تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مواطنة صغيرة ومربعة، بالألمانية: شبيزبورغر

2007-04-04

استغرب الفلسطينيون من سلوك المستشارة الألمانية ميركل. وهم معتادون منذ بدأ الاعتراف بـ م. ت. ف ومنذ بيان البندقية الشهير على سلوك أوروبي رسمي يطرح كأنه متوازن، أو يتحالف مع إسرائيل ويساير الحالة النفسية الفلسطينية، ويخفف على الفلسطينيين قليلا، أو يحيد الاحتلال بطرح حالة غير متكافئه من علاقة المحتل والواقع تحت الاحتلال كأنها متكافئة.

 

وقد كان بذلك يزوّر الحالة الفلسطينية ويزيد من أعبائها فيما يبدو مساواة بين طرفين. وربما لا تكون التسوية ممكنة دون تزوير كهذا. أما ميركل فقد خرجت عن كافة أصول اللياقة والكياسة والسياسة باستفزاز مشاعر الشعب الفلسطيني، والاستخفاف بع وبقياداته، مقابل ما أظهرته من مسايرة وتملق ومراءاة لمشاعر الجانب الاسرائيلي.

 

ولكن هذا هو موقفها. موقفها يجعلك تشتاق للموقف الأميركي، أو لنانسي بيلوسي التي زارت سوريا ايضا، ولم تكتف بلبنان، وهي خطوة لا تجرؤ المستشارة الألمانية على اتخاذها.

 

وفيما عدا رفض لقاء رئيس الحكومة الفلسطينية بشكل مطلق رفضت ميركل لقاء رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس في بيت لحم بناء على اقتراح فلسطنيني لمشاهدة جدار الفصل العنصري الذي تقيمه إسرائيل. وأصرت على رام الله، ربما لكي لا يتبادر الى ذهن احد ان يسألها عن المقارنة مع جدار برلين، ولكي لا تحرج من مشهد بيت لحم المحاصرة وهي رمز المسيحية "حتى" في أوروبا. كما رفضت ميركل كذلك لقاء رؤساء الكنائس في مدينة بيت لحم حيث صادف الاحتفال بعيد الشعانين وأهازيجه التي يختلط فيها التدين الشعبي بالوطني الفلسطيني، وهو ما تبقى من رونق المسحية الشرقية الرائع في فلسطين، خاصة وأن مسيحيي فلسطين يحرمون من أدائه في القدس، وهي مهد هذا العيد الشرقي، ومولده مثل عيد الفصح الشرقي الطابع ايضا. والشعانين عيد له كان له طابع كرنفالي رائع في المدينة المقدسة التي احتوت ذات يوم الوان الشعانين وأهازيجه ودرب آلام مسيرة الفصح والإسراء والمعراج تحت سقف فلسطيني واحد. ويتوجه معظم أبناء الطوائف المسيحية المقيمين في بيت جالا وبيت ساحور وحتى من رام الله وغيرها الى بيت لحم بسبب الإجراءات الإسرائيلية التي تمنع دخولهم الى مدينة القدس المحاصرة.

 

وألغت ميركل اجتماعاً كان مقرراً مع ممثلي مؤسسات المجتمع المدني، وهو ما درج عليه معظم المسؤولين الأوروبيين الذين يزورون الأراضي الفلسطينية. ونحن نعتبره استثنائيا إلغاء محمودا يضع النقاط على الحروف بالنسبة للموقف الأوروبي الذي كان يستثني تلك المنظمات باعتبار اللقاء معها لقاء مع المجتمع المدني. وقد تضمنت تلك اللقاءات قدرا كبيرا من التمييز لصالح المنظمات غير الحكومة وجرت مداهنتها من زاوية أنها قوة تغيير ممولة أوروبيا في مقابل السياسة الفلسطينية. أما فظاظة ميركل فلم تترك هامشا حتى لمثل هذه المراءاة. وأظهرت المستشارة ميركل اهتماما غير مسبوق بالجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط، ولم تأت طبعا على ذكر أكثر من عشرة آلاف أسير فلسطيني بما فيهم أطفال ونساء ومرضى. وقامت بزيارة أهالي الجنود الأسرى الإسرائيليين الثلاثة، ولكنها لم تلتق بأهالي أي من الاسرى الفلسطينيين.

 

لقد حطمت ميركل التلون الأوروبي الرسمي كما عهده الفلسطينيون، ووضعت الموقف الأوروبي في نصابه الاميركي في المنطقة دون الرتوش المعهودة... وهذا كله نذير ما هو متوقع في المرحلة القادمة لناحية الموقف من الشروط الإسرائيلية وعدم الحياد عنها.

 

طبعا هنالك الهولوكوست والفهم الألماني اليميني للتعويض عنه والمغزى منه في تفاهم مع إسرائيل حول تقاسم المصالح كناطقة بإسم الضحايا ومانحة صكوك براءة للفاعلين، وليس في رفض العنصرية وممارساتها عموما. ولكن نفس العقدة الألمانية عند قيادة سياسية لشعب ارتكب مجازر فعلا، لم تمنع ويلي برانت في الماضي، وشرودر مؤخرا من اتباع نهج مختلف. لدينا هنا حالة مختلفة تمثل مزاجا أوروبيا يمينيا جديدا ضاق ذرعا بعد 11 ايلول ب"مسايرة" الإسلام والمسلمين أولا في اوروبا نفسها، وثانيا خارجها. ويتصرف بتأنيب ضمير أمام الولايات المتحدة بهذا الشأن. وأقصى ما يذهب اليه هو حد التعددية الثقافية في إطار الهيمنة الغربية، أو تقسيم المسلمين والعرب إلى معتدلين ومتطرفين لكي يكون بالإمكان البدأ بالتعامل معهم. وقد وقع انتخاب حماس على أوروبا التي ربت الحوار الإسرائيلي الفلسطيني ورعته، ورعت الاتفاقيات من مدريد حتى أوسلو، وقوع الصاعقة. و 11 أيلول يضاف اليه انتخاب حماس هو أمر لا يحتمله مواطن مربع عادي تمثله ميركل ولديه وقت للتعامل مع القضية الفلسطينية مرة في العام ربما بعد ثاني زجاجة جعة وقبل ان يقلب ثالث محطة تلفزيونية.

وهنالك رغبتها الحادة للتميز عن شرودر.

 

لكن هذه كله لا يكفي لفهم فظاظة الأسلوب، ورفض أخذ أي مجازفة لإغضاب إسرائيل، والحذر من أي شي غير محسوب بحساب المصالح الفورية والمباشرة والباردة. إنه المواطن الصغير والمربع المنزوع روح الفكاهة الذي شكل مادة سخرية المفكرين والشعراء الألمان من هاينة وماركس وحتى أدورنو، واعتبروه ما يميزهم عن الفرنسيين والانجليز، كما اعتبرته هانا أرندت نوع المواطن الذي كان مستعدا لدعم النازية ما دام هنالك "زبدة على الخبز" بالعبارة الألمانية، أو على الأقل للتظاهر بعدم رؤيتهم، وهم يسوقون جاره اليهودي او الشيوعي او الاشتراكي الى المعتقلات. إنه المواطن المحبوس خلف الستائر، والذي يعتبر نوع الستائر في البيت موضوعا مصيريا في الحياة، ويعتبر الدقة دقة المواعيد لا غير، ويعتبر الروتين اليومي هو القداسة بعينها. وهوالذي بات يعرف العالم مؤخرا كسائح في جزر الكناري والبهاما وإسبانيا وإيطاليا وغيرها. ليس الألمان هكذا طبعا، ولكنه رمز الالماني الصغير الذي تمثله ميركل... وقد بات يحكم المانيا.

 

ليس هذا هو المواطن الذي تمرد وعارض وسجن في المانيا الشرقية وغيرها من دول اوروبا الشرقية، بل هو الذي صمت عن الحكم وتساوق معه وتسلق بجلد سميك وقدرة على التحمل الى درجة منصب سكرتيرة رئيس حكومة في ألمانيا الشرقية، كما كانت ميركل. ولكن هذا المواطن هو الذي حكم بعد التغيير، فقد انضم الى التذمر ثم الى التغيير لأنه غاضب ومسكون بالمرارة من مقارنة مستوى معيشته بمستوى معيشة ابن المانيا الغربية.

 

ميركل تأتي من المانيا الشرقية، ومن الأوساط الموصوفة أعلاه. والتركيبة: ديمقراطية مسيحية + المانية شرقية = سياسة ميركل هذه. وهي التركيبة التي شهدها الفلسطينيون في زيارة الإحراجات الكابوسية هذه.

 

ونضيف ايضا: شهدت أوروبا خلال العقد ونصف الأخيرين إضافة لانضمام المانيا الشرقية اليها انضمام عشر دول من الكتلة الاشتراكية سابقا. وهي دول لم تملك في يوم من الأيام سياسة خارجية باقل درجة ممكنة من الاستقلالية . فقد كانت تابعة للاتحاد السوفييتي السابق، وكانت وزارات الأمن والخارجية مجرد تكملة عدد في حلف وارسو. تغيرت هذه الدول، وقاد الانقلاب فيها إما نخب انتهازية من داخل الحزب الحاكم أرادت انقاذ نفسها في اللحظة الاخيرة بعد الانهيار السوفييتي، أو قوى ديمقراطية فعلا. ولكن في الحالتين عادت النخب القديمة للحكم. وقد حملت معها نفس العقلية السابقة: لا سياسية خارجية ولا سياسة أمنية، وحرصت على الانضمام الى حلف الناتو قبل الاتحاد الأوروبي. وقد تبنت بمعظمها سياسات أميركية مميزة نفسها عن الجيران الأقوياء، عن المانيا التي تكاد لا تملك سياسة خارجية عدا في أوروبا الشرقية، وعن فرنسا التي تتميز بأنها تصر على سياسة خارجية مستقلة.

 

ولألمانيا دور الدولة العظمى اقتصاديا وثقافيا في اوروبا الشرقية. وإذا رغبت بالاستمرار في لعب دور قيادي في أوروبا الشرقية، فلا بأس بالنسبة لها ان تتبع سياسة موالية لأميركا في القضايا غير المصيرية، مثل القضية الفسطينية التي بدأت تتحول الى قضية علاقات عامة تتوسل اعترافا أوروبيا حتى بوزراء حماس، لتكسب في قضايا مصيرية بالنسبة لها مثل شرق أوروبا.

 

ويضاف الى ذلك ايضا ان العديد من هذه الدول يعادي كل من كان يصادقه النظام القديم بما في ذلك العرب والفلسطينيون والتأمينات الاجتماعية ويتبع لبرالية اقتصادية متوحشة، وتوحشا لا مبرر واضح له في البراغماتية عديمة الأخلاق والروادع في العلاقات الدولية.