تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

من قصص قصاصي الأثر

2007-10-06

عزمي بشارة
 

قص الأثر او قيافة الأثر هو تعقب آثار الأقدام والخفاف والحوافر والاستدلال بما يتركه الإنسان من اثر لاستنباط صفات اخرى من صفاته او معرفة مكانه وتتبعه إليه. ويحسب العرب وخاصة أعرابهم، أنهم تفردوا بهذه المهارات الفطرية المشحوذة بالتجربة المصقولة بالحياة كضرورة موضوعية مشتقة من طبيعة الصحراء القاسية. فقصّاص الأثر رادار بدائي وجهاز تعقب وتنصت ودليل إرشاد للبحث عن الغزاة او الخاطفين. انه ضرورة امنية بدأت كضرورة حياتيه في البحث عن صيد او طريدة او فريسة او قافلة مرت. إنه تتبع هارب او تائه في بلاد بلا شوارع ولا مواقع ولا خارطة. 
 

وعند ذكر قصاص الاثر يخطر ببال العربي حذاقة الفارس، وفراسة الإعرابي وما يساعده من ملكات ومواهب فطر عليها بالعثور على إبل فقدت وبالتعرف على الناس عن بعد ومن استنتاج امور كثيرة من معطيات قليلة، كما تنبت الصحراء حياة من شحيح الماء. 
 

ويخطر ببال العربي مواهب بني مرّة قصاصي الاثر الاسطوريين في الجزيرة العربية الذين تجرأوا على خوض الربع الخالي قبل ان تحقق ذلك ادوات المدنية بعصور، وما زالوا يقتفون الاثر لصالح الشرطة مثل مشخص جنائي حتى تحولت الى مهنة. وما زال ابن الجزيرة يسمي قاص الاثر المري حتى لو لم يكن من بني مرة. 
 

وما ان حلت سينما هوليوود في محلاتنا ومعها قصص الغرب المتوحش حتى اقتنع العرب ان الهنود الحمر ايضا قصاصو اثر، وأن منظر الهندي الطويل الشعر الذي يكتفي بلبس الجزء العلوي او السفلي فقط من الزي الرسمي للجيش الاتحادي، وهو يقتفي آثار هنود آخرين امام الجيش الاتحادي وبيده رسن الفرس وبيده الاخرى يجس التراب او الرماد او يحمل حفنة تراب يشمها، لا يميز بعض المجندين البدو الباحثين عن المخربين في خدمة الجيش الاسرائيلي بعد عملية نفذت او بعد ثقب في سياج حدودي ينم عن تسلل وقع... إنها حرفة ترافق انقراض السكان الاصليين في خدمة من جاء ليحل محلهم. قصص قصاصي الاثر التي تقصدها قصصا مرة، ولكنها ليست قصة بني مرة من طلقاء البادية. 
 

ومن ضمن اعجاب المستوطنين الأبدي بالطبيعة والمكان يندرج اعجاب بسكان المكان إذا بقوا جزءاً من المكان ولم يتجاوزوه الى الزمان.. اعجاب بهم كجزء من المنظر. هذه رومانسية المستوطنين المعجبين بحالة السكان الاصليين البدائية والذين يعتبرون كل متطور حديث او مستحدث فيهم متمردا على طبيعته كجزء من المكان وعلى سيطرتهم على المكان. وقد اعتمر اعضاء منظمة هشومير العسكرية الصهيونية الاولى ما قبل الهاغاناه كوفية وتنافسوا في إتقان ركوب الخيل في جهد بيّن للانتماء الى المكان. ولكن اعجاب المستوطنين بالبدو دمج الرومانسية بالفائدة في مهنة قصاصي الاثر في خدمة المستوطنين ضد المتمردين من السكان الاصليين، ولغرض ملاحقة الفدائيين المتسللين إلى وطنهم، او الفلاحين المتسللين الى كرومهم وأراضيهم لجني ثمارها بعد النكبة، ولغرض الكشف عن العبوات الناسفة المزروعة. وما لبثوا ان تحولوا الى وحدة عسكرية هي وحدة الجشاشيم (جمع جشاش). ويمكن ترجمتها بتصرف صوتيا الى الجس، والعس، والعسس (الحراسة) ومن الجس جس النبض، وتحسسه وتعقبه. وبين الجس والتجسس نشأت قصص قصاصي الاثر في بلادنا. وهي قصص لم تقص، ولا تم الاقتصاص من أبطالها إلا بإهمال الدولة التي تشغلهم لمصائرهم مثل انصاف ليمون حامض عصرت وألقيت نفاية. 
 

تشرنقت أجسادهم خلف مجساتهم الناتئة، إذ قابلوا دولة المستوطنين وهم ما قبل المرحلة الوطنية او القومية رحلا او فرادى مرتزقين بما يتقنون من تقنيات وما يملكون من ملكات، فتخللت الدولة كيانهم حتى خلخلته، ودخلوا في كيانها دون ان يخلوا به. ومسخت هذه الخدمة صورتهم مسخا، وسحقت ذواتهم سحقاً، سخطتهم سخطا كما يقول فلاحو بلادنا، بلادهم. ولم يتبق منهم إلا اوعية جلدية تحملها هياكل عظمية خاوية، ومشاعر اقرب الى الغرائز المتنبهة... اشتدت وقويت اعضاء جسدهم الاكثر استخداما والمجربة في التقاط الرائحة التي تفوح من النعال وما يعلق بها مثلا، ونمت تلك الاعضاء المدربة بالشم والفحص والتدقيق وتجمعت في بؤرة يلتقي عندها العينان بالأنف وقد اتحدت في عضو جديد هو المجس، عضو هجين بين الخياشيم والمنقار ومجسات الوطواط وشارب القط... أما صاحبه فليس فيه من النفس سوى الشك والتريب وعدم الثقة والعداء للغريب، والاطمئنان لسيده فقط مثل أفضل صديق للإنسان. 
 

بات يكفي مقتفي الاثر ان يحصل على قوت يومه وأن يربت الضابط على قفاه ليجوب الصحاري والسفاري والبراري بحثا عن الهاربين والفراري، كما يسميهم الفلاحون في بلاده. ويكفي ان يسمع مديحا او اطراء من سيده لصلابته وشجاعته ليتحول الى مجس ورادار يتحرك مبتهجا بخدمة سيده مغتبطا بلقياه... وهو وإن هرول الى سيده بصمت لا يطيق ان يهينه جنود او ضباط او غيرهم ولا يتلقى من احد امراً، فهو معتز بنفسه وفيه كبرياء الكلاب الاصيلة التي لا تقبل امرا او اهانة الا من صاحبها وسيدها المباشر حتى لو كان اقل رتبة من غيره. 
 

اشتهر من قصاصي الاثر في بلادنا عاموس يركوني. الاسوأ والاكثر دموية بين قصاصي الاثر ذوي القدرات الأنفية الخارقة. ولمن لا يذكر، يركوني هو عبد المجيد المزاريب، عربي كان يعمل مخضرا قبل نكبة عام ,1948 والتقى في السجن قبل العام 1948 موشي ديان، أب الرومانسيين الصهاينة الذي يعشق الطبيعة ببداوتها، ويحقد على العرب بمدنيتهم، ويشعر بنقص تجاه الارستقراطية العربية. انضم عبد المجيد المزاريب الى العصابات الصهيونية، ثم تخلى عن هويته العربية دون ان يتهود دينا، وأصبح اسمه عاموس يركوني. وخدم كقصاص اثر في الجيش الاسرائيلي في ملاحقة الفدائيين. ثم اصبح ضابطا وقائد وحدة فرقة شاكيد العسكرية المعروفة بشراستها، والتي اشتهر عنها قتل اسرى الحرب المصريين في سيناء قرب العريش. ومع ذلك عندما توفي دفن خارج سور المقبرة اليهودية حتى لا تتنجس المقبرة بجثة احد الاغيار! 
 

كان بعضهم يقتفي أو يقص اثر الفدائي المتسلل فإذا وجد طريقه كمن له، ثم عاجله فغدره وقتله. ولكي يثبت انه قتل ليتقاضى من اسياده ثمنا معلوما كأن يقص أذني ضحيته ليأتي بالأذنين لا بالجثة كاملة إلى الضابط المسؤول فيحاسب على الاذن، مثل المحاسبة على الرأس. والمفارقة أني قصصت اثر قص الاثر لغويا فوجدت قص الاذنين متضمنا في معنى فعل قص اذا تعدى الى الإنسان، قصه تعني ايضا قص اذنيه. وكنت احسب هذا الكلام من قصص العرب الخيالية من نوع قصص الصيادين الكثيرة وطرفهم الخيالية، لم أتمكن من تخيل كيف يحمل قصاص الأثر القليل الكلام العديم الرحمة الاذنين: هل يعلقهما مثل طيور الحجل، أم يشكهما في سلك مثل الاسماك؟ أم يلفهما بخرقة او يضعهما في كيس ثم يرميهما على طاولة الضابط المسؤول؟ ولكن المبدأ كان صحيحا على كل حال يندق له قصص الزور كما يقال عند البكاء. كانوا يقصون الاثر والاذنين في بداية الخمسينيات بعد النكبة. والمقصُّ: ما قصصت به اي قطعت. قال ابو منصور: القصاص في الجراح مأخوذ من هذا إذا اقتصَّ له منه بجرحه مثل جرحه إياه او قتله به. الليث: القص فعل القاصّ إذا قصّ القصص، والقصة معروفة. ويقال: في رأسه قصة يعني الجملة من الكلام، ونحوه قوله تعالى: نحن نقص عليك أحسن القصص، اي نبيّن لك أحسن البيان. والقاصّ: الذي يأتي بالقصة من فصِّها. ويقال: قصصت الشيء اذا تتبعت اثره شيئا بعد شيء، ومنه قوله تعالى: وقالت لأخته قصّيه، اي اتبعي اثره، ويجوز بالسين: قسست قسّاً. والقصة: الخصلة من الشعر. وقصة المرأة: ناصيتها، والجمع من ذلك كله قصص وقصاص. 
 

... والمقص: المقراض، وهما مقصان. والمقصان: ما يقص به الشعر ولا يفرد... وقصّه يقصُّه: قطع اطراف أذنيه، عن ابن الاعرابي. قال: ولد لمرأة مقلات فقيل لها: قصَّيه فهو احرى ان يعيش لك اي خذي من اطراف اذنيه، ففعلت فعاش. وفي الحديث: قصَّ الله بها خطاياه اي نقص وأخذ. القص والقصص والقصقص: الصدر من كل شيء، وقيل: هو وسطه، وقيل: هو عظمه. وفي المثل: هو ألزق بك من شعرات قصِّك وقصصك... وفي حديث صفوان بن محزر: انه كان إذا قرأ: وسيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون، بكى حتى نقول: قد اندق قصص زوره، وهو منبت شعره على صدره، ويقال له القصص والقص... وفي حديث عطاء: كره ان تذبح الشاه من قصِّها، والله اعلم. والقصة: الخبر وهو القصص. وقصّ عليّ خبره يقصه قصا وقصصا: أورده. والقصص: الخبر المقصوص، بالفتح، وضع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه. والقصص، بكسر القاف: جمع القصة التي تكتب. وفي حديث غسل دم الحيض: فتقصه بريقها اي تعض موضعه من الثوب بأسنانها وريقها ليذهب اثره كأنه من القص القطع او تتبع الاثر، ومنه الحديث: فجاء واقتص اثر الدم. وتقصص كلامه: حفظه. وتقصص الخبر: تتبعه. والقصة: الأمر والحديث. واقتصصت الحديث: رويته على وجهه، وقص عليه الخبر قصصاً. وفي حديث الرؤيا: لا تقصها ولا على وادٍّ. يقال: قصصت الرؤيا على فلان اذا اخبرته بها، اقصها قصا. والقص: البيان، والقصص، بالفتح: الاسم. والقاص: الذي يأتي بالقصة على وجهها كأنه يتتبع معانيها وألفاظها... والقصاص والقِصاصاء والقُصاصاء: القود وهو القتل بالقتل او الجرح بالجرح. والتقاص: التناصف في القصاص.... 
 

وقص او قصاصة الاثر هي ايضا قيافة الاثر وقد وجدت في تقفي اخبار القيافة ومعانيها ما يدل ايضا على خصلة الشعر ولكن ليس كالقصة في مقدمة الرأس بل في مؤخرة الرقبة، اي قفاها، كما وجدت معنى رأس الاذن متضمنا هنا ايضا، اضافة الى جز الشعر مثل قصه اعلاه وإضافة الى اقتفاء الاثر واقتفاء الشبه وغيرها ويا لمحاسن الصدف: 
 

قوفُ الرقبة وقوفتها: الشعر السائل في نقرتها. ابن الاعرابي: يقال خذ بقوف قفاه وبقوفة قفاه وبقافية قفاه وبصوف قفاه وصوفته وبظليفه وبصليفه وبصليفته كله بمعنى قفاه. أبو عبيد: يقال اخذته بقوف رقبته وصوف رقبته اي أخذته كله، وقيل: أخذت بقوف رقبته وقاف رقبته وصوف رقبته، معناه ان يأخذ برقبته جمعاء، وقيل يأخذ برقبته فيعصرها... وقوف الاذن: اعلاها، وقيل: قوف الاذن مستدار سمِّها. والقائفُ: الذي يعرف الآثار، والجمع القافة. يقال: قفت اثره اذا اتبعته مثل قفوت اثره... ويقال: هو أقوف الناس. وفي الحديث: ان مجزِّزاً كان قائفاً، القائف الذي يتتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه. ويقال: فلان يقوف الاثر ويقتافه قيافة مثل قفا الاثر واقتفاه. ابن سيده: قاف الاثر قيافة واقتفاه واقتيافاً وقافه يقوفه وتقوَّفه تتبعه، أنشد ثعلب: 
 

محلّى بأطواق عِتاق يبيُنها على الضَّأن، أغبى الضأن، لو يتقوَّف الضّأن هنا: سوء الحال من الجهل، يقول: كرمه وجوده يبين لمن لا يفهم الخبر فكيف من يفهم؟ منه قيل للذي ينظر الى شبه الولد بأبيه: قائف، والقيافة: المصدر. وفلان يتقوّف عليّ مالي اي يحجر عليّ فيه، وهو يتقوفني في المجلس اي يأخذ عليّ في كلامي، ويقول قل كذا وكذا. والقفوُ: القذف، والقوف مثل القفو، وأنشد: 
 

أعوذ بالله الجليل الأعظمِ 

من قوفي الشيء الذي لم أعلمِ 

...وقوله تعالى: ق والقرآن المجيد، جاء في التفسير ان مجاز قاف مجاز الحروف التي تكون في اوائل السور نحو: ن. وألر، معنى ق قضي الأمر، كما قيل حم، حمَّ الامر، وجاء في بعض التفاسير ان قافاً جبل محيط بالدنيا من ياقوتة خضراء، وأن السماء بيضاء وإنما اخضرت من خضرته. ولم يستوطن الصهاينة على ما نعلم في جبل قاف الاخضر بعد، وربما يقتفون اثر ياقوتته التي ما زالت تصبغ لون السماء. ولم يعمل سكانه في قيافة الاثر، كما لم يستقو احدهم على الآخر بعد بأسطول اميركي بات يصعب لفرط اللغو والقوف اقتفاء اثر سبب وصوله شواطئ العراق المدمر. 

راجياً من الله ألا يتقوفني احد في هذا الكلام... اقول قولي هذا وأستغفر الله.

 

السفير