالي العدالة. ويعتبر كانْط أن أساس الأخلاق هو الحرية التي تقوم عليها فكرة الواجب الأخلاقي. وهي فكرة العدالة نفسها التي تقوم على طاعة الإنسان لقانون شارك في سنِّه في نظرية هوبز للعقد الاجتماعي، مع الفارق أن الإنسان الأخلاقي الحر عند كانْط يتصرف وكأنه يسن قانونًا للمجتمع ككل، وهذا ما يمنع حالة الحرب لا قمع الدولة المطلقة.
سوف يحتاج الأمر إلى مرور وقت حتى تتبلور فكرة العدالة كمجموعة من الحقوق والواجبات، وتشكل تقاطعًا، أو للدقة توازنًا، بين المنفعة والحرية، كما عُبِّر عنها في إعلان الاستقلال الأميركي، ثم في إعلان حقوق الإنسان الصادر عن الثورة الفرنسية.
ويمكننا سرد تحوّلٍ تاريخيٍّ آخر يؤدي إلى توسيع مفهوم العدالة لتقوم على أساس المساواة الاجتماعية وليس المساواة الطبيعيّة فقط، ولنحصل على مفهوم العدالة الاجتماعية الذي ينقسم إلى أنواعٍ عديدة أهمّها: توزيع الخيرات المادية بموجب الحاجات، وتوزيع الخيرات المادية بموجب الاستحقاق الذي يقاس بالكفاءة والمؤهلات ومساهمة الإنسان في الخير العام في أيديولوجيات القرن التاسع عشر.
أخيرًا، وبنظرة شاملة بالغة التجريد، يمكن اعتبار القرن العشرين ساحة صراع قادت إلى التخلي عن هاتين الفكرتين القائمتين في أيديولوجيات القرن التاسع عشر، ومنها الشيوعية، ولكن لمصلحة القيم التي قامت عليها هذه الأيديولوجيات، وهي العدالة الاجتماعية، فلم يعد ممكنًا في عصرنا أن يجري التحدث عن العدالة من دون فكرة العدالة الاجتماعية القائمة على تقليص الهوّة بين الغني والفقير عبر التساوي في الفرص، مضافًا إليه تصحيح الفجوات الاجتماعية الناجمة عن ذلك بواسطة تصحيح التوزيع من قبل الدولة، وبواسطة التنمية التي تمكّن فئات المجتمع المختلفة من الانطلاق من نقاط انطلاق متساوية نسبيًّا، أساسها الحرية في الخيارات إمكانيات وفرصًا، وتمكين الناس من صوغ خياراتهم، وقد صيغت في هذا السياق مقولة "التنمية حرية".
في الإمكان أيضًا أن نتتبّع تقليدًا آخر في تطوّر العدالة وهو مدى أخذ الحريّة بعين الاعتبار كأحد مركباتها، على الرغم من أن المعنى الأصلي لا يشتمل عليها إطلاقًا إلّا لناحية سياقها وتطبيقها في مجتمع من رجال أحرار (أي غير عبيد). فثمة تباين دلاليّ واضح بين مفهومي العدالة والحريّة. وهذا لا يعني تناقضهما، بل يعني من الناحية التاريخية أن التطلع إلى المساواة، أو توقّعها، لم يتضمّنا دائمًا التطلّع إلى الحرية، مع أن الفكرتين تنطلقان من أساس هذا التفاعل في أن الحرية بداية هي نقيض التعبير الأقصى عن انعدام المساواة، ألا وهو العبودية. ومنذ تلك الفترة، ما من نضال من أجل المساواة إلّا وتضمّن فكرة الحرية، وما من أيديولوجيا مساواتية إلّا وقمعت الحرية حين وصلت إلى الحكم، لا لكونها مساواتيه بل لأنها اعتبرت جهاز الدولة أداة لتطبيق مذهب أيديولوجي. وما لبث هذا الواقع أن تحوّل إلى مولِّد جديد لفكرة الحرية.
ويمكن القول إن في شأن مركّب المساواة والحرية، أكد اليسار في القرنين التاسع عشر والعشرين مبدأ المساواة، في حين أكدت اللبرالية مبدأ الحرية. وحصلت تنوعات داخل كل معسكر بهذا الشأن بموجب رفع مستوى عنصر الحرية أو عنصر المساواة في طرحه. أمّا اليمين التقليدي، فهو في نظرنا ذلك المعسكر الذي حاول أن يقلص مركّبي العدالة هذين لمصلحة مفهوم أكثر تراتبية للعدالة لا تسري فيه المساواة أو الحرية على الجميع. ولكن حتى مفهوم اليمين تغير (وأصبح هنالك يمين لبرالي، وحتى يمين اشتراكي في رأينا، وهذا يقع خارج ما يمكن معالجته في هذه المقالة).
من هنا، أرى أن التحدي الفلسفي الكبير أصبح كامنًا في التوصل إلى المعادلات التي تجمع بين الحرية ومبدأ المساواة بمعناه الذي يمكن تحقيقه في المجتمع الحديث عبر الإنصاف في توزيع الخيرات والمنافع. فاللبرالية الاقتصادية أثبتت أنها من دون تحديد لها بواسطة العدالة السياسية (أي عدالة الدولة) تنتج اللامساواة، وقد تنتج تقييدات الحريات الناجمة عن سعي الفئات الحاكمة إلى الحفاظ عليها. واشتراكية الدولة الواقعية أثبتت أنها بحجب الحريات أدت أخيرًا أيضًا إلى انعدام اللامساواة، وفي حالات أخرى إلى المساواة في الفقر، وهو أيضًا الذي نقل الفكر الغربي إلى نقد سيطرة أيديولوجية أو مذهب ديني على الدولة، وتحويل الدولة إلى أداة في فرضه على المجتمع ضد مبدأ الحرية الفردية.
من محاولات إيجاد المعادلة بين المساواة والحرية جاءت محاولات جون رولز المهمة في نقد النفعية والعودة الفلسفية إلى كانْط لتأسيس مبدأ أخلاقي في العدالة يكون أساسًا للعدالة السياسية التي حاول أن يضع قواعد نظرية لها في الدولة الديمقراطية، وذلك في كتابه نظرية في العدالة سنة 1971، ثم كتابه العدالة كإنصاف (إعادة صوغ) سنة 2001، وهو الكتاب الذي حدد فيه مبدأي العدالة الأساسين بما يلي: أولًا حق كل شخص بحريات أساسية متساوية وكافية، في طار نظام من الحريات، وثانيًا تحديد اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية بشرطين، يتعلق أحدهما باللامساواة في الوظائف والمراكز، ويقضي بأن تكون متاحة للجميع بشروط مساواة في فرص الوصول إليها؛ ويفيد الآخر بأن تكون ظواهر اللامساواة محقِّقة أكبر مصلحة لأعضاء المجتمع في المواقع الدنيا بحسب موضوع المساواة ذاته، مثل الدخل وغيره. وهذا يعني أن من "النماذج الرياضية" الممكنة التي تصور عملية التوزيع يؤخذ النموذج الذي تتحقق فيه أكبر فائدة ممكنة للفئات الأضعف، ولكن من دون المس بقدرة المجتمع على التطور، لكي تزداد المنافع أو الخيرات التي يمكن توزيعها[22].
من هنا أيضًا التقدير لرولز ونقده في آن معًا عند أمارتيا سِن وغيره. ينطلق النقد في فهمه للعدالة الاجتماعية (توزيع المنافع أو الخيرات الأولية، مثل الحقوق والحريات والدخل المادي والشروط الاجتماعية التي يجب توافرها لتحقيق الكرامة الإنسانية، أو احترام الذات) من ضرورة التساوي في الإمكانات أو القدرات لا في الفرص فقط، وأيضا من ضرورة أخد حرية اختيار الإنسان لما يراه مهمًا في حياته. فالتساوي في الفرص لا يفيد كثيرًا إذا لم تتساوَ إمكانات استغلالها كي يتسنّى تضيق الهوة بين الغني والفقير، وبين القوي والضعيف، ولا معنى للفرص المتساوية من دون حق الاختيار أيضًا[23].
ومن التساوي في الإمكانات ينطلق مفهوم التنمية البشرية كإحدى وظائف الدولة العادلة الحديثة الأساسية. والحرية والحقوق السياسية هي أيضًا من مقومات التساوي في الإمكانات التي تساهم في تأسيس العدالة. ويذهب أمارتيا سِن باتجاه العدالة الاجتماعية بواسطة التحرر من قيود النظرية الاقتصادية الكلاسيكية المنطلقة من التوازن الكلي، واعتبار المصلحة الذاتية دافع الفرد في سلوكه، والاعتراف بدور أكبر للأخلاق في النظرية الاقتصادية والسياسات الاقتصادية[24].
كان توجّه رولز بالمجمل توجّهًا يعتمد على الأخلاق؛ فقد انطلق من الدولة كمجتمع من الأفراد الأحرار المتساوين المنخرطين في تعاون اجتماعي. والعدالة في حالتهم هي الإنصاف في توزيع المنافع في ما بينهم، وهي عدالة متعلقة بالبنية السياسية الأساسية للدولة. والشرط لهذا كله هو افتراض أن الأشخاص الأحرار يتمتعون بملَكتين أخلاقيّتيْن: الأولى هي "الحس بالعدالة: وهي القدرة على التطبيق والعمل انطلاقًا من مبادئ العدالة السياسية التي تعيّن الشروط المنصفة للتعاون الاجتماعي"... والثانية هي القدرة على تكوين مفهوم للخير وحيازته، بحيث يمكن مراجعته ومتابعته كمجموعة من الغايات النهائية والمقاصد التي تحدد مفهوم الشخص لما هو قيّم في الحياة...[25].
عبر نضال الشعوب ضد الظلم في التاريخ، ثبت أن الحرية شرط من شروط العدالة التي يتغير مفهوم الناس لها بالمعرفة وبالممارسة. ونظريًا، أصبحت الحريّة مركّبًا لا يمكن تجاهله عند الحديث عن العدالة لأسباب ثلاثة: أولًا، ربما يكون تقييد الحريّة أحد أهم التعبيرات عن اللامساواة في الحقوق؛ ثانيًا، قد ينتج من تقييد الحرية بحد ذاته لامساواة في الحقوق، وبالتالي يؤدي إلى انعدام العدالة، ولا سيما تلك العدالة التي تحاول فرض تصور عن السعادة قائم لدى من يفرضها؛ ثالثًا، لأن الحرية أصبحت من الناحية الفكرية، وفي حاجات الناس وتوقعاتهم وتطلعاتهم أحد الخيرات أو إحدى المنافع الاجتماعية والوطنية، أصبح لزامًا أيضًا توزيعها توزيعًا عادلًا. لقد أصبحت الحرية السياسية حاجة إنسانية.
الحرية هنا ليست قيمة مجردة أو شاعرية، بل هي قيمة أخلاقية توجّه مجموعة حريات مدنية وسياسية أساسية لا بد أن يتمتع بها المواطن لتحقيق العدالة.
ولا يتسع المجال هنا لتبيين قيمة الحرية في الفكر الديمقراطي واللبرالي الغربي. ولكن حين استعر هذا النقاش، كانت دلالة العدالة المتعلقة بالحرية السياسية غير قائمة في الفكر العربي والإسلامي حتى القرن التاسع عشر.
ولهذا نجد أنه في أحد أهم لقاءات العرب الأولى مع الحداثة الغربية جاءت نظرة الطهطاوي إلى "الحرية" الغربية منطلقة من مركزية فكرة العدالة لديه. لقد فوجئ الطهطاوي من استخدام الفرنسيين مصطلح الحرية لتعني "الحرية السياسية" المتعلقة بنظام الحكم. وبما أن القيمة الرئيسة في السياسة الشرعية عنده (كما في الآداب السلطانية منذ الماوردي وغيره) هي العدل، وأن الحرية تُستخدم في فرنسا كقيمة رئيسة متعلقة بالحقوق والحكم الأفضل، فقد استنتج ما يلي: "إن ما يسمّونه عندهم الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عندنا العدل والإنصاف، وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجور حاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة"[26].
إن ما لفت نظره في الحرية إذًا هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين، ومن هنا سمّاها العدل والإنصاف. ولفظ الحرية في عالمه الثقافي ما زال يعني عكس العبودية. والحر عكس العبد. وقد حاول الطهطاوي في هذا السياق أن يجمع بين الحرية والمتاح شرعًا، وباللغة الحديثة ما يسمح به القانون: "إذا كانت الحرية مبنية على قوانين حسنة عدلية كانت واسطة عظمى في راحة الممالك، وإسعاد أهلها في بلادهم، وكانت سبباً في حبهم لأوطانهم، وبالجملة، فحريّة أهالي كل مملكة منحصرة في كونهم لهم الحق في أن يفعلوا المأذون شرعاً، وألّا يُكرهوا على فعل المحظور شرعًا"[27]. ما زالت الحرية هنا سالبة، فكما كانت تعني اللاعبودية، أصبحت تعني الآن كل ما لا تنظمه قواعد ملزمة (الشريعة في هذه الحالة). وهي قريبة من مفهوم الحريات السياسية، ولكنها لا تتطابق معها، لأن الأخيرة قائمة في القوانين ذاتها. فالحرية في نظره هي ما لا ينظمه قانون، في حين أن القانون ذاته يعبّر عنها، ويصوغها، ويحميها في الفكر الديمقراطي اللبرالي المعاصر.
تحديات راهنة أمام الفكر العربي
لدينا ثلاثة مركّبات للعدالة في الفكر المعاصر:
- المساواة النسبية في الحقوق والواجبات بموجب منظومات فكرية تختلف في تعريفها، ومع فهم متبدل لمفهوم الواجبات وقبول عدم ربط المساواة فيها بالمساواة في الحقوق؛
- فكرة العدالة الاجتماعية بموجب تعريفات مختلفة كبديل من المساواة المطلقة، تعمل على منع توسيع الهوة الاجتماعية بين الغني والفقير وعلى تقليصها بأدوات تمكينية وضريبية مختلفة؛
- تشريع الحريات المدنية والسياسية وقوننتها.
وما زلنا بحاجة ماسة إلى تعميق هذا المركّبات وتأصيلها في الفكر العربي السياسي والاقتصادي والدستوري كعناصر في نظام حكم عادل، وليس كصفات للحاكم العادل، مرتبطة بمسلكه في الحكم، كما كانت تعني في الماضي؛ فالعدالة في الحكم هي نظام حكم عادل، مثلما أن عدالة القضاء في عصرنا تستند إلى قوانين عادلة ومؤسسة قضائية مستقلة وقضاة نزهاء، ولا تعني القاضي العادل فقط؟
لقد تطوّرت هذه المركّبات تاريخيًا منذ أن كانت العدالة تعني المعاملة بالمثل. ويجب ألّا يخجل أحد من أن هذه في الواقع أفكار فلسفية قد تصطدم بالواقع، وتضطر السياسة إلى إجراء تعديلات عليها، ولكنّها لا تعني الكثير إذا ظلّت أفكارًا فلسفية. وتكمن مهمّة المثقفين في العمل السياسي والفكري من أجل وضع الأنظمة والسياسات التي تحوّلها إلى التطبيق والممارسة الاجتماعية. وهذه أمور مطروقة لا يجوز لنا أن ندّعي بداية التفكير فيها. ومن التواضع بمكان أن نطّلع على الأدبيات الفكرية الكثيرة المتعلقة بتطوّر مفهوم العدالة.
لا يسعني هنا إلّا أن أبدي أسفي لغيابٍ شبه كامل للبحث الفكري الفلسفي والتاريخي والحقوقي في مفهوم العدالة وتطبيقاتها في المؤسسة الجامعية العربية، مع الإشارة إلى صدور بعض الأبحاث المفيدة في موضوع مفهوم العدالة في الإسلام، وزيادة لافتة شهدتها مؤخرًا ترجمة أعمال غربية تتعلق بالعدالة، ومنها أعمال رولز وأماراتيا سِن وجونستون.
إن أفضل مناسبة يمكن تخيّلها للخوض في هذا الموضوع وطرح تصوّرات نظرية وعملية للعدالة في المفهوم السياسي والحقوقي والاجتماعي، هي المراحل الانتقالية الكبرى. وهذا ما يعيشه الوطن العربي حاليًا، لأن الثورات العربية خرجت ضد الظلم وضد الاستبداد، أي من أجل العدالة بمعناها السالب، ألا وهو رفض الجور أو رفض الظلم. والأهم من ذلك أن جيل الشباب الذي حمل الثورات قد تحرر من ربقة الأيديولوجيات الأحادية ذات التصور الوحيد البُعد للعدالة، ومعه من التف حوله من الشعوب العربية. ومن هنا لم يحرك الثورات تصور أيديولوجي محدد للعدالة، والمجال مفتوح للتركيبات الكبرى غير المقيّدة مسبقًا بأيديولوجيا محددة تجمع بين مبادئ قيمية مختلفة ونظريات اجتماعية مختلفة، مثلما فعل رولز في حالة مزاوجة الفكر اللبرالي والعدالة الاجتماعية، وكذلك أمارتيا سِن في تطوير لاحق لها في المجال الاقتصادي.
من واجب الباحثين الملتزمين بأجندة اجتماعية أن يخوضوا في تصوّرات العدالة البديلة لأنظمة الاستبداد القائمة في الوطن العربي، والتي تزعزعت أركانها في المرحلة الأخيرة، بدءًا من ترسيخ القيم التي انطلقت منها الثورات. أمّا نماذج العدالة ذاتها، فلا تنبثق عفويًّا مثلما تعبّر القيم عن ذاتها عبر الإحساس بالعدل ورفض الظلم. ويأتي هنا دور الفلسفة السياسية في لقائها مع تخصصات الاقتصاد والحقوق والعلوم السياسية.
قلنا إن الخوض في مفهوم العدالة في السياق العربي، وصولًا إلى استنباط نماذج تتفاعل مع استقراء الحالات العربية، هو واجب الفلسفة السياسية في هذه المرحلة. هناك أسباب عديدة تدفعنا إلى هذا الحض على التفكير، ومنها: أولًا، لم يحصل انبثاق عفوي للعدالة كنظام وكنظرية في التاريخ، واحتمال حصوله ضئيل جدًا؛ ثانيًا، ثمة مهمات مباشرة مقبلة هي مهمات إدارة الدّولة في ظروف معقّدة، ولا يجوز حتى مقاربتها من دون تصوّرات بديلة تتضمّن الحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية والحريات. هذه قضايا لا تُترَك لعفوية الحركة الشعبية. ولكن في الإمكان صوغ وبلورة القيم التي انطلقت منها تلك الحركات، ومن أجلها. هذا هو بُعد العفوية الوحيد المفيد حين نبلور مفهومًا للعدالة في عصر ما بعد الثورات، إنها العفوية التي تحرك فيها الحس بالعدل عند الشعوب والثوّار، وكل ما عدا ذلك يجب أن يُصنع على أساس دراسة الأوضاع العينية في كل بلد ومعرفتها، والتحاور بشأنها، وكذلك عبر الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى.
قلنا إن مفهوم العدالة في الفكر المعاصر أصبح يتألف من ثلاثة مركّبات بنسب متفاوتة، ولكن لا يمكن تصوره من دونها، وهي الحقوق المرتبطة بالمواطنة المتساوية، والعدالة الاجتماعية، والحريات المدنية والسياسية. ولا أصطنع السؤال في هذه المناسبة إن قلت إن ثمة قضيّة رابعة لا يمكن لأي مفهوم للعدالة في سياق بناء الدولة الحديثة أن يتجاهلها، وهي مسألة الهُويّة. لقد تطوّر مفهوم العدالة في مسارات المساواة أمام القانون، والتصدي للظلم الاجتماعي والسياسي؛ ومؤخّرًا (في القرنين الماضيين) في مسار الحرية، والحريات المدنية. ولكن الحديث كان دائمًا يجري عن العدالة في إطار الدولة التي أصبحت في عصرنا تعني الدولة الوطنية كإطار مرجعي. ولنذكر أن جون رولز مثلًا لم يكتفِ بتحديد نظريته في العدالة في إطار الدولة، وامتنع من شمل كيانات أخرى داخل الدولة أو خارجها، بل قصرها على مجتمع حسن التنظيم في دولة ديمقراطية[28].
وقد انبثق عن هذا السياق مفهوم للعدالة ينظّم العلاقات داخل الدولة لا بين الدول، وأسئلة متعلّقة بمدى معيارية الانتماء إلى الدولة في تحديد سريان مفهوم العدالة على الفرد، وهل هنالك علاقة مباشرة بين الفرد وممارسة الدولة للعدالة؟ أم أنها تمر عبر كيانات أخرى؟ والمقصود هو كيانات اجتماعية تفرض نفسها كانتماءات للأفراد، وبلغة العصر هُويّات، مثل انتماءات مرجعية طائفية أو مليّة، وانتماءات مرجعيّة جهويّة وإثنيّة ... وما الهُويّة إلّا مساواة الشيء مع ذاته، لا مع المختلف. ولذلك تضمن النضال المتضمن لتأكيدها بُعدًا متعلقًا بالمساواة على الأقل داخل جماعة الهُويّة، إن لم يكن بين الهُويّات. ومن هنا تضمّن تأكيد الهوية دائما بُعدًا متعلقًا بالمساواة داخل جماعة الهوية.
إن ما يطرح هذه المسألة الرابعة عربيًا هو ظاهرة تسييس الهُويّات الفرعية داخل الدولة في خضم الصراع ضد الاستبداد، وتحوّل هذه إلى المطالبة بحقوقها من فم ناطقين باسمها؛ فقد أضعفت الثورات قبضة الدولة وأظهرت أن الاستبداد كان يغطي الشروخ الهُوياتية الاجتماعية بالقمع لا بقوة المجتمعات، ولا بعملية بناء الأمّة. وخرجت هذه إلى العلن كجماعات تضامنية، وحتى كهُويّات سياسية في بعض الحالات، تطالب بالعدالة ورفع الظلم عنها على شكل حقوق جماعية، وليس فقط على شكل حقوق مواطنية؛ وأحيانًا بدل الحقوق المواطنية وعلى حسابها.
يمكن في إطار هذه المسألة الرابعة أن تُطرح مقاربات مختلفة لممارسة العدالة، كمساواة بين المواطنين تلغي انتماءاتهم الأخرى (مثل الانتماءات الثقافية، الدينية واللغوية، والجهوية وغيرها). وثمة درجات كثيرة بين نظام لا يأخذها بعين الاعتبار، سواء بتحييدها من دون محاربتها، أو بعدم الاكتفاء بتحييدها والتوجه نحو محاربتها وفرض الهُويّة بإجراءات من فوق؛ وفي المقابل هنالك مقاربة أخرى تنطلق من كون الانتماءات الفرعية الأخرى هي كيانات قائمة بذاتها ولها حقوق. وإذا سلّمنا بهذا النموذج الثاني، واعترفنا بوجود كيانات حقوقية داخل الدولة غير المواطنة، كالملّة والجماعة القومية أو الثقافات والأقاليم، يُسأل: هل ثمة نظرية في العدالة لتنظيم علاقة تبادلية بين هذه الجماعات، وبين الجماعة والفرد المنتمي إليها، وبين الجماعة والدولة التي تعيش في كنفها؟ وهل يحق لهذه الجماعات أن تمارس سلطة على المواطنين؟ وهل يمكن أن تكون حقوقها على حساب حقوق المواطن بالاختيار؟
نتوقف هنيهة عند هذه النقطة لنؤكد أنه في الحديث عن العدالة في سياق العقد الاجتماعي لم تُسرد قصة نشوء الكيانات السياسية، أو الدول ، إلّا كما تُسرد أسطورة ذات مغزى، أو كنموذج نظري تصويري في فهم كنه الدولة من زاوية نظر حديثة. فالدولة بحد ذاتها لا تنشأ في عقد اجتماعي بين مواطنين. العقد الاجتماعي هو في أفضل الحالات نظرية في فهم الدولة، يبرر رؤية معيّنة لها ولصلاحياتها، ولمفهوم العدالة فيها. وهي ليست تأريخًا لنشوء الدول. تاريخيًا، تنشأ الدول من الجماعات والكيانات وغيرها لا من الأفراد، أي إن نظرتنا إلى العدالة لا تسرد قصة نشوء الدولة في التاريخ.
ولا يمكن تصور نشوء الجماعات السياسية المنظمة من دون عصبيات وانتماءات مختلفة، لا شك أنه كانت لها أولوية تاريخية على مفهوم الفرد، كفرد حديث، وعلى نشوء واقع ومفهوم المواطن[29]. ومثلما أن نظرية العقد الاجتماعي ليست تأريخًا للدولة بل نظرية في فهم الدولة، كذلك فإن فهمنا للمواطنة كأساس يجب أن يقوم عليه الانتماء هو فهم للانتماء الهُوياتي في الدولة الحديثة، وليس انتقاصًا من الدور التاريخي للجماعة الدينية أو اللغوية أو الإثنية؛ فالجماعة لا تقوم كخيار فردي، ولكننا نؤسّس الانتماء إليها على الخيار الفردي لكي تقوم على فكرة المواطنة، وحقوق المواطن، وليس على حسابها. إنها افتراضات نبني عليها مفهوم المواطنة المعاصر، ولكنها على الرغم من عقلانيتها صياغةً واشتقاقًا، فإنها ليست افتراضات علمية، بل هي افتراضات تتدخل في وضعها رؤى معيّنة تقوم على قيم ومصالح وعلى غيرها من دوافع الفعل البشري.
لم يَعُدْ ممكنًا تخيّل عدالة لا تنظم العلاقة بين مبدأي المساواة والحرية. وعلينا أن نبحث عن مفهوم للعدالة، أو عن نظرية إذا شئتم، تشمل جماعات الانتماء، أو الهويات إذا شئتم، من دون أن تأتي على حساب الحرية والمساواة، بل على قاعدتهما. ولكن ثمة أسئلة تحتاج إلى إجابات قبل الخوض في نموذج العدالة الذي نريد والذي يأخذ مسألة الهوية بعين الاعتبار:
يجب أن نحسم أولًا مسألة أن الدمج على مستوى الهُوية لم يعد ممكنًا بالقوة، حتى لو أن هنالك نماذج أوروبية "ناجحة" تاريخيًا في فرض الهُوية الثقافية واللغوية عنوة. لقد قامت فرنسا مثلًا بفرنسة جماعاتها اللغوية والإثنية بالقوة، ولكنها كدولة مستعمِرة نظّرت لقوْمنة الأقليّات في بلادنا، وعلى من يخوض في هذا الموضوع أن يحسم مسائل أخرى.
وإذا حُلّت مسألة أن الحقوق ترتبط بالمواطنين والمواطنة، وليس بالجماعة التي ينتمي إليها الفرد، تصبح مسألة وجود كيانات معترف بها وذات حقوق في عمليّة إدارة العدالة مسألةً ثانوية. فحتى لو اعتُرف بها بعد الاعتراف بالمساواة بين المواطنين، وبحقوق المواطنين غير القابلة للتصرف، تصبح هذه الانتماءات من حقوق المواطن ذاته، أي حقّه في أن يختار هُويّة ثقافية أو دينية بالإضافة إلى المواطنة، وأن تعترف بها الدولة، وأن تساهم في مأسستها وتنظيمها أو تمكينها من تنظيم نفسها (كنا قد أسلفنا حقًا نظريًا لا حكاية تصف صيرورة تاريخية). هذه مجال يحتاج إلى تطوير نظري في الفلسفة السياسية. وقد سبقنا إليه كثيرون، ولكن لا مجال إلّا لتفعيل العقل في استنباط نماذج نظرية انطلاقًا من قيم كونية مع نظرية استقرائية للواقع العربي.
ويبقى السؤال: هل من حقوق جمعية لهذه الكيانات، وما هي علاقتها بالدولة من جهة وبالفرد من جهة أخرى؟
ونضيف أنه لا يمكن أن يجري النقاش عربيًّا بشأن هذه المسائل بشكل بنّاء ومفيد من دون حسم هذه القضايا أولًا لنعرف ما إذا كنّا نتحاور على أساس قيم أساسية مشتركة، ونختلف على أساليب ممارستها، أم إن المتحاورين مختلفون قيميًا. فلا يمكن الاتفاق بواسطة الحوار وحده بين من يعتبر المواطنة المتساوية أساس الحقوق وأساس ممارسة العدالة، وبين من لا يعترف بالمساواة بين المواطنين مهما يطُل النقاش لأن منطلقه القيمي مختلف. وإذا لم نتفق على العدالة للمواطنين على أساس المساواة في الحريات والحقوق السياسية فلا مجال للحديث عن إطار سياسي واحد للعدالة؛ ولا عن حقوق جماعية لجماعات مختلفة داخل هذه الإطار، أو توافق كيانات، أو طوائف أو غيرها، وتصبح أي إثارة لها مشروع انفصال أو مشروع حرب أهلية، لأنها لا تُستوعب في إطار موحّد للعدالة.
وحتى لو اتفقنا على المفاهيم، فإنّها لا تعني الكثير إذا لم تترجم الأفكار التي تنتجها في برامج عمليّة على مستوى الممارسة تسمّى السياسات. وهذه لا يمكن أن تكون متعلقة بالهُويّة وحدها، وإنما أيضًا بالأسس الاجتماعية والاقتصادية التي تغذي الشروخ الطائفية والجهوية وغيرها. ونحن نسجّل هنا أن الدولة الوطنية العربية لم تنجح -كما يبدو- في توفير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لتقليص الفجوات في مستويات المعيشة والتعليم والخدمات الصحيّة بما يساهم في ما نسميّه عمليّة الاندماج الاجتماعي وبناء الأمّة/ الدولة. هذا فضلًا عن قمع الحريات وغياب الحقوق السياسية التي تمنح المواطنة معنى فعليًّا.
ثمة ترابط بين مكوّنات العدالة بمفهومها المعاصر في الدولة الحديثة وبين آليات الاندماج الاجتماعي. المشكلة هي أنّه إذا لم تنجح الدولة في الاندماج الاجتماعي كأساس راسخ لبناء الأمّة، فقد تنشأ مرجعيات اجتماعية مختلفة لممارسة العدالة، وهو ما يهدد بقيام كيانات سياسية مختلفة؛ إذ سبق أن قلنا إن العدالة تصحُّ في الدولة، وإنه لا يمكن إلّا نظريًّا أن يتم التعامل بمفاهيم العدالة نفسها بين ما هو داخل الدولة وما هو خارجها. ونحن لم نقُل إن هذا يعني بالضرورة أن تطبيق مفاهيم مختلفة للعدالة يقود إلى كيانات مختلفة، فقد تتعايش هذه، ولكن التعايش بحكم تعريفه هو تعايش بين من يمكن أن يكونوا خصومًا في أي لحظة؛ التعايش يدير الخصومة ويكرّسها في الوقت ذاته. والتعايش والإخاء بين الكيانات الثقافية والطائفية وغير ذلك من دون المساواة في المواطنة، أي من دون الأساس المشترك الذي تقوم عليه هما تسميتان أخريان لحرب أهليّة باردة يمكنها أن تشتعل كحرب ساخنة في أي وقت. من هنا، ليست العلاقة بين الاندماج الاجتماعي والعدالة مسألة رفاهية، بل هي قضية جوهرية لا يمكن للدول الحديثة، ولا سيما الديمقراطية منها، أن تتجاوزها. تعالوا نتحاور من جديد.
-------------------------------------------------