انطلقت اليوم (السبت 23 أيار/ مايو 2015) أعمال مؤتمر: "العرب وروسيا: ثوابت العلاقة وتحولاتها الراهنة" الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة مدةَ يومين.
الدكتور عزمي بشارة يلقي كلمة في استهلال المؤتمر
وأوضح الدكتور عزمي بشارة المدير العامّ للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في كلمة استهلالية لأعمال المؤتمر أنّ المركز أدرج ضمن أجندته البحثية، منذ إنشائه عام 2011، دراسة علاقات العرب بمحيطهم القريب، وبالقوى الإقليمية والدولية، وذكَر أنّ المركز عقد مؤتمرًا كلّ عامٍ على مدى أربع سنوات لمناقشة علاقات العرب بكلٍّ من إيران، وتركيا، والقرن الأفريقي، والولايات المتحدة الأميركية.
وأكّد الدكتور بشارة أنّ هدف هذه المؤتمرات الرئيس هو تجاوز التناقض بين مصالح الدول العربية والدول الإقليمية والقوى الكبرى؛ من خلال إتاحة فرصة للمختصِّين والباحثين العرب للقيام بدورهم في مناقشة طبيعة علاقات العالم العربي بهذه القوى، من منظور البحث عن أرضيات الالتقاء ومواضع التنافر وفتح قنوات الحوار بشأن أكثر الأنساق ملاءمةً للعلاقات بين الطرفين. وشدَّد الدكتور بشارة على ضرورة سعي العرب لفهم روسيا ومحددات سياستها نحو قضايا العالم العربي؛ حتى نصل فعليًّا إلى إعادة تصحيح هذه السياسة أو التأثير فيها، وأكّد أهمية المشاركة الكبيرة لباحثين من روسيا ومن خارج العالم العربي في أعمال المؤتمر، وأنّ هذه المشاركة تُتيح فعلًا عرض وجهات نظر بحثية متعددة في مقاربة العلاقات العربية الروسية وآفاق تطويرها.
روسيا البراغماتية في انتظار عرب براغماتيين
ذهب باحثون محاضرون في مؤتمر "العرب وروسيا: ثوابت العلاقة وتحولاتها الراهنة" منذ جلساته الأولى إلى تفنيد ما يتبادر إلى أذهان الرأي العامّ العربي من عداء روسيا لمصالح الشعوب العربية، بالنظر إلى مواقفها من "الربيع العربي"، وخصوصًا دورها في الأزمة السورية ودعمها لنظام بشار الأسد. فقد أكّدوا أنّ السياسة الخارجية لروسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لم تعُد قائمةً على مُحدّد أيديولوجي، بل صارت خاضعةً على نحو رئيس لنهج براغماتي يُقدّم المصالح الإستراتيجية على أيّ حسابات أخرى. وفي المقابل، رأى باحثون آخرون أنّ الحسابات البراغماتية ملتبسة، والمصالح الروسية غير واضحة في بعض مواقفها، خصوصًا في ما يتعلق باستمرار موقفها الداعم للنظام السوري، على الرغم من أنّ التحوّلات التي طرأت قد انتفت معها المبررات التي كانت تُساق إلى الموقف الروسي قبل ثلاث سنوات مضت.
ورأى فصيح بدرخان، الباحث في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية ونائب رئيس المركز العلمي للحوار الروسي – العربي، أنّ روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي رفضت الاتجاهات الأيديولوجية كلّها واتبعت سياسةً براغماتية. وأضاف أنّ روسيا تُعدّ ليبراليةً فعلًا من الناحيتين الاجتماعية والدينية. فالروسي لا يتعامل مع الآخر انطلاقًا من انتمائه الديني أو القومي، ولا توجد أيّ حدود اجتماعية أو دينية لدى الروس في علاقاتهم بالآخرين. وأوضح أنّ السياسة الخارجية الروسية اتجهت شرقًا بعد رفض محاولاتها الالتحاق بالكتلة الأوربية الغربية، وأنّها لا تسعى لتكتّل، أو حِلفٍ جيوستراتيجي مناوئ للمنظومة الأورو - أطلنطية، لكنها تحاول - من خلال الانضمام إلى تكتلات من قبيل منظمة معاهدة الأمن المشترك أو مجموعة "البريكس" - تحديدَ إمكانات المدّ الغربي قرب حدودها الإمبراطورية التاريخية على الأقل، غير أنّ مثل هذه المنظمات ضعيفة؛ ولا تُعدّ منافسًا حقيقيًا لحلف شمال الأطلسي الناتو.
وفي ورقته عن " تأثير المتغيرات الإقليمية والدولية في سياسة روسيا تجاه منطقة الخليج العربي"، أكدّ فيصل أبوصليب الأستاذ المساعد في جامع الكويت، وجودَ تنافرٍ مستمرٍّ بين روسيا ومجلس التعاون لدول مجلس الخليج العربية منذ بدء الأزمة السورية، وقد امتد إلى الأزمة اليمنية. ورأى أنّ روسيا لا تملك سياسةً خاصةً تجاه دول الخليج، وأنّ المحدّد الرئيس لهذه السياسة المتذبذبة هو المصلحة الإستراتيجية والنهج البراغماتي. وأضاف أنّ علاقات روسيا بالخليج ارتبطت دومًا بمحدّد أو طرف خارج عن هذه العلاقة؛ سواء كان أحد الأطراف الإقليمية (العراق، إيران، تركيا) أو محددًا دوليًّا متمثلًا بالولايات المتحدة الأميركية. فروسيا تتعامل مع دول الخليج من منظور موقع هذه العلاقة كتابع لعلاقة رئيسة مع طرف إقليمي آخر، وفي نطاق تقييم شامل للوضع النسبي لهذه الدول في السياسة الأميركية. وبيّن أنّ روسيا لا تطمح إلى أن يكون لها نفوذ في منطقة الخليج التي تعدُّها منطقة نفوذ واسع للولايات المتحدة، بل إنها تسعى لحصْر هذا النفوذ والحؤول دون أيّ مشاريع لمدِّه نحو تُخوم النفوذ الروسي في المنطقة. وذكر الباحث أنّ روسيا تنظر إلى دول مجلس التعاون في نطاق الشرق الأوسط كلّه، وأنها لا تتعامل مع دوله بوصفها تكتلًا مكوَّنًا من ستّ دول، بل إنها تتعامل مع كلّ دولة من دوله على حدة. وفي المقابل، يرى الدكتور أبوصليب أنّ دول مجلس التعاون تتعامل مع روسيا، أيضًا، منفردةً غير متكتلة. واختتم الباحث ورقته بتأكيد أنّ دول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية كلّها يجب أن تتعامل مع روسيا بنهج براغماتي يتوافق مع البراغماتية التي تعتمدها روسيا نفسُها.
مبررات الموقف الروسي في سورية لم تعد "مبررة"
جانب من جلسات اليوم الأول
ركَّز الدكتور مروان قبلان، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، على نقْض مبررات استمرار الموقف الروسي من الأزمة في سورية. وقال إنّ المبررات التي كانت تُساق لشرح الموقف الروسي الداعم للنظام السوري والذي بلغ حدّ رفْع الفيتو في وجه أيّ تحرك لمجلس الأمن لإنقاذ الشعب السوري من قمع النظام - كلّها لم تعُد مبررات مقبولة لاستمرار سياسة روسيا كما كانت عليه قبل ثلاث سنوات. وبيّن أنّ المنطق، الآن، يفرض ترقُّب تحوُّل في الموقف الروسي من إسناد النظام في سورية.
وأوضح الدكتور قبلان أنّ العامل الأول الذي كان يذكر قبل ثلاث سنوات لتبرير الموقف الروسي هو مخاوف بوتين الداخلية من المعارضة الروسية، ومن اهتزاز وضعه السياسي، وهو ما دفعه إلى البحث عن صناعة مكانة خارجية لروسيا قوية ليعزز موقفه الداخلي. وفي هذا النطاق، يرى المحاضر أنّ موقف بوتين اليوم قوي ومتين داخليًّا، وأنه لم يعُد في حاجة إلى الاستمرار في موقفه من النظام السوري بعد أن دفْع السوريون من دمائهم وأرواحهم ثمنًا لتحقيق موقع أفضل لروسيا. وبالمثل أيضًا، فإن للتخوف من نتائج الربيع العربي، وصعود التيارات الإسلامية وعلاقاتها بتركيا على نحو يمكن أن يرفعها إلى مكانة محورية في المنطقة تهدد بها النفوذ الروسي، لم يعد له أي معنى بعد إضعاف كل من تركيا والتيارات الإسلامية.
وأمّا بخصوص المبرر الثالث القائل بمخاوف روسيا من فقدان تأثير قوتها بوصفها أهمَّ مزوِّد لأوروبا بالطاقة، في حال نجاح تركيا في إنشاء خط لتصدير الغاز القطري والنفط الخليجي عبر سورية، فإنه لم يعُد مطروحًا بعد التقارب الكبير بين تركيا وروسيا وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما. ويرى الدكتور قبلان أنّ مصالح روسيا لدى النظام السوري لم تعُد واضحةً على غرار ما كانت عليه من قبلُ، وأنّ من أبرز الأمثلة المؤكِّدة لذلك أنّ قاعدة طرطوس مثلًا لم يعُد لها أيُّ قيمة بعد استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم وتأمين قاعدة سيباستوبول. وخلص الباحث إلى أنّ النهج البراغماتي للسياسة الروسية يفرض - هو نفسُه - اليومَ تغييرًا في الموقف الروسي المساند للنظام السوري.
نقاش ثري
تخلَّلت جلسات المؤتمر في اليوم الأول نقاشات مهمّة بشأن الأفكار التي طرحها المحاضرون. وأثار المتدخلون في النقاش مسائل ذات علاقة بضرورة تعديل مقاربة روسيا لعلاقتها بالعالم العربي وقضاياه. وأثار متدخلون آخرون أنّه يجب على العرب أن ينهضوا بوضعهم ويفرضوا أنفسهم فاعلًا حريًّا بأن يُخّصص بسياسة خاصة لا تابعا ثانويًّا لسياسة تجاه فاعل إقليمي أو دولي آخر.
وشهد اليوم الأول من المؤتمر أربع جلسات تناولت محاور: "الأبعاد التاريخية والحضارية في العلاقات الروسية - العربية وتجلياتها الراهنة"، و"المتغيرات الدولية وانعكاساتها على الدور الروسي في المنطقة العربية"، و"المقاربات الروسية تجاه الربيع العربي"، و"علاقات روسيا مع القوى الإقليمية وأثرها في المنطقة العربية". وخصصت نهاية أمسية اليوم الأول لتقديم محاضرتين؛ إذ ألقى المفكر اللبناني كريم مروّة محاضرةً بعنوان: "قراءة نقدية للعلاقات الروسية - العربية وتحولاتها في زمن الإمبراطورية والعصر السوفياتي والزمن الحديث"، وقدّم المدير العامّ لمجلس الشؤون الخارجية الروسي أندريه كورتونوف محاضرةً بعنوان: "هل من دور لروسيا في العالم العربي؟".
ويشتمل برنامج المؤتمر على أكثر من 30 بحثًا محكَّمًا، بمشاركة نحو 40 باحثًا، من الوطن العربي وروسيا، ينحدرون من مختلف تخصّصات العلوم السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة.
المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات