حلمي موسى
أدخلت ملاحقة النائب العربي في الكنيست عزمي بشارة، العلاقات بين الأقلية العربية والدولة اليهودية في زاوية ضيقة تهدد بالانفجار، بعدما أوضحت حدود العلاقة بين هذه الأقلية ومحيطها العربي. فقد أثبتت السلطة الإسرائيلية بذلك أنها لا تريد لفلسطينيي الـ48 من دور سوى أن يكونوا مجرد جسر للتطبيع معها، وأنها ترفض كل علاقة قومية الطابع.
وعليه فإن إسرائيل لاحقت بشارة منذ صعود نجمه وتشكيله مع رفاقه حزب «التجمع الوطني الديموقراطي»، عندما شعرت أنه يريد للعلاقة بين فلسطينيي الـ48 ومحيطهم العربي أن تكون لخدمة المشروع العربي. وهي بذلك تكمل، في ظروف جديدة، ما كانت قد بدأته في أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات من محاربة التيار القومي عموما وتيار «الأرض» على وجه الخصوص. وهو ما يتكرر أيضا مع الجناح الشمالي للحركة الإسلامية برئاسة الشيخ رائد صلاح.
فإسرائيل، مثلما ترفض إصرار فلسطينيي الداخل على عروبتهم المنفتحـة على قضايا أمتهم، ترفض إسـلامهـم إن كان ذلك يعـني تبـني خط معاد لها. وبعـدما فشـلت كل المحاولات بإدانـة بشـارة و«التجمـع» عـبر الاتهامات السياسية، وبدا أن هذا الاتجاه يحقق نجاحا في تكريس مفاهـيم جديدة في العلاقة بين الطرفـين، اندفعـت إسـرائيـل نحو تـوجيــه الاتهـامـات ذات الطـابـع الأمـني.
وكما في حالة الشيخ رائد صلاح الذي قاد حملة إعمار المسجد الأقصى ومنع تهويد محيطه، تظهر حالة بشارة الذي يقود حملة الهوية القومية لفلسطينيي الـ.48 فالسلطات الإسرائيلية، وكما يرشح من معلومات من الداخل، تتهم بشارة بخمسة بنود أساسية جميعها ذات طابع أمني. وعلمت «السفير» أن هذه الاتهامات هي: إعطاء معلومات للعدو في زمن الحرب (تتهمه باتصالات مع جهات عربية أثناء حرب لبنان الثانية)، الاتصال مع عميل أجنبي، زيارة بلاد العدو من دون إذن، خرق قانون تمويل الإرهاب، وخرق قانون تبييض الأموال.
ومن الواضح أن الاتهامات الأخيرة هي من النوع الذي تستخدمه إسرائيل كسيف مسلط فوق رقاب العرب لدفعهم للبقاء في دائرة اللعبة المقررة. إذ تستطيع السلطات الإسرائيلية وقتما تشاء توجيه اتهامات مماثلة لكل عربي فيها، إذا تلقى هدية من صديق أو قريب من الخارج أو اتصل حتى بأقربائه أو حاول تجنيد أموال لدعم مشاريع خيرية أو ثقافية. وبدا بوضوح، من خلال مقابلتي بشارة مع «إذاعة الشمس» وقناة «الجزيرة»، أنه تم التحقيق معه مطولا حول هذه الأمور وأن جزءا من الاتهامات يستند إلى التنصت على مكالمات هاتفية مع أصدقاء أو زملاء أو معارف له في أرجاء الوطن العربي.
(تتمة المنشور ص 1)
ويقول بعض من التقوا بشارة مؤخرا أنه ليس على استعداد لأن ينكر مثل هذه التهم، حتى لو كانت صحيحة. بل ثمة من يقول أن الشائعات التي تحدثت عن قضية مالية «لتمويل الإرهاب»، لا أساس لها من الصحة لأن نائبا كبشارة يستطيع، بسبب الحصانة البرلمانية، نقل الأموال بنفسه من دون أن يخضع لتفتيش وهو ليس بحاجة إلى خدمات صراف أو صرافين.
وأكثر الإسرائيليون من تسريب شائعات لبعض وسائل الإعلام العربية حول اتهامات تتعلق بإدخال أموال لتمويل نشاطات إرهابية. ونظرا لأن اتهامات مماثلة، حتى إن صحت، لا تشكل إساءة معنوية لأي شخصية عربية، اندفع بعض خصوم بشارة نحو إطلاق شائعات تتعلق بالذمة المالية. تجدر الإشارة إلى أن الشيخ رائد صلاح اعتقل بتهمة الاتصال بعميل أجنبي ولكنه حوكم بتهمة تبييض أموال، والتي لا تعتبر على وجه العموم تهمة خطيرة. غير أن فلسطينيين من أراضي الـ48 ممن يعرفون طريقة حياة بشارة المتقشفة والبيت الذي يعيش فيه، يشددون على أن شائعات مماثلة لا تجد من يصدقها.
ويبدو أن عزمي بشارة يرفض أن يضع نفسه، أصلا، في موضع إنكار الاتهامات أو الاضطرار للرد على أسئلة حول علاقاته الشخصية كسياسي وكمفكر من موقع المتهم. كما أنه، وهو العالم بمستوى الكراهية التي تكنها له المؤسسة السياسية الإسرائيلية، لا يريد أن يمنحهم، في الوقت الذي يريدون، فرصة إذلاله وإذلال القضية التي يمثلها ويؤمن بها. ويرى مقربون منه أنه يرفض أن يمنح المؤسسة الإسرائيلية «الصورة» التي يحتاجون إليها في هذا الوقت لتطويع الإرادة الفلسطينية في الداخل. ولهذا السبب ثمة من يلحظ الارتباك في الموقف الإسرائيلي إزاء رفض بشارة التعامل وفق قواعد اللعبة التي يجيدونها.
فقد فاحت في الحلبة السياسية الإسرائيلية أشد روائح العنصرية، حتى من دون معرفة حقيقة الاتهامات، لأن القضية تهم بشارة. وأكثر العديد من قادة أحزاب اليمين واليسار، على حد سواء، من الحديث عن مقدار تجاوز بشارة للخطوط الحمراء. وصرح بعضهم بأنه يفضل رؤية بشارة مقيدا بالأصفاد فيما شدد آخرون على أفضلية «الحل الصهيوني» بإبقائه بعيدا عن وطنه.
وأيا يكن الحال، فإن التقديرات في إسرائيل تشير إلى أن مطلع أيار سيكون نقطة زمنية فاصلة في التحقيقات الجارية بحق بشارة. وليس من المعلوم حتى الآن الصيغة النهائية لطريقة التعامل الإسرائيلي معه، خاصة في ضوء حملات التضامن الداخلية والخارجية معه؛ وهل ستقدم إسرائيل على نشر لائحة اتهام ضده وما الذي ستحويها من بنود أم ستنتظر وقتا آخر بعد أن تتضح الصورة النهائية للأضرار والفوائد. فإسرائيل تحاول الإيحاء بأن ملاحقة بشارة هي جزء من الحرب القائمة في المنطقة بين محوري الاعتدال والشر. وهذا يطرح سؤالا آخر: هل ستطالب إسرائيل دولا عربية بتسليم بشارة أو بتقييد حركته على أراضيها؟.
وعلى صعيد آخر يبدو أن بشارة حرم الإعلام الإسرائيلي، بابتعاده عن كل لقاء معه، من الرقص على دمه. وأفردت صحف إسرائيلية رئيسية صفحات عديدة لقضية بشارة «الممنوع نشرها»، مما يشير إلى عدد الصفحات التي ستفردها حال نشر اتهامات. وربما لهذا السبب يصر بشارة على رفض كل حديث مع وسائل الإعلام الإسرائيلية، لا لسبب إلا لأنها تتعامل معه كعدو وهو لا يريد لها شرف الادعاء بأنها ديموقراطية.
من جهة ثانية، أظهرت قضية بشارة عناصر الاستقطاب في أوساط فلسطينيي الـ48 وخصوصا بين الوطنيين من جهة وهم الأكثرية وبين أقلية ترى نفسها متأسرلة. وتبدت معالم التضامن الداخلي بجديتها من جانب الأطراف التي تعرضت للقمع الرسمي الإسرائيلي مثل الجناح الشمالي في الحركة الإسلامية والجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة. ومع ذلك، وبرغم حملات التضامن الواسعة مع بشارة في الداخل، فإن ذلك لم يلـغ واقع وجود اختلاف معه ومحاولة البعض التريــث لرؤية وجـهة الأمور. وأشار مراقب إلى أن هناك، بين الأوساط السياسية العربية في اراضي الـ,48 من يدرس آثار أي قرار إسرائيلي بحل «التجمع الوطني الديموقراطي» أو ملاحقة زعيمه، على مكانتها الحزبية.
السفير