مقدمة
منذ خطاب شارون في العقبة يوم 4 حزيران يونيو 2003، والذي طالب فيه بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية وتأكيد الرئيس جورج بوش في خطابه على هذه الفكرة وحتى عودة رئيس حكومة إسرائيل إيهود أولمرت الى التأكيد عليها مرة أخرى في مؤتمر أنابولس أمام الوفود العربية تكررت الفكرة عدة مرات متحوّلة من تعريف وفهم ذاتي للصهيونية ومهامتها إلى مفهوم متداول على الساحة الدولية.
وقد كرر الرئيس الأميركي أوباما هذا التعريف لإسرائيل عدة مرات في خطاباته، وليس فقط في خطابه أمام أيباك عام 2008 عشية الانتخابات الرئاسية، بل ايضا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في ايلول سبتمبر 2010.[1]
ولا شك ان الهدف العملي لهذا التحول من تعريف ذاتي الى مفهوم في العلاقات الدولية وفي ما يسمى ب"عملية السلام"هو إقصاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين تماما، وإسقاطه قبل مناقشته، ومراجعة شرعيته الدولية بوضع مبدأ آخر متفق عليه بين الفرقاء هو مبدأ"دولتين لشعبين"فوق مبدأ حق العودة. وطبعا يترتب على مثل هذا الاعتراف تفهم مخاوف إسرائيل الديموغرافية حتى من المواطنين العرب، كما يعني قبول يهودية الدولة إقصاء دولي وعربي لمبدأ"الدولة لجميع مواطنيها"الذي تحدى مسألة يهودية الدولة داخليا ووضعها في حالة تناقض وصراع مع فكرة المساواة والديمقراطية.
ولكن الأمر الأعمق هو طموح إسرائيل أن يتحول الاعتراف العربي المنشود بها من اعتراف بدولة قائمة، الى اعتراف بالصهيونية، وبشرعيتها التاريخية. وبالتالي يتحول الاعتراف العربي من اعتراف تسووي واقعي الى اعتراف مبدئي بحق تاريخي، وهو لا يعني إلا أنها كانت تاريخيا على حق، والعرب كانوا تاريخيا على خطأ بشأن فلسطين. وفيما عدا نفيه لحق العودة فإن مثل هذا الاعتراف إذا حصل هو إنجاز سياسي معنوي ثقافي يعادل إقامة دولة إسرائيل ليس في الواقع الملموس بل في الثقافة والفكر والخطاب السياسي.
في رسالة من بن غويون الى شاريت من العام 1954 يقول بن غوريون:"ليس لنا ان نفصل الدين عن الدولة، فهنالك وحدة مصير بين دولة إسرائيل والشعب اليهودي"[2].
وتعود خصوصية العلاقة بين الدين والدولة في إسرائيل قياسا بدول حديثة اخرى الى التطابق الكامل بين الدين والقومية كما عرفتها الصهيونية. ونحن نجد أن بن غوريون في هذا الاقتباس وغيره يستخدم مصطلح الشعب اليهودي كمرادف للدين اليهودي. وبهذا المعنى أيضا يُستخدَم عادةً في إسرائيل تعبير"عام يسرائيل"(شعب إسرائيل). ويصح الادعاء طبعا ان الدين والقومية مترابطان ليس في حالة الدين اليهودي فقط. خذ مثلا حالة القومية البولندية والكنيسة الكاثوليكية، أو حالة القومية والدين والكنيسة الأرمنية، او الكنيسة الارثودكسية في اليونان...الخ.
وتقابل هذه الحالات حالات اخرى تتميز فيها القومية عن الدين تميزا يصل حد الصراع والتنافر مثل حالة القومية العربية التي نشأت من خلال تميز عن مفهوم الأمة الدينية وعن مفهوم الطائفة، أو الملة، العثمانيين. ولكن لا شك أن غاليبية القوميات اقترضت في عملية تشكلها رموزا دينية لتأكيد الخصوصية. وغالبا ما تتم علمنة هذه الرموز في الفكر القومي، أو يتم تأميم تاريخ الدين والمشاعر الدينية بأثر رجعي، فيكتب تاريخ الرسالة الدينية كأنه جزء من التاريخ قومي الذي يُسقَط على التاريخ بأثر رجعي. ولا شك أنه تمت في حالتي بااكستان وأرمينيا علمنة الانتماء الديني، او الطائفي كونه انتماء إلى جماعة واسعة متخيلة تصلح أساسا لإقامة الدول، بغض النظر عن رأينا بالنتائج الكارثية التي نجمت عن ذلك.
ويبقى تميز اسرائيل الاساسي والأهم في في كونها كيانا كولنياليا قائما على الاستيطان التوسعي في تناقض مع اصحاب الارض والمحيط. لكن بعد تثبيت هذا الفرق الذي يصنع الخصوصية، وفي قضية علاقة الدين والقومية تحديدا، تتميز حالة إسرائيل حتى عن أول دولة قامت بعدها على اساس ديني هي باكستان، وعن دولة مذهبية العقيدة هي إيران بأنها:
1. الوحيدة التي يمارس فيها التطابق بشكل كامل ويتم فيها الانتماء الى القومية ثم المواطنة في الدولة عبر تغيير الدين، ويتم اتباع معايير وأدوات دينية لفحص الانتماء الى هذه القومية. إذ يكفي اعتناق الدين اليهودي للتحول الى يهودي قوميا من حقه الحصول على حق المواطنة الإسرائيلية فورا.
2. وفقط في إسرائيل اعتمدت حركة علمانية هي الصهيونية حجة دينية تاريخية كحجة وحيدة لتبرير السيادة وحق تقرير المصير، إذ يدعى بموجبها حق تاريخي توراتي على الأرض.
و3. لا يجري في الحالة الإسرائيلية اختبار يهوديةِ اليهودي أو صحة إجراء تهوّد غير اليهودي لغرض تحصيل المواطنة الإسرائيلية فحسب، بل ترفض أيضا يهودية من غيَّر دينه من اليهودية الى ديانة أخرى، فلا يعود"قانون العودة"ينطبق عليه إذا غيَّر دينه.
لم يمنح الدين للصهيونية القومية الأسماء فحسب، ولا الأرض والتوراة فحسب، بل إن الأهم من ذلك أنه منحها البعد القيمي والتداعيات الثقافية والتراثية الإيجابية لهذا كله[3]. ومنذ برنامج بازل الصهيوني الذي أقر جوهر الصهيونية في إقامة دولةٍ لليهود هي في الوقت ذاته دولة يهودية، استخدمت تعبيرات دينية معلمنة كعناصر مكونة للب البرنامج السياسي للحركة الجديدة:"اقامة بيت قومي Heimstatte لشعب إسرائيل في أرض إسرائيل."والتعبيران"شعب إسرائيل"و"أرض إسرائيل"تعبيران دينيان توراتيان. وقد استخدم القيادي الصهيوني العلماني البارز اوسيشكين الحجة الدينية دوليا في مرحلة مبكرة يوم 27 شباط 1919 في خطابه امام مؤتمر السلام بعد الحرب العالمية الاولى:"المطلب التاريخي للأمة اليهودية، أن تعاد إلى حدودها[4] وإعادة الأرض التي وعدت بها العناية الإلهية بني إسرائيل قبل أربعة آلاف عام".[5]
وفي الواقع لم تتبن الصهيونية التبرير الديني التاريخي فقط، بل تبنّت في الواقع ضمنيا في روحها الداخلية، وفي بنية خطابها ولاهوتها السياسي ودوافعها وقدرتها على التجييش والتعبئة فكرة"هجئولاه"(الخلاص) redemption اليهودية الدينية المسيانية. وقد استخدم مصطلح"جئولات هأدماه"أو (تخليص الارض) حتى للدلالة على نقل ملكيتها من العرب. وتحولت مصطلحات مثل"جالوت"(منفى) و"جئولاه"[6] إلى شيفرات تعبوية في عملية تمرير وقبول الفكر الصهيوني، وإلى صنع دوافع للتجند للحركة الصهيونية كحركة خلاصية تستثمر المخزون الديني للخلاص وإحالاته وتعبيراته وأشواقه تطلعاته التاريخية، تستخدمها جميعا لغرض قومي سياسي.
وكان هذا السياق بالتحديد سبب تطور النفور في البداية بين الصهيونية والحركات الدينية الارثوذكسية التي اعتبرت الصهيوينة مسيانية خلاصية كاذبة، أي نوعا من المسيح الدجال.
ولكن سبب النفور ذاته تحوّل فيما بعد إلى مصدر لتعزيز ارتباط الدين والحركات الدينية بالصهيونية، باعتبار أن الخلاص ذاته هو الرابط الروحي الذي يمنح الصهيوينة مكانة روحية.
وعلى كل حال لم يجد لا وعد بلفور ولا صك الانتداب، ولم تجد دولة إسرائيل تعريفا آخر غير التعريف الديني لليهودية ولمن هو الشعب اليهودي. وقد توَّلت الأرثودكسية اليهودية عملية حراسة حدود الشعب اليهودي، حتى قامت في إسرائيل كدولة مؤسسة دينية وأحزاب دينية وأرثودكسية دينية يهودية متصهينة، ولم تجد الصهيونية في النهاية ما يحّل محلها.
من الصعب تقصّي أثر الديمقراطية الإسرائيلية تاريخياً بين الديمقراطية الداخلية في المؤسسات الصهيونية وتعددية التيارات الفكرية فيها وبين الترتيبات القانونية من الإرث الانتدابي البريطاني في هذه البلاد. ولا شك أن"الديمقراطية الإسرائيلية"قد تطورت خلال خمسين عاماً من خلال تفاعل عوامل اجتماعية وسياسية وقانونية، يمكن تلخيصها بالانتقال من مجتمع استيطاني مجند ومعبأ إلى مجتمع رأسمالي حديث واستهلاكي (لكن ما زال محكوما بمهمات قومية وإيديولوجية أهمها التناقض الاستيطاني مع المحيط). نذكر هنا منها على سبيل منح فكرة للقارئ فقط[7]: 1. ارتفاع مستوى التعليم لدى الطبقات والنخب المؤسسة لل"يشوف العبري"(الساكنة اليهودية في فلسطين) و2. توسع الطبقة الوسطى وتعميم التعليم مع تطور الديمقراطية التدريجي، و3. انحسار الاقتصاد الزراعي الاستيطاني ذي الطابع العسكري، و4. تنامي تأثير الثقافة الغربية ومحاكاتها، (في عملية وضع مسافة بينها وبين المنطقة العربية التي تعيش معها الدولة العبرية حالة حرب)، على جمهور تعود اصول غالبيته إلى أوروبا الشرقية ودول عربية ويحمل تراثا سياسيا غير ديمقراطي، و5. انفتاح النظام لاستيعاب آثار لجدلية الفصل بين السلطات، خاصةً استقلال القضاء، وتطور جدلية العلاقة بين الفرد والمجتمع المدني والدولة...
ومهما فصّلنا بالأصول والمصادر من ناحية، وديناميكية التطور من ناحية أخرى، يعاد بعد كل مرحلة تكوين وعاء التمفصلات الجديد. وسياق تطور الديمقراطية الإسرائيلية هو السياق الصهيوني، الذي يعاد إنتاجه في كل مرة على مستوى أعلى. والاتفاق على هدف الدولة كدولة اليهود، وكدولة يهودية تهدف الى"جمع الشتات"واستيعاب الهجرات الصهيونية، وما يترتب عن ذلك هو هو أساس"الديمقراطية الإسرائيلية". إنه مكوّن الانسجام الذي يعوّض عن فقدان التاريخ الديمقراطي وفقدان البنية القومية المشتركة. فهدف بناء الأمة والأدوات التي توفّرها الدولة لذلك يخلق الوحدة والانسجام اللازمين لتحمل التعددية الديمقراطية بين اليهود، ويمنع تحولها إلى حرب أهلية طائفية الطابع مثلا.
الصهيونية، وليس المواطنة، هي وعاء الديمقراطية الإسرائيلية، وهي عائق تطورها في آن. فهي ساعات الازمات تحديدا تتحول غلى قبيلة ويتبين انها كانت في الواقع في غيرساعات الأزمات"ديمقراطية"داخل القبيلة.
نحند ندعي إذا أنه في حالة دولة إسرائيل لا يمكن فصل يهودية الدولة عن ديمقراطيتها. ولا يعود ذلك إلى نص قانوني ملزم، بل إلى التشكل التاريخي ذاته للكيان السياسي، وغاياته ودوافعه، وإلى عملية بناء الأمة التي شكّل هذا الكيان أداة لها. لقد قامت الديمقراطية كشكل نظام الحكم في الدولة اليهودية، وتطورت كعملية إدارة"الأمة اليهودية"الوليدة (ونواتها ومركزها هذا الكيان السياسي) لشؤونها في الدولة اليهودية. فمن الناحية القانونية لم يرد المصطلح المزدوج كتعريف للدولة إلا في القوانين الأساسية (الدستورية الطابع) المتأخرة جداً،
مثلا في"قانون أساس: كرامة الانسان وحريته"من العام 1992، حيث ورد في هدف القانون ما يلي:"بند 8أ: هدف هذا القانون الأساس هو الدفاع عن كرامة الانسان وحريته من أجل تثبيت قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية في قانون أساس."وأيضاً في"قانون أساس: حرية العمل (او اختيار المهنة)"من نفس العام 1992 حيث ورد في هدف القانون"بند 2: هدف قانون الأساس هو الدفاع عن حرية اختيار العمل ومن أجل تثبيت قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية."
قد يستغرب المرء حاجة المشرّع الإسرائيلي المتأخرة لقوننة هذا التعريف للدولة، والذي تحول بالتدريج إلى عبارة تكاد تكون مقدّسة في التشريع الإسرائيلي، هذا إضافة الى جعل قبولها،"الاعتراف بها"، شرطاً يجب أن يتوفر في أي حزب يرغب بخوض الانتخابات البرلمانية.
وهو نفس الاستغراب الذي لا بد أنه أصاب قادة دول اجنبية طُلِبَ منهم أن يؤكدوا أن إسرائيل دولة يهودية أثناء المفاوضات مع الفلسطينيين. فالفلسطينيون لا يطالبون ان تعترف بهم إسرائيل كدولة عربية. وطابع الدولة يحدده مواطنوها، شعبها سكانها، وليس إعلانات قادة الدول الاخرى. لكن لا شيء مستغرب على العلاقة الإسرائيلية الامريكية، ولا على علاقة دولة إسرائيل بيهوديتها. فعندما رفض الفلسطينيون الطلب، لأنه يعني تخليهم العلني عن حق العودة حتى قبل بدأ المفاوضات، تبنت أمريكا المطلب لتبديد مخاوف إسرائيل. ولذلك جاء في كلمة الرئيس الامريكي بوش في مؤتمر العقبة يوم 4 حزيران 2003 :"اليوم، أمريكا ملتزمة بقوة بأمن إسرائيل كدولة يهودية مفعمة بالحيوية". وهكذا أصبحت يهودية إسرائيل مسألة دولية.
لقد أقر قرار التقسيم (قبل جورج بوش) يهودية دولة وعروبة اخرى في فلسطين. وقرار التقسيم هو الأساس القانوني الدولي الذي استغلته إسرائيل لتعلن عن ذاتها كدولة مستقلة. وهي بعد ستة عقود على قيامها على خرائب الشعب الفلسطيني لا تكتفي بالاعتراف بها كدولة ذات سيادة بل تطالب بالاعتراف بطابعها القومي او الديني. وقد ورد المطلب، بل الشرط، الإسرائيلي الأخير، كشرط تفاوضي لأول مرة في سياق النقاش في الحكومة الإسرائيلية على ما يسمى ب"خارطة الطريق". وقد قدمت"الخارطة"لإسرائيل رسميا يوم 30 نيسان من العام 2003 وناقشتها الحكومة الإسرائيلية يوم 25 ايار. وفي الواقع لم تقبل الحكومة هذه الخطة الامريكية، بل قبلت في نص قرارها بشأن الخطة ب"الخطوات المترتبة عن الخارطة"مشروطة بأربعة عشر شرطا. وحتى هذا القرار جاء باغلبية 12 ضد 7 وزراء. وجاء في الشرط السادس من هذه الشروط الاربعة عشر:"المطالبة بتنازل فلسطيني عن كل ادعاء بحق العودة للاجئين الفلسطينيين الى داخل إسرائيل"ثم تليت هذه الجملة بالجملة التالية التي وضعت بين قوسين، طارحة مطلبا يشكِّلُ ترجمة عملية للجملة الأولى:"(يُطلب من الفلسطينيين أن يعلنوا أن إسرائيل دولة يهودية في اطار التصريحات الافتتاحية المطلوبة من الزعماء في بداية خارطة الطريق)". هذا هو حرفيا نص قرار الحكومة. وهو المرة الأولى التي يطرح فيها هذا المطلب بهذه الطريقة من قبل الحكومة الاسرائيلية. كان ذلك أحد شروط قبول"خارطة الطريق"التي وضعها الرئيس الأميركي بوش، والتي لم تقبل في الواقع من قبل إسرائيل خلافا لما يُرَوَّج.
لا شك إذا أن مطالبة إسرائيل الاعتراف بيهوديتها جاء على خلفية مطالبتها الفلسطينيين بالتخلي عن حق العودة قبل التفاوض، وليس على خلفية النقاش حول قرار التقسيم إلى دولتين، ولا على أساس النقاش الجاري بين المتدينين والعلمانيين حول يهودية الدولة، ولا على النقاش الذي أثاره التيار القومي الديمقراطي في الداخل حول دولة المواطنين. ولكن منذ العقبة وخارطة الطريق تم تدويل هذا النقاش. ولا بد أن يتم التطرق في المستقبل إلى هذه القضايا بما فيها القضية المعروفة بقضية"يهودية الدولة"وعلاقتها بديمقراطيتها وبمواطنيها العرب الفلسطينين الموجودين فيها. وهم الموجودون فيها ليس بفعل قانون العودة الصهيوني المعمم على جميع مواطنيها اليهود، سواء كانوا مهاجرين أم لا، وإنما بفعل كونهم سكان البلاد الذين بقوا في وطنهم بعد تشريد غالبية شعبهم عام 1948.
ومن أجل توضيح وجاهة الاستغراب من المطلب الإسرائيلي الذي يعكس ولا شك حمّى حقيقية في السياسة الداخلية الإسرائيلية كما سوف نرى، سوف ننظر اليه، أي الى الاستغراب، بتناوله بداية من زاوية نظر اليمين الإسرائيلي التقليدي نفسه بداية. وسوف نتطرق الى ما قاله عام 1985 ممثل الليكود دوف شيلانسكي الذي أصبح فيما بعد رئيسا للكنيست اثناء مناقشة تصحيح قانون أساس الكنيست. في حينه تمت مناقشة إضافة البند 7أ [8] من القانون. وهو البند الذي يمنع كل قائمة لا تعترف بأن إسرائيل دول الشعب اليهودي، أو لا تعترف بديمقراطيتها، أو تحرض للعنصرية من خوض انتخابات الكنيست. قال شيلانسكي ممثل ما اسميه هنا باليمين التقليدي في خطابه مستغربا:"سيدي الرئيس، يبدو لي أنه لا توجد دولة اخرى في العالم يناقش برلمانها هل يمكِّن حزبا او مجموعة اشخاص تنفي من الاساس كيان الدولة من المشاركة في الانتخابات البرلمانية. لا يتخيل ذلك إنسان عاقل، ولا توجد حاجة لنقاش كهذا. عندنا يدور مثل هذا النقاش. وربما نحن بأنفسنا لم نستوعب الانقلاب التاريخي الكبير بعد. لقد قامت دولة يهودية في أرض إسرائيل. سادتي افتحوا أعينكم الحلم تحقق قامت لنا دولة، حلم الأجيال تحقق. عندنا دولة. مثلما توجد للفرنسيين دولة، وللانجليز دولة وللهولنديين دولة. فلنفكر نحن أيضا مثل شعب طبيعي، شعب ملتصق بوطنه. هل تفكرون أنه في البرلمان الفرنسي أو الانجليزي او الهولندي أو في أي دولة أخرى ترد أصلا امكانية وجود حزب ينفي أسس الدولة او مجرد وجودها."
يبدو هذا الاستغراب في البداية ساذجا وعفويا، ويستنتج العقل السليم فعلا أن النقاش هو دليل على عدم ثقة بالنفس، وبيهودية الدولة، فنقاش كهذا غير وارد في أية دولة أخرى في العالم. (وهو بالطبع يذكر الدول الاوروبية فقط، وليس الأفريقية مثلا التي يدور فيها صراع دموي على السلطة، وفيها يتخذ الصراع شكل صراع قبلي على كيانها، وعلى هويته وتعريفه، أو يهدد هذا الكيان). ويطلب من النواب أن يصحوا من الحلم الذي غدا حقيقة. ويدعو بالحس الغريزي الى رفض القانون لأنه يدل على عدم ثقة بالنفس، وعلى عدم تجذر الدولة. ولكن ما ان نحسب أننا أدركنا بالعقل السلم رد فعل غريزي يحذر من انعدام الثقة بالنفس حتى يعود نفس النائب اليميني الصهيوني هذا الى استخدام دهشته للاستغراب من مجرد وجود أحزاب كهذه. وفي النهاية لا يدعو فقط إلى تبني البند7أ بل يعدله ليصبح"الاعتراف بإسرائيل دولة الشعب اليهودي في ارض إسرائيل"هو شرط المشاركة في الانتخابات البرلمانية.[9] أي أن الشرط الذي يطرحه هو الاعتراف بمجمل الإيديولوجية الصهيونية.
وسوف تزودنا النقاشات البرلمانية على هذا البند بمادة ثقافة سياسية ممتعة لأعوام طويلة. وربما يصحّ إيراد لمحة قصيرة عن مناقشة البند. فقد طرح بداية في القراءة الاولى متضمنا"عدم الاعتراف بدولة إسرائيل كما تنص على ذلك وثيقة الاستقلال"كمبرر لمنع قائمة من خوض الانتخابات البرلمانية. واثناء تحضير القانون للقراءتين الثانية والثالثة في لجنة القانون والدستور تم تعديله إلى منع"كل حزب ينفي إسرائيل كدولة الشعب اليهودي بأقواله وأفعاله"بشكل صريح من خوض الانتخابات. وبقي القانون على هذه الصيغة حتى العام 2002. وعندما أضيف الى هذا البند في العام 2002 شرط جديد هو عدم دعم الكفاح المسلح لدولة او شعب ضد إسرائيل[10] عُدِّل البند من جديد ليصبح متوافقا مع القوانين الأساس التي سنت عام 1992، أي أصبح يتضمن منع أي حزب لا يعترف بإسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية من المشاركة في الانتخابات. في إطار هذا التصحيح أيضا تم توحيد صفتي اليهودية والديمقراطية سوية بعد أن نص قانون 1985 في بند واحد على نفي دولة الشعب اليهودي وفي بند منفصل آخر على نفي الديمقراطية.
ومن الواضح أنه في بداية التسعينات وجد المشرِّعُ حاجةً لموازنة التوسع الديمقراطي الشكلي في قضايا حقوق المواطن. لقد تجلى هذا التوسع في سن بند يحظر العنصرية في قانون العقوبات، وفي سن إضافة لقانون أساس الكنيست يمنع قائمة تحرض للعنصرية من خوض الانتخابات. وأجري التوازن تحديدا بواسطة التذكير بتعريف الدولة كدولة الشعب اليهودي. وواضح أن الثقافة السياسية الصهيونية السائدة تستشعر خطر توسّع تعريف مفهوم الديمقراطية في القانونين الأساس المذكورين اللذين شرعا في بداية التسعينات: قانون حرية وكرامة الانسان، وقانون حرية العمل واختيار المهنة، وذلك لأن هذا التوسع في الحقوق اللبرالية اذا ما قيد الى نهايته المنطقية قد يأتي على حساب ان الدولة دولة الشعب اليهودي، او قد يؤدي في تفسيراته الى تفسير ديمقراطية الدولة بتناقضٍ مع جوهرها، او هويتها، او صورتها. أي أن هنالك حس غريزي لا يُعَبَّر عنه دائماً بشكل صريح، بوجود تناقض بين صهيونية الدولة وديمقراطيتها، وبضرورة وضع السقف الذي تجري اللبرلة والدمقرطة تحته ولا تتعداه. وقد أصبح وجود العبارة المؤلفة من هاتين الكلمتين شرطا لسن أي قانون أساس في الكنيست.
ومنذ أن قررت الجمعية التأسيسية (التي تولد عنها البرلمان الاسرائيلي) عام 1949 عدم سن دستور، وهي المكلفة بوضع الدستور، والإعلان عن نفسها أنها هي ال"كنيست الأولى"، أصبح تشريع"القوانين الأساس"(حوكي هيسود: The Basic Laws) الذي تقوم به الكنيست عند الحاجة كما هو معروف تعبيرا عن عملية سن دستور تدريجية. والقوانين الأساس في إسرائيل هي عمليا فصول منفصلة في الدستور. وتنقسم الى قسمين. قسم يمكن ان نطلق عليه مجازا كنية إجرائي عملي، اي متعلق بإجراءات إدارة الدولة ومؤسساتها، ولكنه يتضمن مضامين وقيم ويبنى عليها، وقسم قيمي متعلق باهداف وغايات الدولة والقيم التي تقوم عليها وحقوق المواطن، ويتضمن جوانب إجرائية عملية تنظمه...
وقد عبّر الراب مئير كهانا مؤسس حركة كاخ العنصرية بشكل واضح عن التناقض بين الديمقراطية التي يرفضها و"يهودية الدولة"التي يدعمها بقوله ان الدولة اليهودية لا يمكن ان تعني إلا دولة شريعة. لقد قاد كهانه"الدولة اليهودية"الى النهاية المنطقية لأي تفسير مثابر لها كمصطلح. وفي خضم محاولة النظام الإسرائيلي تبرئة نفسه من كهانا عبر منعه من خوض انتخابات الكنيست بعد فوزه بمقعد برلماني مرة واحدة[11]، نشأ التأكيد على إقصاء العنصرية من جهة، وعلى الجمع بين يهودية الدولة وديمقراطيتها من جهة اخرى.
وثيقة الاستقلال وقانون العودة والمواطنة
يرتكز قانون العودة الإسرائيلي على أن إسرائيل غايةً ومنطلقاً هي دولة الشعب اليهودي. هذا ما يؤكده قانون العودة عمليا، وهذا ما ينطلق منه. وهذا ما يساهم في صنعه في الواقع. وكان هذا حال وثيقة الاستقلال قبل قانون العودة. لقد وافقت المحكمة العليا على الوثيقة، واعتمدتها قاعدة دستورية للدولة عندما مُنِعَت حركة الأرض من خوض الانتخابات على لسان القاضي أجراناط، أحد أهم قضاة العليا التاريخيين:"ليست دولة إسرائيل دولة مستقلة ذات سيادة فحسب، وإنما أقيمت كدولة يهودية على أرض إسرائيل، لأن عملية إقامتها تمت أولا وقبل كل شيء بفعل حق الشعب اليهودي الطبيعي التاريخي أن يعيش، مثل أي شعب، مستقلا في دولته ذات السيادة".[12] والفقرة منسوخة تقريبا من وثيقة الاستقلال الإسرائيلية التي تحولت بواسطة هذا القرار إلى وثيقة ذات قيمة دستورية[13] بنظر اللبراليين الاسرائيلين. (في حين أنه ما زال اليمين الاسرائيلي لا يقبل ان للوثيقة قيمة دستورية). وقد أكثر قضاة المحكمة العليا من الاستناد الى هذا الاقتباس من أجراناط في إسناد قراراتهم بشأن أي قضية يبحث فيها الموضوع، خاصة قبل ان تشرّع الكنيست عام 1985 لمفهوم"دولة الشعب اليهودي"مانعة الحزب الذي"ينفيها في أعماله أو أقواله ضمنا او علنا"من المشاركة في الانتخابات النيابية، وقبل أن تتبنى الكنيست في مرحلة لاحقة صيغة"الدولة اليهودية الديمقراطية"كبند متكرر في قوانينها الاساسية منذ العام 1992.
ومن بين الاستخدامات المختلفة والرائجة لهذا الاقتباس في المحكمة العليا الإسرائيلية قبل أن تجد الكنيست حاجة لتشريعه نعثر على كلام دقيق لدى قاضي المحكمة العليا دوف لفين بشأن الالتماس ضد قرار لجنة الانتخابات المركزية السماح للقائمة التقدمية للسلام[14] بخوض الانتخابات. حيث كان القاضي لفين من بين قضاة الأقلية الذين صوتوا مع إبطال قرار لجنة الانتخابات المركزية بالسماح للقائمة التقدمية بخوض الانتخابات البرلمانية للعام 1988:"جوهر الدولة هو أنها دولة يهودية، ونظام الحكم فيها هو نظام ديمقراطي."[15] الجوهر إذا يهودي والشكل ديمقراطي. ويذهب القاضي اللبرالي باراك أبعد من ذلك ليضع النقاش بين اليمين واليسار، وبين اللبراليين والمحافظين في إسرائيل في اطار نفس الايديولوجيا. يقول القاضي باراك مقتبسا زملاءه دوف لفين ومناحم إيلون من نفس القرار اعلاه:"نحن دولة شابة فيها شعب قديم عاد الى وطنه. دولة إسرائيل هي تحقيق تطلعات الشعب اليهودي منذ أجيال لتجديد تاريخه القديم، بداية الخلاص، تحقيق الرؤيا الصهيونية. عميق هو الرابط الديني القومي والتاريخي السياسي بين شعب إسرائيل وأرض إسرائيل، وبين الدولة اليهودية والشعب اليهودي."[16] لاحظ أن القاضي باراك يشرعن الرؤيا الخلاصية المسيانية في الصهيونية، ويؤكد على أن الرابط الصهيوني هو في الواقع ديني سياسي، وأنه لا فرق لديه في الواقع بين التعابير"دولة يهودية"و"دولة صهيونية"و"دولة اليهود". وهو يُجْمِل التعريفات المعروفة لهذه التعابير ضمن تعداده لمركبات شرعية إسرائيل التاريخية.
هذا موضوع مفروغ منه بالنسبة للصهيونية، وبهذا المعنى فإن المحكمة العليا ليست إسرائيلية فحسب بل هي، بشقيها اللبرالي والمحافظ، إذا صح التعبير، تحسم موقفا إيديولجيا لصالح الصهيونية، إنها محكمة صهيونية.
وما زال بعض الديمقراطيين اللبراليين يحاول أن يستخدم مصطلح دولة الشعب اليهودي كمصطلح مغاير للدولة اليهودية، أي باعتبار ان الحديث هو عن دولة قومية، بمعنى أن دولة الشعب اليهودي هي في الواقع nation state، مثل أي دولة تعبر عن حق تقرير المصير والسيادة لشعب. وهي بهذا المعنى"دولة الشعب اليهودي"، أو دولة اليهود"، مع الإضافة الواجبة أنها ديمقراطية. وهكذا يفسر البروفيسور آسا كشير استاذ الفلسفة في جامعة تل ابيب هذه العبارة :"فكرة أن دولة إسرائيل هي دولة اليهود، وفكرة أن دولة إسرائيل ديمقراطية، هي أفكار مؤسِّسة لدولة إسرائيل. وأي تغيير جوهري في احداها يؤدي الى تغيير متطرف في ماهية الدولة، وفي مكانتها الاخلاقية، وفي نسيج العلاقات بينها وبين مواطنيها، وبينها وبين الشعب اليهودي. ومن المفيد أن نذكر ان مصطلح 'دولة اليهود' كان في الماضي اكثر انتشارا من مصطلح 'الدولة اليهودية'. وأنا أفضّل مصطلح 'دولة اليهود' الذي يعبّر عن العلاقة بين الدولة وبين مجموعة الناس اليهود، المفترض أن يجدوا فيها إمكانية التمتع بالحرية السياسية، بدون نير اضطهاد السلطة الاجنبية، وبدون عبء إشكالية سلطة الأغلبية المغايرة [17]. يدعو المصطلح 'دولة يهودية' الى تفسيرات تتعلق بجوهر محدد للدولة، جوهر 'يهودي' كما يُدَّعى، وسبق أن أُعطِيَت تفسيرات كهذه، وهي تفسيرات خطيرة من نواحي عدة."[18] ويقصد كشير بالطبع أن يتجنب اعتبار يهودية الدولة جسرا لتفسيرات دينية تحكِّم الشريعة اليهودية في حياة الناس بشكل أعمق، كما تتعامل الاحزاب الدينية مع مفهوم"الدولة اليهودية". وهذا نقاش حول دور الشريعة والفصل بين الدين والدولة، خاصة فيما يتعلق بحرية الفرد وقضايا الاحوال الشخصية. وهو نقاش وصراع دائر بلا نهاية في الحياة السياسية والتشريعية والقضائية الإسرائيلية من دون نها.
مثال آخر هو البروفسور في القانون روت جافيزون. لقد مثّلت هذه الباحثة في الماضي مواقف لبرالية. وهي تمثّل في العقد ونصف الأخيرين مواقف يمينية متطرفة في التأكيد على صهيونية الدولة، وفي التأكيد على سياسات الهوية اليهودية. وهي تعترض على تدخل المحكمة الإسرائيلية العليا حين يأتي هذا التدخل ضد تشريعات غير ديمقراطية، تعتبرها الباحثة معايير وقيم إسرائيلية سائدة عند الأغلبية ليس من حق المحكمة فرض عكسها. ولكن روت جافيزون تمثل أيضا موقفا علمانيا. وهي ترى في يهودية الدولة ما هو أبعد من أغلبية يهودية، إنها تصر على وجود مضمون ليهودية الدولة. وهو كامن بالضبط في تمكينها اليهود من تطوير هوية يهودية علمانية وليس دينية فقط، فهذه الإمكانية غير قائمة في الشتات برأيها.[19]الهوية العلمانية في الشتات لا يمكن إلا أن تكون اندماجية برأيها، في حين أن الهوية اليهودية في الشتات هي فقط هوية دينية. الهوية الدينية كهوية علمانية، وبهذا المعنى قومية، ممكنة فقط في دولة إسرائيل كدولة قومية. وعلى كل حال فإنها تدعو إلى هوية يهودية قومية غير دينية. ويتوافق الطرح هذا مع محاولات يوسي بيلين وغيره من قادة اليسار الصهيوني الذين يرون مأزق الهوية اليهودية في وضعها الحالي في الغرب. ومن هنا محاولات اختراع التهويد conversion العلماني. وكما يبدو لا بد أن تؤدي هذه المحاولات للتهويد غير الديني، باعتماد معايير وطنية، إلى اعتبار الخدمة في الجيش بديلا عن التهويد في عملية منح المواطنة. وعلى سبيل النكتة بالعبرية الدارجة فإن المعيار بالنسبة للعلماني هو بندقية"أم سكستين"بدل"الأم اليهودية". إن بديل اليسار الصهيوني المطروح فعلا لمسألة الهوية اليهودية الدينية هو الخدمة العسكرية في إسرائيل من جهة، والاعتراف بتيارات اليهودية الإصلاحية التي تكيّف الهوية اليهودية مع الحياة في الغرب من جهة أخرى وتسهِّل عملية التهود. ويثبت المد اليميني الديني الإسرائيلي وانتشار سياسات الهوية مدى هامشية هذه المحاولات التي تؤدي غالبا الى مزج المعيارين، أي تركيب الهوية اليهودية والعسكرة في الوقت ذاته. وخلافا لما توقعه اليسار الصهيوني طيلة الثمانينات والتسعينات لم تصبح اسرائيل اكثر اسرائيلية واقل يهودية، بل اصبحت أكثر اسرائيلية واكثر يهودية في الوقت ذاته، طبعا مع الأخذ بعين الاعتبار للتغيرات التي طرأت على فهم الناس لليهودية وممارساتها.
ومن أجل فهم علاقة يهودية الدولة بكونها دولة اليهود وبمفهوم المواطنة من المفيد أن نراجع خطاب رئيس الحكومة الأول دافيد بن غوريون في معرض تقديمه لقانون العودة من العام 1950:
"ولكن دولة إسرائيل تختلف عن بقية الدول في عوامل إقامتها وفي أهداف اقامتها. لقد قامت قبل عامين فقط، ولكن جذورها مزروعة في الماضي البعيد، وهي تنهل من ينابيع قديمة. نظامها ينحصر في سكانها، ولكن أبوابها مشرعة لكل يهودي بما هو يهودي. ليست هذه الدولة يهودية من ناحية كون اليهود غالبية سكانها. إنها دولة اليهود حيثما كانوا، وهي لكل يهودي يريدها.... يوم 14 أيار 1948 لم تقم دولة جديدة من لا شيء، وانما أعيد سابق عهد إلى مجده، وذلك بعد مرور 1813 عام على هدم لاستقلال إسرائيل في أيام باركوخبا والراب عكيفا بدا أبديا. لم تقتصر العوامل التي أقامت إسرائيل على العوامل والأفعال المباشرة القريبة التي سبقت اقامتها."[20]
يقول بن غوريون إذا أن دولة إسرائيل ليست دولة الغالبية اليهودية الموجودة فيها، ولا هي تعبير عن حقها بتقرير المصير (إذا سلمنا بتشكلها القومي في دولة)، وإنما هي دولة يهودية بكونها دولة اليهود أينما كانوا.
آسا كشير يؤكد أن دولة إسرائيل هي نتاج النشاط الصهيوني القومي الحديث فقط ويعتبر الدولة اليهودية"تتويجا للنشاط الصهيوني". دافيد بن غوريون العلماني، ربما أكثر من آسا كشير الذي يضع على رأسة قلنسوة، يؤكد أن هذا غير صحيح، وأن هذا غير كاف لفهم معنى أن إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي. إنه صهيوني أكثر صراحة في تقبل لقاء الهوية الدينية والقومية. ولذلك يعيدنا دافيد بن غوريون 1813 سنة إلى الوراء للبحث عن مصادر الدولة. هنا يتضح أنه حتى بالنسبة لعلماني مثل بن غوريون لا يوجد فرق حقيقي بين"دولة يهودية و"دولة اليهود". لماذا؟ الأمر هنا مفهوم تماماً. لأن الصهيونية في أوج علمانيتها لم تنجح اطلاقاً بوضع تعريف علماني لليهودية يختلف عن تعريف الشريعة لهذا الانتماء بكونه دين. اليهودي قومياً بنظر الصهيونية هو أيضاً اليهودي طائفيا.
ومن الذي يحدد اليهودي طائفيا ان لم يكن المؤسسة الدينية في نهاية الامر؟ لقد أكثر البروفسور يشعياهو لايبوفتش من مهاجمة بن غوريون لأنه المسؤول عن عدم الفصل بين الدين والدولة في إسرائيل لأن الأخير برأي لايبوفتش أراد استخدام المؤسسة الدينية كأداة بيده. ولكن هذا التفسير لا يستنـزف أسباب هذه الظاهرة الغريبة قياسا بدولة حديثة، القرار ليس شخصيا أداتيا صرفا. بل هو حالة بنيوية، فكيف بالامكان فصل الدين عن الدولة، أو فصل دولة اليهود عن يهودية الدولة؟ ما دامت اليهودية تقرر المواطنة عبر قانون العودة. وما دامت اليهودية تعني أكثر من رموز الدولة أو مصدرها التاريخي التراثي فحسب (كما يرغب اللبراليون أن يعتقدوا) فليس بالإمكان فصل الدين عن الدولة في إسرائيل.
الموضوع أساسي وحاسم ليس فقط لغرض تحديد طبيعة الجماعة القومية التي تعتبر إسرائيل دولتها كدولة قومية بالمفهوم الصهيوني، وانما ايضاً من ناحية حق المواطنة فيها. فقانون العودة من العام 1950 ينص بشكل واضح:
"بند 1: من حق كل يهودي ان يهاجر الى البلاد [21].
"بند 4: يتم التعامل مع كل يهودي هاجر الى البلاد قبل سريان مفعول هذا القانون، وكل يهودي ولد في البلاد قبل سريان مفعوله او بعده، كأنه هاجر اليها بموجب هذا القانون.
يتابع القانون أعلاه بتعريف اليهودي:
"4(أ) حقوق اليهودي بموجب هذا القانون وحقوق المهاجر بموجب قانون المواطنة (من العام 1952) وأيضاً الحقوق الممنوحة للمهاجر اليهودي بموجب كل تشريع آخر تمنح أيضاً لإبن وحفيد اليهودي ولزوج ابن وحفيد اليهودي، ما عدا من كان يهودياً وغير دينه بإرادته.
"4(ب) لغرض هذا القانون، اليهودي هو من ولد لأم يهودية او تهوّد وهو ليس تابعاً لديانة أخرى."[22]
جرى إدخال البندين الأخيرين من قانون العودة، والمقتبسين أعلاه، كتعديل لقانون العودة في العام 1968، وذلك بعدما صوتت المحكمة العليا بأصوات خمسة ضد أربعة قضاة لإجبار وزير الداخلية على تسجيل أبناء لأم غير يهودية كيهود في بند القومية في بطاقة الهوية. في تلك الحالة التي نظرت بها المحكمة كان الأب يهوديا والأولاد تربوا كيهود في البلاد، وكانوا يتكلمون العبرية، وقد خدموا في الجيش، رغم أنهم ليسوا يهودا بحكم الشريعة لأن الأم ليست يهودية. وقد طالبت المحكمة الكنيست بإلغاء بند القومية من الهوية[23] بهدف إلغاء مثل هذا الإشكال الذي يمنع تسجيل أبناء يهودي تربوا كيهود ويخدمون في الجيش، فقط لأنهم ليسوا يهودا حسب الشريعة. لم تحترم الكنيست طبعاً توجه المحكمة العليا وسنت فوراً تصحيحاً لقانون العودة يؤكد تعريفاً"لليهودي"بشكل يتطابق مع تعريف الدين كما رأينا اعلاه.
لقد تفجر الصراع حول السؤال الشهير"من هو اليهودي؟"لأول مرة عام 1958. وقد أدى في ذلك العام لأول مرة أيضا إلى أزمة ائتلافية مع انسحاب وزراء"المفدال"(الحزب القومي الديني) من حكومة بن غوريون على هذه الخلفية.[24]
مع قيام إسرائيل تحولت الهوية اليهودية إلى هوية رسمية تحتاج إلى تحديد إضافة إلى الحاجة لتحديد من هو اليهودي الذي يسري عليه قانون العودة. وحتى العام 1958 استمر تسجيل اليهودي في بند القومية في وزارة الداخلية عند استصدار بطاقة هوية وغيرها بموجب تحديد الشريعة لليهودي. ولكن تعليمات الوزير"المبائي"(الصفة مشتقة من حزب"مباي"سلف حزب العمل التاريخي) يسرائيل بار يهودا بالتشاور مع المستشار القضائي للحكومة في حينه حاييم كوهين[25] أثارت في حينه ضجة كبرى خاصة في أوساط المتدينين ثم اليمين الإسرائيلي الذي استغل النقاش.
وقد حاول الوزير أن يفصل في تعليماته بين تسجيل الفرد كيهودي في بند القومية بناء على اختياره وبين تسجيل اليهودي لأغراض الزواج والطلاق وغيره كيهودي حيث يجب الالتزام بتعريف الشريعة.[26] وقد أقرت الحكومة تعليمات الوزير يوم 22 حزيران 1958 مع إضافة الشروط التالية: أن لا يكون من يسجل كيهودي منتميا لديانة أخرى، وفي حالة تسجيل الطفل أن يعلن الوالدان أنه يهودي.
ولم يدرك بن غوريون عمق الأزمة إلا متأخرا وعادت الأمور في نهايتها الى ما يمكن تسميته status quo في علاقة الدين والدولة في وعدم تغييره بقرار الأغلبية وإنما بالاتفاق فقط، لأنه اذا لم تتم تسوية مثل هذه الأمور بالاتفاق فإنها تؤدي الى شرخ اجتماعي وسياسي وثقافي خطير في المجتمع.
وقد تراوحت الاقتراحات لحل وسط بين إلغاء بند القومية نهائيا من بطاقة الهوية والتمييز بين اليهودي و"اليهودي بقومية متبناة"(أو مكتسبة). ولكن من المفيد مراجعة رفض بن غوريون محو بند القومية (اليهودية) ولو تكتيكيا من الهوية والاكتفاء بتعبير إسرائيلي:"ولد هنا جيل ليس متدينا بغالبيته. واذا كتبنا إسرائيلي فقط وليس يهودي هنالك خطر. عليه أن يعرف أنه يهودي... يجب ان نزرع في قلبه ادراك أننا قبل كل شي يهود، أبناء الشعب اليهودي... ولذلك لا يجوز أن يكتب في بطاقة الهوية فقط إسرائيلي، يجب أن يكتب يهودي. [27]
وطبعاً يكاد يتطابق تاريخ هذا السؤال مع تاريخ الدولة العبرية. وما زالت الصراعات حوله مستمرة نتيجة لاستمرار فعل هذا التناقض، ونتيجة لمحاولة القوى اللبرالية الفصل بين قومية اليهودي ودينه في الحالات الفردية. وتبدي المحكمة العليا واليمين الإسرائيلي العلماني تفهما أيضا لولاءات غير دينية محض للدولة مثل الخدمة في الجيش وغيرها كأساس للمواطنة الإسرائيلية في حالات فردية. ولا تنسى المحكمة عادة أن ترفق بهذا التفهم رفضها الاعتراف رسميا بالهوية اليهودية المنفصلة عن الدين. هذا السياق يضاف إليه نشوب الصراع خاصة مع الجالية اليهودية الأمريكية حول شرعية عملية واجراءات التهوّد، (أي إجراءات دخول الدين اليهودي) بموجب الإجراءات الاصلاحية او المحافظة، قررت الكنيست في العام 2002 إلغاء بند القومية من الهوية. ألغي البند لتجنب البت في قومية الشخص المتهود بموجب الإجراءات الإصلاحية. ولكن إلغاء البند لم ينه النقاش في الواقع ولم يحسمه بل تكتم عليه.
لقد دار هذا النقاش ورافق الكياينية السياسية والقانونية الاسرائيلية منذ البدايات. ومن أهم ما قيل فيه ومن أمتع نقاشات المحكمة العليا حول هذا الموضوع ما دار حول قضية اوسفالد روفايزن[28] الذي ولد لوالدين يهودين عام 1922 في بولندا وتلقى في صغره تعليماً يهودياً. وكاد يهاجر الى فلسطين كصهيوني لولا احتلال النازيين بولندا واعتقاله من قبل الجستابو. وبعد مغامراته الطويلة مع ملاحقة الإلمان وصل أخيراً حتى تغيير ديانته الى المسيحية في دير احتمى فيه من النازيين، ثم أصبح راهباً في العام 1945. وكان الرجل يصر دائماً أنه غيّر دينه فقط إلى المسيحية، ولكن في وعيه القومي بقي يهودياً صهيونياً آملاً ان يهاجر الى فلسطين كصهيوني ويخدم في أحد الاديرة كراهب. وهكذا تمت هجرته الى البلاد في العام 1958. ولكن وزارة الداخلية ردّت طلبه أن يتلقى شهادة مهاجر يهودي وأن يسجل كيهودي في بطاقة الهوية. وجاء الرفض بناء على قرار الحكومة من يوم 20\7\1958 أن يسجل كيهودي فقط"كل من أعلن بإستقامة أنه يهودي، وهو في الوقت ذاته ليس تابعاً لديانة أخرى."
وبعد مناقشة طويلة وممتعة للغاية رفضت المحكمة استئنافه على قرار وزير الداخلية بالأغلبية، والسبب بسيط: لا يمكن أن يكون الشخص يهودياً من ناحية هويته القوميةً وابناً لديانة أخرى غير اليهودية في الوقت ذاته.
هذا الموضوع محسوم نهائياً إذا في الفقه القضائي الإسرائيلي. وقد نورد عليه عشرات الامثلة ولكن المثال الأخير هو أوضحها تاريخياً إذ يوفر لنا حالة حديثة نادرة لتغيير الدين بخيار فردي حر مع الإصرار على الثبات على الهوية القومية إلى درجة التعاطف الكامل مع الصهيونية: يهودي الأصل حتى حسب الشريعة، صهيوني العقيدة، ويرفض طلبه أن يُسَجَّل كيهودي قومياً لأنه غير دينه. الصورة واضحة تمام الوضوح: لا يصبح غير اليهودي يهودياً إلا اذا غير دينه الى اليهودية، ولا يبقى يهودياً اذا انتقل (بإرادته الحرة) لدين آخر.
لم يبذل هرتسل العلماني مؤلف كتاب"دولة اليهود: محاولة حديثة لحل المسألة اليهودية"(لاحظ! دولة اليهود وليس الدولة اليهودية) أي جهد لتعريف يهودية الدولة، عدا عن كونها أداة لحل مسألة يعتبرها مسألة قومية هي المسألة اليهودية. وهو يقصرها في الواقع على وجود أغلبية يهودية تعتبرها دولتها الوطنية. وهو لا يرمز حتى لمعنى يهوديتها. ولا يوجد في كتابه هذا أيُّ تفصيل لمعنى يهودية الدولة. أراد هرتسل دولة أوروبية الطابع تشكل تعبيراً قومياً عن اليهود، فيها أغلبية لليهودية. والدولة كفيلة بأن تحول اليهود إلى شعب كباقي الشعوب الاوروبية، كما يفهمها هو طبعاً. وجابوتنسكي العلماني عرّف يهودية الدولة اليهودية عندما سُئِل في لجنة التحقيق الانجليزية من العام 1936 عن معنى عبارة الدولة اليهودية فأجاب قائلا: إنها دولة تقطنها أغلبية يهودية. لم يحاول لا هرتسل، ولا جابوتنسكي أن يجد تعريفا أو جوهرا يهوديا للدولة اليهودية.
لا يوجد أوضح من علمانية هرتسل واشمئزازه في هذا الكتاب ذاته من المتدينين اليهود إلى درجة استعارة أوصاف ونعوت معادية للسامية في وصف احتقاره لهم. ولكنه لم ينجح وهو في أوج علمانيته أن يخلق تعريفاً جديداً لليهودية، أو أن يفتح مدخلاً جديداً لهذه"القومية"عدا مدخل الانتماء الديني. وقد أثارت علمانية هرتسل كما هو معروف حفيظة، بل عداء المتدينين اليهود الذين رفضوا علمنة الدين اليهودي بتحويله إلى قومية حديثة وبالتالي إزالة خصوصية هذا الشعب، كشعب الله المختار الذي يقيم دولته مع قدوم المسيا المخلِّص. أراده هرتسل شعبا كباقي الشعوب في حين أراده المتدينون"شعب التوراة"،"شعب السبت"، وليس شعبا كباقي الشعوب. وبهذا المعنى فإن قبول دولة يهودية بالنسبة لهم إذا كانت علمانية أصعب عليهم من دولة علمانية يقيمها"الأغيار". فالأولى فقط تجسِّدُ نفيًا مباشرا وحقيقيا ليهودية الدولة كما ينبغي أن تكون. لا تشكل الدولة العلمانية بشكل عام نقيضا للدين اليهودي برأيهم، أما الدولة العلمانية اليهودية فتشكل نقيضا للدين اليهودي.
اختلفت الأمور طبعا فيما بعد بدرجة كبيرة. وأصبحت الأحزاب الدينية تعمل وتناضل من أجل منح مضمون يهودي ديني لدولةٍ وقفت ضد الجهود المبذولة في إقامتها، وذلك في دائرة تغذي ذاتها: لقد حتّمت حاجة الأحزاب الدينية إلى النفوذ السياسي طرح مهام سياسية وخدمات للجمهور بروح برنامجها. وتطّلب طرح برنامج سياسي والتأثير بموجبه نفوذا سياسيا في الدولة، واشترط بالتالي السلوك على أساس الانتماء الى الدولة الصهيونية. تحولت هذه الدائرة غير المفرغة إلى عملية صهينة الأحزاب الدينية في الحياة الواقعية والسياسية العملية في إطار الدولة في عملية تدريجية تشوبها أزمات، ولكنها صيرورة مستمرة، وهذه وجهتها. طبعا كان هنالك أصلا تيار أقلية بين المتدينين تبنى الصهيونية منذ البداية. وقد توسَّع هذا التيار بقوة في الدولة بعد أن قامت.
ولذلك أيضاً إذا عُدنا إلى كلام بن غوريون في قانون العودة نجد أن هذه الهوية اليهودية بنظره هي التي تقيم الدولة، وليس العكس. وهي أساس القانون الإسرائيلي وأساس المواطنة وليس العكس:"قانون العودة من قوانين المصدر بالنسبة لإسرائيل. إنه يتضمن مهمة مركزية على دولتنا، مهمة تجميع الجاليات من المهجر. يقرر هذا القانون أنه ليس الدولة هي التي تقرر ليهود الخارج حقهم بالاستقرار فيها، وإنما حق اليهودي بذلك مطبوعة فيه بما هو يهودي، في حال قرر بإرادته أن ينضم إلى توطين البلاد."
الحق سابق على القانون إذا. وليس بامكان أي قانون إسرائيلي أن يلغيه، القانون الحالي هو تعبير عن حق اليهودي في المهجر بما هو يهودي أن يستوطن في فلسطين... بعد ذلك تبدأ الشعوذة الكلامية للتوفيق بين هذا"الحق"ومبدأ المساواة. فالمساواة برأيه في الدولة ولكن هذا"الحق"سابق على الدولة (أخذاً بعين الاعتبار ان الرجل يتحدث عن قانون تسنه دولة هو رئيس حكومتها وهو يتحدث في برلمانها، لا بد من اعتبار هذا الكلام نوعا من الميتا- فيزيقا السياسية أو السحر والشعوذة)."هذا الحق هو الذي بنى الدولة، ويكمن مصدره في الرابط التاريخي الذي لم ينقطع بين الشعب والوطن. وقد أقر قانون الشعوب بهذا الحق في الواقع...."[29]
والمقصود"بقانون الشعوب"أو القانون الدولي هنا هو بالطبع هو وعد بلفور، وتبنّي هذا الوعد في صك الانتداب. أما إذا كان قرار التقسيم هو المقصود بإقرار قانون الشعوب (القانون الدولي) بهذا الحق، فصحيح أن القرار المذكور يستخدم مصطلح"الدولة اليهودية"و"الدولة العربية"في فلسطين، ولكنه يؤكد على مواطنة المقيمين في كل دولة، ما داموا لم يتقدموا بطلب مواطنة في الدولة الأخرى لأنها تعبر عنهم وطنياً. وبموجب قرار التقسيم لا فرق بين مواطنة العربي واليهودي في الدولة اليهودية. وكلاهما تشتق من إقامتهم في المنطقة التي أقيمت فيها الدولة، لا بفعل"حق عودة"ولا بفعل رابط تاريخي، ديني او غير ديني... وكما هو معلوم، لولم يتم تشريد العرب من الدولة اليهودية طبقاً لخطة التهجير وهدم تلك القرى العربية التي كان من المفترض أن تكون في حدود الدولة اليهودية بموجب قرار التقسيم لشكّل العرب ما يقارب 45% من سكان الدولة اليهودية. أما كيف تمت مصالحة ذلك الواقع السكاني مع تعريفها كيهودية حين قبلها الصهيونيون، فلم تجر حتى محاولة للتبرير. كان قرار إقامة الدولتين اليهودية والعربية سياسيا وليس إيديولوجيا أو فكريا [30]. وقد استغلته القيادة الصهيونية سياسيا أيضا، ولكن بغرض تحقيق مشروعها الإيديولوجي. ولا يمكن لصهيوني في عصرنا تخيّل دولة يهودية نصف سكانها من الفلسطينيين، كما نص عليها قرار التقسيم، وكما قبله التيار الرئيسي في الحركة الصهيونية في حينه.
وفي"وثيقة الاستقلال"تتناوب المصطلحات"دولة يهودية"و"دولة اليهود"عدة مرات. والوثيقة كما هو معروف ليست بمثابة قانون، ولم يتم تبنيها كقانون، ولكن لها قيمة معيارية دستورية في بنية الدولة القانونية كما أسلفنا. وتبدأ الوثيقة في الفترة الأولى بالجمع بين الرابطة الدينية والحقوق السياسية والقومية جمعاً لا ينفصم:"في أرض إسرائيل قام الشعب اليهودي، وفيها بلور شخصيته الروحية والدينية والسياسية، وفيها عاش حياة انبعاث سيادي. فيها أنتج نتاجاً ثقافياً ودينياً وانسانياً وأورث العالم كتاب الكتب الأبدي. وبعد أن أُبعِد الشعب من بلاده بالقوة حافظ على عهده لها في كل بلدان شتاته، ولم يتوقّف عن الصلاة والأمل أن يعود اليها وأن يجد فيها حريته السياسية."
وتتطرق"وثيقة الاستقلال"إلى وعد بلفور وإلى صك الانتداب كإعتراف من قبل القانون الدولي بالرابط التاريخي"بين الشعب اليهودي وأرضه."
ثم تتطرق الوثيقة إلى كارثة يهود أوروبا والى حق العودة لليهود الى دولة إسرائيل. أما الفقرة التي تستخدم لغة قومية حديثة ويستند اليها القوميون اللبراليون العلمانيون فتأتي بعد استخدام كافة الحجج الأخرى، بما فيها الدينية، المذكورة إعلاه:"انه حق الشعب اليهودي الطبيعي أن يكون مستقلاً في دولته السيادية كأي شعب آخر. ولذلك، إجتمعنا نحن أعضاء مجلس الشعب، ممثلو اليشوف العبري والحركة الصهيونية، في يوم نهاية الانتداب البريطاني على أرض إسرائيل، ومن شرعية حقنا الطبيعي والتاريخي، وعلى أساس قرار الهيئة العامة للأمم المتحدة، نعلن بهذا عن إقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل، هي دولة إسرائيل."
أما الفقرة التي تجمع بين يهودية الدولة وديمقراطيتها ويتم الاستناد اليها للجمع بينهما من جديد في التشريع منها:"تكون إسرائيل مفتوحة للهجرة اليهودية ولجمع الشتات، وتهتم بتطوير البلاد لصالح سكانها جميعاً، وتقام على أسس الحرية والعدل والسلام بموجب رؤيا أنبياء إسرائيل. وتقيم مساواة اجتماعية وسياسية بين كافة مواطنيها بدون تمييز في الدين والعنصر والجنس. وتضمن حرية العبادة والضمير واللغة والتعليم والثقافة، وتحافظ على الأماكن المقدسة لكافة الأديان، وتكون أمينة لميثاق الامم المتحدة."
ولكن هذه الفقرة التي تبدو فيها إسرائيل دولة قومية تعبر عن حق تقرير المصير لشعبها، وتمنح في الوقت ذاته المساواة للسكان كافة جاءت بعد تأكيد الحقوق الدينية كحقوق سياسية. وحتى في هذه الفقرة يؤكد مؤسسو الدولة الصهيونية على الهجرة اليهودية التي لا بد أن تفتح مسألة"من هو اليهودي؟"كما أسلفنا، اضافة إلى التأكيد على الحرية والعدل والمساواة بموجب رؤيا الانبياء. (وبإمكان أي لبرالي صهيوني ان يفصل بالطبع بين رؤية الأنبياء الأخلاقية الانسانية العامة وبين بقية التوراة بإعتبار نتاجهم تراثاً انسانياً عاماً يختلف عن أسفار التوراة الاخرى مثل التكوين والملوك والقضاة، وهي التي يمكن اعتبارها شديدة الخصوصية لناحية القبلية اليهودية وتأكيد تعاليم الشريعة في الوقت ذاته).
وعندما يتطرق رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية الأكثر شهرة وتأثيرا في تاريخها، اهرون باراك، الى مصطلح يهودية وديمقراطية في القانون يقول:"علينا أن نذكر إن المكانة المعيارية التي منحت لقيم الدولة كيهودية وديمقراطية هي مكانة معيارية دستورية فوق-قانونية. وسوف يُلغى أي تشريع عادي يمس دستوريا بحق من حقوق الانسان حتى لو كان هدفه مقبولا، وحتى لو لم يتجاوز المدى المطلوب إذا لم يتلاءم مع قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية".[31] المجتمع برأي باراك بطاقاته الروحية والفكرية هو الذي يقرر معنى يهودية وديمقراطية وكيف تتم الموازنة بين القيميتين. والمحكمة تعمل في إطار الاجماع المجتمعي وتعبر عن هذا الاجماع.[32]ويلخِّص القاضي باراك بلغتِه ما ينبغي أن يكون عليه هذا الإجماع في تفسير معنى يهودية الدولة كما يلي:
1. دولة يهودية هي دولة الشعب اليهودي...دولة يحق لكل يهودي أن يهاجر إليها، وجمع الشتات اليهودي هو من قيمها الاساسية.
2. دولة يهودية هي دولة يتشابك تاريخها ويندمج في تاريخ الشعب اليهودي، لغتها عبرية وأعيادها تعكس انبعاثها القومي.
3. دولة يهودية هي دولة تعتبر الاستيطان اليهودي في حقولها ومدنها على رأس سلم أولوياتها.
4. دولة يهودية هي دولة تكرِّس ذكرى اليهود الذين ذبحوا في المحرقة وتشكِّل حلا لمشكلة الشعب اليهودي الفاقد الوطن والاستقلال وذلك بتجديد الدولة اليهودية في أرض إسرائيل.[33]
5. دولة يهودية هي دولة تنمّي الثقافة اليهودية والتربية اليهودية وحب الشعب اليهودي.
6. دولة يهودية هي تحقيق تطلع الأجيال لخلاص إسرائيل.[34]
7. دولة يهودية هي دولة تتبنى قيم الحرية والعدالة والاستقامة والسلام من إرث إسرائيل.[35]
8. دولة يهودية هي دولة تنهل من التقاليد الدينية، والتوراة هي الكتاب الرئيسي بين كتبها، وأنبياء إسرائيل هم أساس أخلاقياتها.
9. دولة يهودية هي دولة تلعب فيها الشريعة اليهودية دورا هاما وتقوم فيها قوانين الزواج والطلاق بموجب قانون التوراة.
10.دولة يهودية هي دولة تعتبر قيم توراة إسرائيل والتراث اليهودي وقيم الشريعة اليهودية من بين قيمها الأساسية.[36]
نكاد لا نميز أو نلحظ علمانية ولبرالية القاضي العلماني باراك في هذه التعريفات. ولكن رغم ذلك ورغم تأكيده على الإجماع، إلا ان هنالك نزعة قوية جدا في السياسة والقضاء ولدى أوساط واسعة من الجمهور لتعريفات أكثر صرامة ليهودية الدولة على حساب ديمقراطيتها. ويتجلى ذلك بشكل خاص في تبني نقّاد المحكمة العليا الحسم البرلماني بالاغلبية كتعبيرٍ عن اجماعٍ لا يحق للمحكمة العليا الغاؤه بحجة التعدي على حقوق الانسان والمواطن. ولذلك يتخذ الصراع على زيادة منسوب يهودية الدولة على حساب ديمقراطيتها كعملية تعبئة منهجية ضد المحكمة العليا باعتبارها تمثل أقلية نخبوية تفرض رأيها على الاغلبية البرلمانية.
وطبعا هنالك في المحكمة العليا ذاتها من مثّل ويمثّل آراء أقرب الى هذه النزعة. ومن منظّريها القاضي السابق في المحكمة العليا وأستاذ القانون العبري في الجامعة العبرية سابقا ومؤلف أهم الكتب في الشريعة والقانون العبري. وتعريفه للدولة اليهودية أكثر صرامة من باراك كما أنه يدعو الى حسم مسألة القيم اليهودية والديمقراطية للمجتمع. فالاجماع وليس القيم التي تتبناها أو تفسّرها المحكمة العليا برأيه هو أساس كافة التعليمات ذات الطابع الدستوري. ولذلك أيضا يؤكد إيلون على الطابع الخاص لإسرائيل كيهودية وديمقراطية، خلافا لما يدعيه اللبراليون وكأن إسرائيل يهودية كما أن فرنسا فرنسية، أو كما ان بريطانيا بريطانية."هذا التعريف خاص بالجهاز القضائي في دولة إسرائيل وليس له شبيه او مثيل في أي جهاز قضائي ديمقراطي في العالم. لم نجد تعريفا لقيم امريكية وديمقراطية، ولا لقيم دولة فرنسية وديمقراطية، او كندية وديمقراطية. في دساتير تلك الدول يتم الحديث عن ديمقراطية 'تتوق الى الحرية' وليس عن قيم فرنسية أو كندية أو غيرها. وهذا ليس حال دولة إسرائيل حيث أن المفهوم 'يهودية' يعبر عن جوهر الدولة ذاته".[37] ويشدد إيلون كقاض بالطبع في خلافه مع باراك على مدى احتياج المحكمة للقانون العبري والشريعة اليهودية عند وجود ثغرة قانونية بشكل خاص متهما بارك بانه استبدل قيم الشريعة بقيم اخرى علمانية تمنع وجود ثغرات وبالتالي بتجاوز قانون أسس القضاء من العام 1980، والذي يفرض على المحكمة بشكل واضح وصريح ان تستخدم قيم الشريعة اليهودية في حالة وجود ثغرة قانونية، أي حيث لا يوفر القانون الإسرائيلي القائم اجابة على اشكال قضائي.[38]
لقد كانت يهودية الدولة هي الأداة التي جعلت بامكان الدولة أن تسن القوانين الرامية الى مصادرة أراضي العرب باعتبار أن الاستيطان اليهودي واستيعاب الهجرة هي قيم أساسية في أساس الصالح العام لدولة تعرف نفسها كدولة يهودية وتقوم على قانون العودة واستيعاب الهجرة اليهودية. وهي غاية تبرر الأدوات حتى لو تناقضت مع حقوق المواطنين غير اليهود، ومن ضمنها حقوق الملكية. كما أن يهودية الدولة كهدف وأساس قيامها جعل إسرائيل ترفض تطبيق حق عودة اللاجئين مع أنها رسميا وافقت على قرار التقسيم وإقامة دولة يهودية من المفترض أن ما يقارب نصف سكانها من العرب قبل ان تعمل على تهجيرهم من حدودها، ثم احتلال أرض الدولة الفلسطينية ايضا.
وكانت يهودية الدولة أساس سن قانون الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية من العام 1952 والذي يمنح هذين التنظيمين اليهوديين الدوليين مكانة خاصة اضافة إلى ال"قيرن قييمت"، (الصندوق القومي اليهودي)، و"قيرن هيسود"وغيرها، ويمنحها رغم أنها مؤسسات غير رسمية مكانة قانونية في مجالات تملك الارض والاستيطان واستيعاب الهجرة، وهي المهمات التي تعبر عن يهودية الدولة بامتياز.
وما زال الحفاظ على يهودية الدولة يشكل أساسا لجملة من التشريعات العنصرية، فبما أن إسرائيل دولة قانون[39] كما بشّر رئيس حكومتها اريئيل شارون الناس في خطابه في نفس مؤتمر العقبة الذي أكد فيه بوش التزام امريكا بأمن إسرائيل كدولة يهودية، فقد أقر البرلمان الإسرائيلي يوم 18 حزيران، 2003 بالقراءة الاولى اقتراح قانون"المواطنة والدخول الى إسرائيل (مؤقت) 2003".[40] وينص القانون بشكل عام على منع المواطنة أو الاقامة في إسرائيل داخل الخط الاخضر عن أي من"قاطني الضفة الغربية وقطاع غزة"، وينص على ذلك البند الأول من القانون وبالحرف الواحد"بغض النظر عما ينص عليه أي قانون آخر". أي أن اقتراح القانون الجديد والساري المفعول لمدة سنة ينسف كافة قوانين المواطنة الإسرائيلية التي سبقته فيما يتعلق بسكان الضفة الغربية وقطاع غزة.
وقد بادرت الحكومة الإسرائيلية الى تقديم هذا القانون للكنيست. ولأنها"دولة قانون"، فهي لا يمكن أن تكتفي بالانظمة الصادرة عن وزير الداخلية السابق ايلي يشاي يوم 12 أيار،02 والتي منعت بأمر منه، ومن دون قانون، عملية لم شمل العائلات، وجمّدت معالجة طلبات لم شمل العائلات في وزارة الداخلية الإسرائيلية في حالة كون أحد الزوجين فلسطيني أو فلسطينية من الضفة الغربية وقطاع غزة حتى لو اقام الزوجان سويةً منذ سنوات وانجبا أطفالاً.
والقانون يمنع أي لبس، ويعقِّد الاستئناف المؤجل والمتعثر إلى المحكمة العليا ضد أوامر وزير الداخلية اياها، فالمحكمة العليا غير اللبرالية أصلاً فيما يتعلق بقضايا الضفة والقطاع، لا تلغي قانوناً بنفس سهولة إلغاء أنظمة وزير، خاصةً وأن المحكمة العليا الإسرائيلية تواجه هجمة يمينية دينية شاملة في البرلمان وعلى مستوى الرأي العام بحجة تدخلها"المبالغ فيه"في عملية التشريع وسن القوانين.
ويسمح القانون الجديد في بنده الثالث بالاستثناءات التالية: 1) من حق وزير الداخلية، حسب الظرف، أن يمنح أحد سكان هذه المناطق إذناً بالاقامة في إسرائيل او التواجد فيها من أجل العمل أو العلاج الطبي لفترة محدودة، أو لهدف مؤقت آخر لفترة متراكمة لا تزيد على ثلاثة أشهر. 2) من حق وزير الداخلية أن يمنح مواطنة أو اذناً بالاقامة لأحد سكان هذه المناطق اذا اقتنع أنه يتماثل مع دولة إسرائيل واهدافها، أو أنه أو أحد أبناء عائلته قد قاموا بعمل فعلي لتعزيز الأمن أو الاقتصاد أو هدف هام آخر للدولة، أو اذا كان منح المواطنة أو حق الاقامة ذو أهمية خاصة بالنسبة للدولة....".[41] أي أن القانون يمنح الوزير الحقَّ أن يستثني حالات العلاج الطبي وضرورات توطين العملاء.
لم يكن الوضع جنة بالنسبة للم شمل العائلات الفلسطينية في الداخل قبل سن القانون. فالعديد من النساء الفلسطينيات والرجال الفلسطينيين أقاموا مع أزواجهم أو زوجاتهم داخل الخط الاخضر من دون هوية أو اقامة، ومن دون تسجيل الأطفال لأن عملية لم الشمل ومنح الإقامة قانونياً قد تستغرق خمس أو ست سنوات، وقد لا تتم اطلاقاً.
مبرر الحكومة لسن القانون هو مبرّر أمني. فالهوية الإسرائيلية أو حق الإقامة الممنوح قد يستغل من قبل منفذي عمليات انتحارية من أجل دخول إسرائيل بشكل قانوني أو من أجل التجوّل فيها بحرية. ومن الواضح أن من حظوا بلم شمل عائلاتهم لم ينفذوا عمليات فدائية، وأن غالبية من نفذوا عمليات لم يحظوا بعملية لم شمل، ولم يرتبطوا بعلاقة زواج مع أحد من الداخل. وأستاذة جامعية قومية يمينية متطرفة متل روت جافيزون لا تحتمل مثل هذا التلون والنفاق في الموقف. وتؤكد أنها تؤيد القانون وتعتبره شرعيا ليس من منطلق ضرورته الامنية"المحايدة ايديولوجيا"، وإنما من منطلق ايديولوجي صهيوني مبدئي هو حق إسرائيل أن تحافظ على أغلبية يهودية:"لا مبرر برأيي لتسويغ القانون بمفاهيم محايدة 'امنية'، فتبريره مؤسس على كونه جزء من الجهد للمحافظة على إسرائيل كدولة يمارس فيها الشعب اليهودي حقه في تقرير المصير على خلفية الشروط التي تسود في المنطقة في هذا الزمن. ويمنع ان تميّز الدولة اليهودية بين مواطنيها، كما يمنع أن تميّز الدولة لأسباب غير شرعية بين الراغبين أن يقطنوا فيها حتى لو لم يكن لهم حق بذلك. ولكن من يعتقد أن من المبرر أن تكون دولة يهودية من المفترض أن يقبل حقها بل واجبها ان تحافظ على الشروط التي تمكّنها من الاستمرار في الوجود، طالما لا تمس بحقوق الاخرين داخلها وخارجها".[42] وتقترح غافيزون بالطبع أن يلم المواطنون الفلسطينيون شملهم إذا أرادوا الزواج من فلسطينيات غير مواطنات، او العكس، في الدولة الفلسطينية!!
وتتلخص القضية بالطبع بمنع زيادة عدد المواطنين العرب في الداخل، والموضوع ديموغرافي متعلق بيهودية الدولة وليس شأنا أمنياً رغم أن مسوّغات القانون التي طرحت أمنية. وقد اعتمدت الحجة الأمنية على حالة فردية واحدة لا غير وهي عملية مطعم"ماتسا"في حيفا يوم 31 آذار 2003، والتي نفذها شاب يقيم في الضفة الغربية ولكنه يحمل هوية إسرائيلية بفعل كون والدته مواطنة إسرائيلية.
ويسند العنصريون موقفهم شعبوياً أيضاً بالمبرر العنصري المعروف والمسموع بكثرة في الدول المتقدمة نسبياً قياساً بمحيطها، والمعارضة للهجرة الوافدة. فالعرب برأيهم يرغبون بالسكن في إسرائيل دون أي ولاء أو التزام تجاهها ويؤمونها لأسباب اقتصادية، أو بغرض الحصول على خدمات غير قائمة لديهم مثل الخدمات الطبية المجانية وغيرها. والحقيقة أن هذا النمط من السلوك ليس فلسطينياً، وانما هو نمط الهجرة من البلدان أو المناطق الفقيرة إلى المناطق الأكثر غنى، بما في ذلك الهجرة من إسرائيل إلى دول أغنى. وغالباً ما تدفّقت الهجرة من المستعمَرات او المستعمَرات سابقاً الى الدول المستعمِرة. ولكن هذا النمط لم يكن قائما في المناطق المحتلة، وقلّما انتقل زوجان للعيش في اسرائيل. وغالبا ما تم انتقال مواطنين عرب إلى غزة أو الضفة بعد الزواج من قاطن فيها. ولكن الظاهرة شهدت تناميا مع نشوء حالة الاغلاق الجزئي والتام للمناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967 بعد حرب الخليج الثانية في النصف الأول من التسعينات، وبعد نشوء حالة عدم الوضوح بخصوص حرية الحركة إلى مكان العمل ومصدر الرزق في إسرائيل.
لا جديد هنا اطلاقاً. الجديد هو سن قانون يمنع منعاً باتاً حركة التنقل البشرية هذه حتى في حالة الزواج واقامة عائلة، والجديد في قصر حرية الحركة او حرية اختيار الزوج او الزوجة على من ترغب الدولة بوجوده كإستثناء.
ولا تستطيع إسرائيل بالطبع ان تضبط بشكل استعماري مناطق محتلة وتحتفظ بها كهامش فقير وتمنع هذه الحركة من المحيط الفقير الى المركز الغني بحجج عنصرية في الوقت ذاته. نقول هذا حتى دون أن نحتاج للعودة إلى الروابط التاريخية والعائلات وروابط القرابة القائمة بين المواطنين العرب في الداخل وسكان الضفة الغربية وقطاع غزة واللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا. هذه الروابط التي قطعتها خطوط الهدنة عام 49.
لقد دلّت الحركة التشريعية المحمومة في البرلمان الإسرائيلي منذ أكتوبر 2000 على رغبة إسرائيلية غير ملجومة، ولا حتى بدوافع الشكليات والحفاظ على"السمعة الديمقراطية"، بغرض تأكيد يهودية الدولة وطابعها اليهودي وأغلبيتها اليهودية بالقانون. وقد دوّلت الدبلوماسية الإسرائيلية موضوع يهودية الدولة بطلبها أن تعترف الولايات المتحدة وان يعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة يهودية، وأن تكتسب هذه العبارة شرعية دولية بالاتفاقيات والاعراف الدولية السائدة وبالتالي في القانون الدولي. والموضوع موضوع نقاش وصراع هام يتعلق بحق العودة كما يتعلق بالمواطنين العرب في الداخل، ويتعلق إضافة لهذا كله بالعلاقة بين الدين والدولة في إسرائيل. وتجري محاولة تشريعية حثيثة لإعطاء معنى ومضمون قانوني داخلي ليهودية الدولة ولكونها دولة الشعب اليهودي.
لقد قُدِّم للكنيست الخامسة عشر (1999-2003) خمسة عشر قانونا عنصريا يسعى إما الى تكثيف تعريف دولة اليهود أو يهودية الدولة، ويفرض على المواطن العربي قسم الولاء ليهوديتها أو يجبر النائب ليس فقط على الولاء للدولة وقوانينها وانما لرموزها وعلمها ولنشيدها الوطني. كما اقتُرحت قوانين أساس تحصن رفض قانون حق العودة للفلسطينين، وأخرى تحدد مواطنة العرب في الداخل. مر غالبية هذه القوانين فقط بالقراءة التمهيدية واتخذ طابعا اعلانيا واعلاميا يفيد في شهرة النائب الذي طرحه سياسيا. ولكن النزعة واضحة تمام الوضوح، انها حمى التأكيد على يهودية الدولة ليس فقط ضد حق اللاجئين بالعودة الى وطنهم وانما ايضا ضد اي محاولة لاحراج الصهيونية بتوسيع مفهوم المواطنة والحقوق الى درجة المجاهرة بالمواقف العنصرية.
في خضم النقاش على تصحيح قانون أساس الكنيست والموجّه جزئيا على الأقل ضد كهانا الذي أحرج في حينه الاحزاب الصهيونية بمثابرته في تفسير يهودية الدولة كنقيض للديمقراطية قال مئير كهانا:"ولدت الصهيونية لكي تقيم دولة يهودية، ولذلك مرة بعد أخرى تكرر هذا الموتيف في الوثيقة المسكينة، وثيقة الاستقلال: 'قام الشعب اليهودي' وفي النهاية نعلن عن إقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل. أيها اليهود، ما القصد، ما هو تفسير دولة يهودية؟ كل طفل يجيب: دولة يهودية هي دولة فيها أغلبية يهودية، فقط أغلبية يهودية تضمن لنا الاستقلال والسيادة، فقط أغلبية يهودية تضمن لنا أن نكون أصحاب هذا المكان، وأن نقرر مصير شعبنا. إذا لم تكن هنالك اغلبية يهودية لن تكون دولة يهودية، وإذا لم تكن دولة يهودية لن تكون صهيونية. ولكن الديمقراطية تقول العكس. بالنسبة للديمقراطية لا يوجد يهود وعرب، ولا غير يهود، بالنسبة للديمقراطية يوجد فقط ناس، بشر. ولا يهمها يهود أو أغيار. إذا يوجد تناقض، هنالك حرب بين هذه المفاهيم. عارض العرب سنة 1947 قرار التقسيم. لماذا؟ لأنهم أيّدوا الديمقراطية، قالوا: هنالك أغلبية عربية فليتم الحسم حسب الأغلبية. اليهود الصهيونيون خافوا من الديمقراطية واختاروا تقسيم البلاد، لكي يقيموا دولة ذات أغلبية يهودية".[43]
لم يكن العرب في حينه ديمقراطيين، ولكن مطلبهم كان أكثر ديمقراطية بلا شك من المطلب الصهيوني الاستعماري. والإشكال الذي يعبر عنه كهانا في حديثة ليس بهذه البساطة، فهنالك فرق بالنسبة لليهود بين أن يدير أمثاله مجتمعا بموجب الشريعة اليهودية وبين أن يدار نفس هذا المجتمع بشكل ديمقراطي ولو من قبل صهاينة. ولكن خارج حدود هذا المجتمع الدوامة التي يعبر عنها كهانا بسيطة للغاية، وهي تعني أن الدولة اليهودية إذا أرادت المحافظة على يهوديتها تجد نفسها في حالة تناقض مستمر مع السكان.
----------------------------
* صيغة معدلة عن فصل من كتاب الدكتور عزمي بشارة عن المجتمع والدولة في إسرائيل والصادر عن دار الشروق في مصر عام 2004، تحت عنوان: من يهودية الدولة حتى شارون: دراسة في تناقضات الديمقراطية الإسرائيلية.