عزمي بشارة
تعهّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باتخاذ "إجراءات" قانونية لمكافحة معاداة الساميّة بقوله: "سنتخذ إجراءات وسنصدر قوانين وسنعاقب"، وذلك عند زيارته مقبرة كاتسنايم في شرق فرنسا التي تعرّضت فيها العشرات من القبور اليهودية إلى أعمال تخريب رُسمت عليها الصلبان المعقوفة التي ترمز إلى النازية. كما زار ماكرون بعد ذلك النصب التذكاري للمحرقة النازية في باريس برفقة رئيسَي مجلس النواب ومجلس الشيوخ. وأكّد موقفه هذا في اليوم الذي تلاه، في خطابٍ ألقاه في حفل العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، أن بلاده ستعتمد في تشريعاتها تعريفًا لمعاداة السامية، كما حدده التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة، بحيث يتضمن معاداة الصهيونية، وأضاف أن "معاداة الصهيونية هي أحد الأشكال الحديثة لمعاداة السامية". ولا شك في أن التعدي على المقابر بالجرافيتي المسيء هو جريمة كراهية ضد اليهود، ولكن ما علاقته بمناهضة الصهيونية والموقف من إسرائيل؟
جهل ماكرون
بغضّ النظر عمّا إذا كان ماكرون يُريد فعلًا، أو يستطيع، تمرير تشريعات بهذه الروح، فمن المرجح أنه جاهل بكلا الأمرين: العداء للصهيونية، والعداء للسامية. وسوف يُفاجأ، نتيجةً لشعبويته وجهله بالمفهومين والظاهرتين، حين ينمو إليه أنه ليس فقط أن أهم من أنتجوا فكرًا مُعاديًا للصهيونية، واتخذوا مواقف مناهضة لها هم من المثقفين والمفكرين اليهود من مختلف التيارات، بل إن العداء للصهيونية مثل الصهيونية ظاهرة يهودية؛ وتاريخيًا انطلق العداء للصهيونية كرد فعل يهودي أولًا. سيكون من الصعب على ماكرون أن يُصنف مناهضة الصهيونية بوصفها معاداة للسامية، فلا علاقة بين الفكرتين على الإطلاق، ولا بأي معنى من المعاني.
ربما حصلت، بعد قيام إسرائيل أو قبل ذلك بمدة قصيرة، ولا سيما مع كثافة النشاط الصهيوني في فلسطين، بعض التقاطعات بين رفض السكان الأصليين للصهيونية بوصفها مشروعًا كولونياليًا، وليس بوصفها يهودية، وبين بعض عناصر الدعاية المُعادية للسامية في أوروبا؛ إذ وفرت مصطلحات ونظريات مؤامرة متاحة للاستيراد لم يتوفر مثلها للاستخدام في فلسطين؛ ولكن لا علاقة تاريخية أو نظرية بين الأمرين. فلم يكن رفض الفلسطينيين والعرب للصهيونية في بلادهم عداءً عرقيًّا أو دينيًّا أو اجتماعيًّا لليهود، بل كان رفضًا لممارسة استيطانية استعمارية في بلادهم (تمامًا كرفض الجزائريين لممارسة استعمارية وذات طبيعة استيطانية في بلادهم). وكل قرارات المؤتمرات الفلسطينية، وكذلك السورية في العشرينيات من القرن العشرين، كانت تُميز بشكل مبكر تمييزًا تامًا بين "اليهود" الوطنيين، أو من هم من أهل البلاد، وبين المستوطنين.
إن الاقتراض المستهجن لبعض عناصر الخطاب القومي المتطرف في أوروبا إلى الخطاب القومي العربي، ولا سيما بعد هزيمة عام 1967، لا يُعبّر عن ظاهرة عداء للسامية بقدر ما يعبّر عن انزلاق إلى التعميم في الدعاية المعادية في سياق صراع حربي. والحقيقة أن الدعاية الإسرائيلية التجييشية الداخلية لم تبخل بتعابير وصور عنصرية ضد العرب والمسلمين. وقد اخترقت العنصرية ضد العرب مناهج التدريس الإسرائيلية والخطاب السائد داخل الجيش، وفي الإعلام، وفي الكثير من الأعمال الأدبية.
العداء للصهيونية ظاهرة يهودية
لقد علل اليهود المناهضون للصهيونية عداءهم بحجج دينية، أو أخلاقية، أو بحجج مستقاة من التيار الفكري الذي ينطلقون منه، سواء أكان يساريًا أم ليبراليًا. وكما وُجِد، ويوجد، يهود معادون للصهيونية، كذلك نجد في أوروبا وأميركا الكثير من المعادين للسامية المعجبين بإسرائيل والصهيونية في آن معًا؛ وذلك إما لأن الصهيونية أسست دولة استيطانية قوية، أو لأنهم معجبون بالعسكرتاريا الإسرائيلية، أو لأنها قدمت نموذجًا لدولة تحارب الإرهاب والمسلمين، أو لأن الإعجاب ينبع من نوع من التواطؤ إذا كان يعتبرها مُفيدة في إخراج اليهود من أوروبا. وهذا ما يريده المعادون للسامية؛ فالتيارات المعادية للسامية، نظرت بعين الرضا إلى تجميع اليهود في دولة في الشرق الأوسط؛ إذ إن المشكلة بالنسبة إليهم هي انتشارهم في أوروبا.
إذًا، لا يتوقف الأمر على عدم وجود تطابق بين المصطلحين والظاهرتين، وإنما لا يوجد تقاطع جوهري بينهما. لكن لماذا قلت إن العداء للصهيونية هو ظاهرة يهودية؟
نبدأ التعليل بأن الصهيونية انطلقت بعد أن أنجزت المهمة الفكرية الأولى، وهي وضع تعريف جديد لليهودية؛ أي إنها قامت بعملية تحويل تاريخية لمعنى "أن تكون يهوديًا". ومن المنطقي أن يكون رد الفعل الأول على هذا الفعل يهوديًا. فبالنسبة إلى المتدينين، أعادت الصهيونية صياغة يهوديتهم من "شعب الله المختار"، و"شعب الكتاب"، أو من "شعب ليس كجميع الشعوب"، إلى قومية إثنية تسعى مثل باقي القوميات في أوروبا القرن التاسع عشر لتحقيق السيادة الوطنية في دولة وطنية (ولكن مكانها خارج أوروبا). وبالنسبة إلى العلمانيين، أعادت الصهيونية صياغة اليهودية وحولتها من دين لا يفترض أن يحول دون الاندماج في قومياتهم في الدول العلمانية التي يعيشون فيها، لتصبح اليهودية قومية.
جاء الموقف الأول المعادي للصهيونية من داخل التيارات الدينية اليهودية الرئيسة؛ لا لكونها حركة علمانية يهودية فحسب، فقد وجد الكثير من العلمانيين اليهود قبلها، بل لأنها في نظر المتدينين جريمة لا تُغتفر وهي علمنة اليهودية ذاتها بقومنتها؛ أي بتحويلها إلى إثنية قومية.
لقد تفاوتت التيارات الدينية اليهودية في فهمها لـ "شعب الله المختار" بين تيارات تعتبر هذا الاختيار الإلهي امتيازًا لليهود يضعهم فوق باقي الشعوب وأخرى تشتق معنى الاختيار من مرحلة النبوة، والذي ترتب عليه واجبات أخلاقية ودينية وأعباء إضافية وليس امتيازات، وثمة تيارات كثيرة أخرى بينهما. ولكنها جميعها اجتمعت على رفض اعتبار اليهودية قومية تسعى لإقامة دولة في هذا العالم. وبعض هذه الحركات انتظر المسيح ليقيم دولته السماوية ويخلص الشعب اليهودي، ويعتبر الصهيونية نبوة كاذبة؛ فبتمثلها مشروع الدولة إنما تعلن نفسها مسيحًا كذابًا وتتدخل في عمل الله.
لقد انتفضت غالبية التيارات الدينية اليهودية، سواء أكانت تقوية شبه صوفية أم أولترا -أرثوذكسية شكلانية أو غيرها، ضد هذه العلمنة للجماعة اليهودية باعتبارها قومية وليست دينًا. وقد وُجِد فقط تيار صغير في الفكر الديني اليهودي التقى مع الصهيونية وأسس حركة "مزراحي" التي جمعت بين القومية والدين وشكّلت، في رأيي، كما ذكرت في أماكن أخرى، نواة لهذا التلاقي اللاحق بين القومية والدين في حركات المستوطنين والتيارات الدينية القومية المتطرفة في إسرائيل. وحتى نشأة هذه الحركة، كان ثمة تنافر تام بين التديّن اليهودي والتصهيُن. إن توسّع الحركات القومية الدينية في إسرائيل منذ توسّع تأثير المدرسة الدينية "مركاز هراف" في القدس يعود إلى الانتشاء القومي الديني الذي وقع في إسرائيل بعد حرب 1967، باعتبار الانتصار في الحرب معجزة إلهية قادت إلى التطابق بين أرض إسرائيل التوراتية ودولة إسرائيل؛ باحتلال ما يُسمّى "يهودا والسامرة" (أي الضفة الغربية). فحتى ذلك الحين كانت الصهيونية العلمانية تلجأ إلى الدين لأغراضها فقط أو للضرورة؛ لأنها في النهاية لم يمكنها تعريف اختيار فلسطين لإقامة الدولة من دون الرابط التوراتي، وأيضًا لأن جواب الصهيونية ودولة إسرائيل على سؤال "من هو اليهودي؟"، وهي إجابة ضرورية لتحديد المواطنة، بقي هو نفسه تعريف الدين اليهودي لليهودي. وقد توقعتُ توسع هذه الحركات وهيمنة خطابها منذ فترة طويلة نتيجة لممارسات الاحتلال ذاته ولتلاقي الخطاب الصهيوني مع الخطاب الديني في تبرير احتلال القدس والضفة الغربية.
التيار الثاني الذي ناهض الصهيونية من منطلقاتٍ أخرى، ومواقف مختلفة، هو التيار اليساري في اليهودية، ولا أقصد فقط اليهود اليساريين في الأحزاب الشيوعية وتحديدًا بين البلاشفة الروس الذين اعتبروا الصهيونية حركة برجوازية يهودية يؤدي الانجرار خلفها إلى فصل العمال اليهود عن نضال بقية الطبقة العاملة؛ من أجل مجتمع أعدل في بلدانهم تُحلّ فيه المسألة اليهودية وكل مسائل اضطهاد الأقليات الأخرى، مع زوال الاستغلال والصراع بين الطبقات، بل أقصد أيضًا يساريين يهودًا انتظموا في حركات يهودية، مثل الجبهة العامة للعمال اليهود General Jewish Labour Bund المعروفين بـ "البوندز" في روسيا وغيرها، والذين اعتبروا اليهودية ليست حالة دينية فقط وإنما أيضًا حالة ثقافية، وأنه ثمة أوضاع خاصة باليهود يجب حلها. ولكنهم اعتبروا أن الصهيونية حركة انعزالية تسعى لأن تكون جزءًا من النشاط الاستعماري في المشرق وليست حلًا للمسألة اليهودية في أوروبا. وقد تشعبت عن اليسار اليهودي المنظم في حركات ونقابات، في روسيا، تيارات صهيونية يسارية أرادت أن تجمع بين التحرر الوطني والطبقي عبر إقامة مستعمرات اشتراكية في فلسطين. ولكنها عجزت عن حل التناقص بين ما تعتبره تحررًا وطنيًّا وطبقيًّا وممارساتها في استعمار وطن شعب آخر. وظلت أسيرة هذا التناقض. وبقي التيار اليساري المعادي للصهيونية قويًا طوال القرن العشرين، آخذًا بالاعتبار أن نسبة اليهود في التيارات اليسارية الشيوعية والاشتراكية في أوروبا، وبما فيها في فرنسا، كانت مرتفعة مقارنةً بنسبتهم بين السكان، واعتبروا أن الحل للمسألة اليهودية هو في حل المسألة الطبقية الاجتماعية في أوروبا.
أما التيار الثالث، فيتمثّل في الاندماجيين اليهود على أنواعهم من ليبراليين وديمقراطيين وآخرين غير مصنفين أيديولوجيًا، ومنهم الفيلسوف اليهودي هرمان كوهين والأديب كارل كراوس، والأمثلة لا تُحصى ولا تُعد. وكان هرتزل نفسه اندماجيًا قبل أن يشهد محاكمة درايفوس في فرنسا. رأت غالبية هؤلاء أن انتقال الشعوب الأوروبية إلى الديمقراطية الليبرالية تضمن اكتساب حق المواطنة لليهود واندماجهم في مجتمعاتهم. وكان هذا حال القسم الأكبر من يهود ألمانيا وفرنسا وبريطانيا الذين فاجأتهم النازية التي ذكّرتهم بيهوديتهم، كما يُمكن القول. وقد عبّر عن ذلك بشكل خاص أمثال شتيفان تسفايغ Stefan Zweig، وربما أيضًا والتر بنجامين Walter Benjamin، من خلال مآسيهما الشخصية ونهاياتهما التراجيدية. ولكن الحديث هو عن ملايين اليهود الذي لا يعبر عنهم كاتب أو مفكر بعينه.
في خضم استنباط مغازي الهولوكوست عند زيغمونت باومان، ولا سيما في كتابه الحداثة والهولوكوست، نجد محاولة شيقة لربطٍ محكم بين التوصل إلى موقف عام ضد العنصرية والتطرف القومي والعداء للآخر وبين الموقف المناهض للصهيونية وممارسات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
الصهيونية تيار الاقلية اليهودية
وقد قامت الصهيونية لاحقًا بتعيير اليهود الذين "سبتهم"، من منظورها، أفكار الاشتراكية والليبرالية بعيدًا عن تيار العصر في حينه، وهو القومية، بفشل خياراتهم. ويتفاخر الكُتّاب الصهيونيون بتبني الصهيونية له ونجاحها. فقد شكل تيار الصهيونية أقلية بين اليهود، ولكنها من زاوية النظر هذه نجحت، وفشلت تيارات الأغلبية. لقد أدركت الصهيونية، بحسب هذا الرأي، أن الحل للقضايا القومية ليس الديمقراطية الليبرالية ولا الاشتراكية وإنما هو إقامة دولة. واعتبرت الصهيونية النازية والعداء للسامية في أوروبا أكبر دليل على صحّة خيارها التاريخي وفشل خيار الاندماج الذي انخرط فيه يهود ألمانيا وفرنسا وغيرهما من البلدان.
قلنا هذا كله من دون الأخذ بالاعتبار، حتى الآن، طبيعة هذا "الحل القومي" للمسألة اليهودية وممارسته بوصفه مشروعًا كولونياليًا جرى تنفيذه على حساب شعبٍ آخر، فما زلنا نتحدث عن نقاشٍ يهودي أوروبي داخلي؛ كان هذا النقاش يهوديًّا أولًا، وكانت غالبية التيارات الفكرية اليهودية مُعادية للصهيونية.
كيف سيتعامل السيد ماكرون مع هذه الحقائق؟ الجهل ليس حجة خاصّة إذا كان صاحب الشأن رئيس دولة كبيرة مهمة، وهذه النقاشات هي جزء من تاريخ فرنسا وليس ألمانيا فقط. فكما تُظهِر تجربة هرتزل كان العداء الفرنسي للسامية من عوامل نشوء الصهيونية، فقد مثلت فرنسا نموذجًا للاندماج المواطني، ومع ذلك أطل العداء للسامية برأسه عبر محاكمة درايفوس التي "أيقظت" هرتزل، وفتحت عينيه على ما اعتبرها "حقيقة" لم يرها من قبل تفسر التمييز القائم ضد اليهود في البلدان الأوروبية، ومفادها أن العداء للسامية مرض أبدي، وهو موجود دائمًا ظاهرًا أو باطنًا، وأن اليهودي سيظل غريبًا في أوروبا مهما حاول الاندماج.
إن الحليف الموضوعي للصهيونية فكريًّا هو العداء للسامية. وهذه المقولة هي أيضًا مقولة لمفكر يهودي هو كلود مونتفيوري في بداية القرن العشرين، في نقده لمسألة خلق الولاء المزدوج لليهود. ولكن الأمر يتجاوز ذلك؛ فقد انطلقت الصهيونية، منذ بداياتها، ليس فقط من اعتبار العداء للسامية مرضًا أبديًّا ابتليت به الشعوب التي يعيش اليهود بين ظهرانيها ولا حل له، ولكنها أيضًا بلورت تصورًا سلبيًا (خاطئًا يكاد يكون تعميمًا عنصريًا) لشخصية يهوديِّ المنفى الضعيف المذل المهان الذي يفتقر إلى الشخصية الوطنية والشعور القومي. ويعج كتاب هرتزل الدولة اليهودية بأوصاف مهينة للمهاجرين اليهود الروس إلى وسط أوروبا، تكاد تعبيراتها تكون مقترضة من قاموس معادٍ للسامية. ولاحقًا، طوّرت الصهيونية "بروفيل" اليهودي الإسرائيلي الواثق من نفسه إلى درجة العدوانية، الذي يفلح الأرض ويحمل السلاح، والذي يتجاوز دور الضحية إلى دور الفاعل (المحتل).
وتاريخيًا، فإن العداء للسامية وموجات اضطهاد اليهودي هي التي أنجحت مشروعها؛ إذ اقتنعت فئات من اليهود بالهجرة من بلدانهم تحت وطأة كل موجة عداء للسامية في أوروبا، سواء أكانت "المئة السود" في روسيا، أم التيارات النازية في ألمانيا، أم العنصرية في فرنسا. ولكن بعد كل موجة كهذه كانت أميركا (حينما تكون هذه الهجرة إليها ممكنة)، وليس إسرائيل، مقصد غالبية المهاجرين. فحتى في مراحل الملاحقة لم تصبح غالبية اليهود صهيونية. لقد مثل المشروع الصهيوني بالنسبة إليهم همًا مختلفًا، وكان في نظرهم ينشد تحقيق غايات مختلفة لا علاقة مباشرة لها بتخفيف معاناتهم.
ومن الطبيعي أن يكون غير اليهود غير صهيونيين، فالصهيونية حركة يهودية. وإن اتخاذ موقف منها لا يعني غير اليهود؛ إلا إذا كانت هذه الحركة تمثل مصدر تهديد أو تتمثل أفكارًا وممارسات تتعارض مع مبادئهم. ولم يصبح كل مفكر اختلف فكريًا مع الصهيونية معاديًا لها جوهريًّا. وبالتأكيد، لم يصبح معاديًا لليهود.
ومن ناصب اليهود الكراهية لأسباب دينية أو عرقية أو اجتماعية (وهي المصادر الثلاثة للعداء للسامية)، فعَل ذلك قبل نشوء الصهيونية. وغالبية من ناصبوا الصهيونية العداء كانوا من اليهود. العداء للسامية الديني والاجتماعي والعنصري، هو ظاهرة عنصرية مقيتة وُجدت قبل الصهيونية واستمرت بعدها. ولكنها لم تعد ظاهرة مركزية في الحياة السياسية والاجتماعية في الغرب، ولم تتحول إلى أن تصبح ظاهرة عالمية على الإطلاق، حتى لو حاولت إسرائيل تصويرها كذلك لأغراض الابتزاز السياسي.
ولا يمكن القول إن العرب أو المسلمين في القرن التاسع عشر كانوا مُعادين للصهيونية، فهم لم يعرفوها، ولم تعنِ شيئًا لهم في القرن التاسع عشر. وعندما نشأ العداء للصهيونية في فلسطين لم يكن عداءً فكريًا، بل تلخص في موقف فلاحين ومثقفين وبرجوازية وطنية لشعب يسكن في فلسطين منذ قرون ضد الاستيطان على أرضه، ولا سيما بعد أن أدرك أنه مشروع سياسي لإقامة دولة بعد وعد بلفور وتبني الانتداب البريطاني له. فإقامة دولة يهودية في بلد تعيش فيه أكثرية عربية وأقلية يهودية صغيرة في حينه لم تَعْنِ إلا طردهم من أرضهم، ولا يُمكن أن تعني شيئًا آخر. في حين ساد تسامح مع السكن اليهودي الديني في فلسطين قبل الصهيونية (بالتبرك بالعيش قرب قبور الآباء والأجداد بحسب المتدينين)، وهناك أحياء يهودية كثيرة في القدس والخليل وطبريا وصفد تُثبت ذلك. فلم تعرف الشعوب العربية في تلك الفترة العداء للسامية. لقد عرفت السلطنة العثمانية والبلدان العربية من حين إلى آخر موجات تحريض على الأقليات، وممارسات ضدهم، ولا سيما في مراحل الأزمات. كان هذا هو الاستثناء وليس القاعدة. لكن لم توجد ظواهر عداء خاصة باليهود تحديدًا، أو ما يُمكن تسميته عداءً للسامية. ومن الجدير بالذكر أن إحدى الإدانات ضد الاستيطان الصهيوني العلماني في فلسطين أَصدرتها جماعة اليهود الأرثوذكس في القدس، فهؤلاء هم أول من عارضوا الاستيطان الصهيوني في فلسطين أيديولوجيًا في موقف موجه إلى السلطان العثماني.
نقطة التحول في العام 1967
لقد تغيرت خريطة المواقف اليهودية من الصهيونية بعد نجاحها في إقامة الدولة. وظلت الصهيونية، في رأيي، حركة أقلية بين يهود العالم حتى عام 1967، وأقنعت قسمًا كبيرًا من يهود العالم بواقعية المشروع، وأن الصهيونية ليست مجرد مغامرة. ولكن التغيير الأهم حصل في إسرائيل ذاتها؛ إذ إن واقع الدولة غيّر الفكرة والحركة، وربطها بالمصالح والتناقضات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، والسياسات والتحالفات الداخلية والخارجية، وقضايا الصراع في المنطقة والعالم، والمسائل الجيوستراتيجية. فأحزاب دينية كثيرة ارتبطت بالخدمات التي تقدمها الدولة، وتصهينت بانخراطها في الوطنية الإسرائيلية خلال الصراع ضد العرب، كما نشأ يسار ويمين إسرائيليان لا علاقة تربطهما باليسار واليمين اليهودي قبل قيام الدولة اليهودية، ونشأت العسكرتاريا اليهودية وغرور القوة. ونشأ صراع على طابع الدولة العلماني. وأصبح هرتزل يبدو علمانيًا معتدلًا، مقارنةً بالسائد في هذه الدولة؛ إذ أيد منح العرب حقوقًا مدنية متساوية، ودعا إلى تجنب القدس وما يسمى "جبل الهيكل" حفاظًا على الطابع العلماني لدولته المستقبلية. ولكن إسرائيل القوية التي تحتل القدس كلها، والضفة الغربية، وهضبة الجولان، وتحاصر غزة، وتمتلك سلاحًا نوويًا، ما زال يُغويها أداء دور الضحية واستخدام ذاكرة الهولوكوست أداتيًا في تمثيل ضحايا لم ينتدبوها عنهم، وكذلك استخدام العداء للسامية تهمةً ضد كل ما يناقش سياسة إسرائيل في الغرب.
لقد تداخلت مسائل العنصرية والصهيونية مع السياسات الدولية؛ فقد اتّخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975، قرارها رقم 3379 الذي نصّ على "أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، ثم أُلغي هذا القرار، بموجب القرار 46/86، في 16 كانون الأول/ ديسمبر 1991، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي.وفي الحالتين، تعلّقت الاعتبارات بالتحالفات الدولية وتغير موازين القوى على الساحة الدولية؛ بين مرحلة تحالفات دول عدم الانحياز والمعسكر الاشتراكي في الستينيات والسبعينيات ومكانة منظمة التحرير الفلسطينية فيه، وبين مرحلة انهيار هذه التحالفات. وقد أدّت تحالفات إسرائيل مع الولايات المتحدة دورًا أساسيًا في هذا كله. لكن العداء للسامية لم يكن هو الموضوع إطلاقًا، بل الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال. وهذه لم تتغير؛ لا نتيجة للقرار، ولا نتيجة لإلغائه، بل تفاقمت، مثلما ازداد منسوب العنصرية في إسرائيل نفسها بحسب الاستطلاعات الإسرائيلية على أنواعها.
وحاليًّا، نجد أن اليميني المتطرف المعاصر الذي يتسق خطابًا وثقافةً سياسيةً مع "بروفيل" الشخصية المعادية للسامية هو شخص مُعجب بإسرائيل وبشخصية بنيامين نتنياهو، ويقدم بناء إسرائيل الجدار العازل في فلسطين وتعاملها مع العرب نموذجًا لما يجب أن يكون عليه الحال في أوروبا، مثلما هو معجب بفلاديمير بوتين ودونالد ترامب ويكره المسلمين. إن العداء للسامية في عصرنا هو ليس العداء للصهيونية وإنما هو العداء للأجانب، المسلمين بشكل خاص. وإن محاربة اللاسامية لا تكون بتملق السياسة الإسرائيلية في اجتماع لأحد لوبياتها المؤثرة، وإنما في محاربة العنصرية؛ سواء أكانت موجهة ضد اليهود أم المسلمين أم السود أم البيض.