بلال الحسن
انفجرت في الأسبوع الماضي قضية جديدة ضد الفلسطينيين المقيمين في وطنهم داخل دولة إسرائيل. حملت القضية اسم الدكتور عزمي بشارة، النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي، فبدت في هذا النطاق وكأنها قضية شخصية تخصه هو بالذات، ولكنها ما لبثت أن تكشفت عن قضية أخطر من ذلك بكثير، تمس الفلسطينيين وهويتهم، كما تمس هوية دولة إسرائيل.
بدأت القضية بخبر نشرته مجلة «الصنارة» الأسبوعية، التي تصدر باللغة العربية، وذات الصلة بالأجهزة الإسرائيلية، وقالت فيه إن عزمي بشارة ينوي الاستقالة من الكنيست، وإنه غادر إلى الأردن ولن يعود. وردت قيادة التجمع الوطني الديمقراطي، وهو الحزب الذي ينتمي إليه عزمي بشارة، موضحة بأن الخبر عار من الصحة، وأن موضوع استقالة عزمي بشارة مطروحة في القيادة منذ سنة، وبصيغة استبدال عضويته في الكنيست بعضوية شخص آخر من قائمة الحزب، التي خاضت الانتخابات. ولكن تطورا طرأ على الأمر، حين أجرت الوزيرة الإسرائيلية السابقة شالوميت آلوني مقابلة مع موقع (المشهد السياسي) الفلسطيني، وجهت فيها تنبيها إلى الدكتور عزمي بشارة «أن يبدأ باتخاذ الحذر، لأن لدي انطباعا بأن الشاباك (المخابرات الإسرائيلية) يعد ملفا ضده، وأقترح عليه أن يغادر، لأنه لا يوجد شخص لا يمكن حياكة ملف ضده. وقد قالوا لي شيئا مشابها عندما أرادوا تكميم فمي، فقد حذروني وأوضحوا لي أنه ليس هناك أحد لا يمكن حياكة ملف ضده. وعزمي بشارة بالنسبة لهم هو مثل شوكة في الحلق». وارتبط هذا التنبيه من شالوميت آلوني بنبأ آخر كان قد جرى من قبل، حين التقى رئيس الشاباك مع رئيس الوزراء ايهود اولمرت (13/3/2007)، وأبلغه بأن الشاباك يعتبر الأقلية العربية (الفلسطينيين) خطرا على الأمن الإسرائيلي، وقد نشرت صحيفة «معاريف» فحوى هذا اللقاء وما دار فيه.
ومن المفيد الملاحظة هنا، أن الحديث عن الأقلية العربية كخطر على إسرائيل، يجري منذ زمن، وعلى مستويات عليا، منذ مؤتمر هرتسليا الأول عام 2000، باعتباره خطرا ديمغرافيا تتولد عنه بالضرورة فكرة الترانسفير (الترحيل). ولكن الجديد في الأمر، هو أن مجموعات بحثية وقانونية ومدنية تمثل نخب الأقلية العربية داخل دولة إسرائيل، بدأت تطرح تصوراتها حول الصيغ الدستورية التي يرونها لدولة إسرائيل كدولة ديمقراطية، ولمنهج تعامل دولة إسرائيل معهم حسب تلك الصيغ الديمقراطية، وضد كل منهج يصور الأقلية العربية كخطر على المجتمع ومستقبله. ويبدو أن هذه التصورات قد أقلقت (الشاباك) وكانت موضع بحث رئيسها مع رئيس الوزراء. وحسبما نقلته صحيفة «معاريف» عن رئيس الشاباك قوله، في ذلك الاجتماع، «إن ما يبعث على القلق بشكل خاص هو ظاهرة (وثائق التصور) التي تكثر لدى النخب المختلفة بين عرب إسرائيل، حيث هناك في الوقت الراهن أربع وثائق تصور مختلفة، والمشترك في ما بينها أنها ترى في إسرائيل دولة جميع مواطنيها وليس كدولة يهودية. إن هذه الاتجاهات التآمرية التي تبديها النخب يمكنها أن تحدد توجها، وتجتذب وراءها الجموع».
(وثائق التصور) التي أشار إليها رئيس الشاباك هي التالية:
1 ـ وثيقة التصور المستقبلي للفلسطينيين في إسرائيل، الصادرة عن (لجنة المتابعة العليا).
2 ـ مشروع الدستور الديمقراطي، الصادر عن مركز (عدالة) القانوني.
3 - وثيقة النقاط العشر، الصادرة عن مركز (مساواة).
4 ـ وثيقة حيفا، الصادرة عن مركز (مدى) للدراسات، وهي وثيقة لم تنشر بعد.
والشيء الجامع بين هذه الوثائق كلها، التوجه الذي يتطلع إلى تغيير تعريف الدولة إلى (دولة جميع مواطنيها)، وذلك ضد التعريف الذي يقول، إن إسرائيل (دولة يهودية)، لأن هذا التعريف يمس بالديمقراطية، ويفرض مستويين في تعريف المواطنين والتعامل معهم، فينشأ مستوى للتعامل مع اليهودي، وينشأ مستوى آخر للتعامل مع غير اليهودي، وهو موقف ينقض الأساس الديمقراطي للدولة، ويفتح الباب أمام دولة التمييز العنصري (الأبارتهايد)، على غرار ما كان قائما في جنوب أفريقيا.
وكان الدكتور عزمي بشارة، ومن خلال الحزب الذي يترأسه، ومن خلال وجوده في الكنيست، هو أول من طرح مبدأ (دولة لجميع مواطنيها)، وذلك منذ عام 1996. وتمكن ذلك الشعار أن يصبح، منذ ذلك الحين، الشعار الجامع للعديد من التيارات السياسية الفلسطينية، وللعديد من النشاطات الشعبية النضالية. وفرض هذا الشعار على الجهة الأخرى الإسرائيلية تحديا ديمقراطيا صعبا ومحرجا، وبدأ النظر منذ ذلك الحين إلى الدكتور عزمي بشارة كخطر يهدد النظام الإسرائيلي، وتم تسليط الأضواء عليه بسبب دوره المركزي هذا، وبدأت عملية ترصد لنشاطاته واتصالاته، خاصة مع الجهات العربية (السلطة الفلسطينية ـ الأردن ـ سوريا ـ لبنان ـ مصر)، كما بدأت حملات معادية له اتخذت شكل الحملات الإعلامية، ثم تطورت إلى مساءلات قضائية تم أثناءها رفع الحصانة النيابية عنه، مع محاولات قضائية أخرى لمنع قائمة حزبه من الترشح للكنيست (2003). ولكن كل هذه الحملات لم تستطع إضعاف إرادة عزمي بشارة، أو التأثير في سياسة حزبه أو كتلته البرلمانية، وواصل الحزب انتشاره في الأوساط الشعبية، كما واصل فكر الحزب مد تأثيره إلى أوساط النخب السياسية، وهو ما عبر عنه خبير في الشاباك حين طلبت منه المحكمة الإسرائيلية رأيه فقال «إن التجمع الوطني الديمقراطي يملك اليوم تأثيرا عظيما على مضمون النقاش السياسي، وعلى ما هو مطروح على ساحة النقاش الجماهيري في الوسط العربي». ولم يكن هذا الرأي بهدف كيل المديح للتجمع، بل كان هدفه تحريض قضاة المحكمة على ضرورة منع قائمة التجمع من الترشح للكنيست، بسبب قدرة أعضائها على إحداث هذا التأثير.
ولكن لا بد من وقفة عند توقيت إثارة موضوع ملاحقة الدكتور عزمي بشارة واهتمام حشد كبير من السياسيين الإسرائيليين بالأمر. ونستطيع أن نرصد هنا عدة أسباب منها:
1 ـ إن نقاشا يجري في إسرائيل منذ زمن، من أجل صياغة دستور لدولة إسرائيل (إسرائيل دولة من دون دستور)، يكرس فكرة يهودية الدولة رسميا ولأول مرة. وذلك في محاولة للاستفادة من تأييد الرئيس الأميركي جورج بوش لهذه الفكرة، وهو تأييد قدمه لرئيس الوزراء السابق آرييل شارون في ما أصبح يعرف باسم (وعد بوش). والهدف الأساسي من فكرة يهودية الدولة هو التمهيد لفكرة ترحيل الفلسطينيين (مليون و300 ألف نسمة)، والوقوف بقوة في وجه مبدأ (حق العودة) للاجئين الفلسطينيين، الذي أصبحت تعبر عنه هيئات مدنية فلسطينية منتشرة في كل عواصم العالم تقريبا.
2 ـ إن إسرائيل أصبحت تواجه تحديا سياسيا عربيا وعالميا، منذ أن تم تفعيل المبادرة العربية في قمة الرياض الأخيرة، وهي مبادرة تتضمن البحث بإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين على قاعدة قرار الأمم المتحدة رقم 194 الذي يقضي بعودة اللاجئين إلى ديارهم. وهي ترفض هذه المبادرة وتريد أن يأتي رفضها عبر معركة مع الفلسطينيين المقيمين في دولة إسرائيل، وتحت شعار الترانسفير، لتقضي على فكرة حق العودة، التي تتضمنها المبادرة العربية.
3 ـ إن إسرائيل تعيش حالة متأزمة منذ حرب لبنان الفاشلة، التي خاضتها في شهر تموز/ يوليو 2006. وهناك لجنة تحقيق في هذه الحرب، وقد تدين القيادات الإسرائيلية الأساسية وتنهي حياتهم السياسية، ومنهم رئيس الوزراء ايهود اولمرت. ولذلك تسعى هذه القيادات الإسرائيلية إلى إيجاد كبش فداء، وإلى صرف اهتمام الجمهور الإسرائيلي نحو «الخطر الفلسطيني»، لكيلا ينصب الاهتمام على فشل القيادات الإسرائيلية وفسادها.
لقد أنتجت هذه الأسباب الكبيرة، سياسة إسرائيلية ضد الأقلية العربية بمجملها، وموضوع عزمي بشارة ليس إلا العنوان لهذه المعركة الخطرة، التي استنفرت كل زعماء اليمين في الكنيست الإسرائيلي، وفي مقدمتهم بنيامين نتنياهو، الذي قال «إذا غادر عزمي بشارة الحلبة السياسية حقا فسيكون ذلك أفضل للجميع». وكذلك النائب زفولون اورليف، الذي دعا إلى محاكمة أعضاء الكنيست العرب بسبب «نشاطات علنية تشكل خطرا حقيقيا على إسرائيل كدولة يهودية»، وطالب بسن قانون يمنع ترشحهم لانتخابات الكنيست. وكذلك النائب تسفي هاندل، الذي اعتبر أن النواب العرب يتعاونون مع الأعداء، ووصفهم بأنهم «طابور خامس». والسبب في ذلك كله اتهامهم بأنهم يزورون سوريا ولبنان.
أخيرا .... هل سيعود عزمي بشارة إلى أرض الوطن أم سيبقى في عمان؟ يقول بيان اللجنة المركزية للتجمع الديمقراطي «إن عودة النائب بشارة وموعدها، قريبا كان أم بعيدا، سيحدده وفقا لبرنامجه.. والمتلهفون على عودة النائب بشارة هم أولئك المتلهفون على ملاحقته، وليس هو رهن إشارتهم وترتيب برنامجه حسب برنامجهم».
لقد بدأت معركة كبيرة... وستكون لها بالضرورة حسابات خاصة.