تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

من العرب من ازدادت قوته رغما عنه

2006-11-30

لا يكفي توجه أولمرت إلى الشعب الفلسطيني من "سدي بوكير" كيبوتس بن غوريون في النقب الذي عاش فيه حتى مماته ليحوله إلى بن غوريون جديد. فقد كانت خطوته هذه عبارة عن مناورة محكومة بعقلية وأسلوب المؤامرات الحزبية الصغيرة ضد الخصوم لم تتمخض إلا عن مداورة في الربع الخالي من السياسة. وفي خطابه غير التاريخي في هذا المكان التاريخي نطق أولمرت بأفكار أكل عليها التاريخ وشرب وفعل أيضا أمورا أخرى تدخل في باب الحاجات الطبيعية للبشر يمكن أن تنسب مثل غيرها للدهر، وحولناها نحن إلى التاريخ مثل الأكل والشرب.
 

فإعلانه أن إسرائيل سوف توافق على دولة فلسطينية متواصلة جغرافيا في الضفة الغربية ليس جديدا. وقد نطق به بكلمات شارون وبموجب رسالة الضمانات من بوش إلى الأخير التي تحولت إلى وعد بوش الإلهي لإسرائيل من نوع بلفور الذي ترجم وعد الله لإبراهيم بأرضٍ لنسله الذي سوف يتكاثر فيصبح مثل رمل البحر، ألا وهي أرض الميعاد. والمقصود هو دولة فلسطينية مقابل حق التنازل الفلسطيني عن حق العودة وعن القدس وحتى عن ضرورة انسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران 67. هذا ما يعد به أولمرت الشعب الفلسطيني، ولكن حتى هذا ليس مجانا. فلدى أولمرت شروط ليحقق الشعب الفلسطيني امتيازات هذا العرض السخي الذي يرفضه الشعب الفلسطيني أصلا. ومع ذلك نقول: حسنا، فما هي هذه الشروط؟ هنا بيت القصيد. وهو الذي جعل أولمرت يطرح أفكاره فجأة بدون مناسبة وفي هذا المكان. تتلخص الشروط بقبول الفلسطينيين بشروط الرباعية، وهي نبذ الإرهاب والاعتراف بإسرائيل والالتزام بالاتفاقيات الموقعة معها، حتى تلك التي لم تعد إسرائيل تعترف أو تلتزم بها. تمخض أولمرت فلم يلد شيئا.
 

إنه يتدخل إذا عبر هذا الخطاب في النقاش الجاري حاليا حول حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية.
 

ولكي نفهم ما المقصود علينا أن ندرك ماذا خططوا. والكل يعلم أنه قبل أن يخططوا للخطوات السياسية نفذوا الحصار الشامل الذي جعل حكومة منتخبة تسلم بضرورة تغيير نفسها. ولا بأس طالما أنه لا بد من مخرج من المأزق الذي وصل حد احتمال الصدام الفعلي إبان أزمة الرواتب. والحكومة مسؤولية، وهي مسؤولية في ظروف دولية معطاة. ولكن حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية ليست هدفا إسرائيليا طبعا. هذا صحيح. ويكمن الهدف في فرض شروط الرباعية كمقدمة للتفاوض واعتراف المقاومة بهزيمتها. ولذلك فإن الخطة تبدأ بتغيير الحكومة بناء على قاعدة سياسية جديدة.
 

وكما هو معلوم لم تقبل القيادات الفلسطينية التي تراهن على الضغط الدولي على حكومة حماس بوثيقة الوفاق الوطني إلا مرحليا وعلى مضض. وبرأيها المعلن فإن هذه الوثيقة وإن شكلت أساسا للوحدة الوطنية، فإنها لا تشكل أساسا حتى لبداية التفاوض مع إسرائيل... إنها "نون ستارتر" كما يقال في لغة التفاوض. ولكن الضغط الشعبي على الطرفين لتشكيل الحكومة استمر مقادا بالفطرة وبرغبة تجنب صدام أهلي، ولذلك لا بأس من اعتماد وثيقة الوفاق أساسا للتغيير الداخلي. وماذا مع إزالة الحصار، وهو الذي جعل حكومة منتخبة ترضى بالتغيير بما فيه تنازل من يقف على رأسها عن منصبه؟ لا شيء. يتم وعد حماس فلسطينيا بأن الحصار سوف يرفع حال تشكيل الحكومة.

ثم يتضح أن على حكومة الوحدة الجديدة أن تفاوض بعد قيامها على فك الحصار مقابل قبول شروط الرباعية. مع الفرق أنه في هذه المرة يدور النقاش داخل حكومة ذات تركيبة مختلفة، والجوع سيد الموقف واللقمة كادت تصبح بالفم، وسوف يقال أن حماس قطعت شوطا في المرونة والواقعية، ولم يتبق إلا مسافة صغيرة تفصلنا عن شروط الرباعية، فلم لا تقبل بشروط الرباعية أو بعضها، مثل الموافقة على الاتفاقيات الموقعة والالتزام بها؟ وسوف تلام حماس أنها برفضها هذا تفشل حكومة الوحدة ورفع الحصار من قبل جزء من الحكومة. ولكن هذه الاتفاقيات تشمل اعترافا بإسرائيل، هذا ما سوف يدعيه وزراء حماس، ولكنها سوف تكون حكومة ذات تركيبة أخرى. وكل من يرغب بتفكيكها من جديد سوف يحمل مسؤولية شق وحدة الصف من قبل الشعب الفلسطيني.
 

وإذا لم توافق حماس على ذلك بعد تشكيل حكومة الوحدة، وهي لن توافق، فسوف تتبع معها طريقة أخرى مثل المطالبة باستفتاء جديد، أو إعداد صفقة سرية مع حكومة أولمرت والإعلان عنها بعد أن تصبح جاهزة مع مزاياها وعرضها على الشعب الفلسطيني المحاصر في ظروف البؤس التي نعرفها على نمط ما جرى في أوسلو سرا قبل عرضه.
 

هذا سيناريو من يقبل بوثيقة الوفاق على مضض من أجل تشكيل الحكومة ووضع حماس في موقع دفاع عن النفس داخل الحكومة نفسها.
 

حكومة الوحدة الوطنية هي أداة لرفع الحصار والصمود لفترة طويلة، بالضبط لأنه لا يوجد حل عادل مطروح حاليا على الفلسطينيين.
 

وكما نستطيع نحن أن نحلل، كذلك أدرك قادة حماس هذا الموضوع. وكانت مصر صريحة معهم أنه لن يرفع الحصار قبل الاعتراف بشروط الرباعية. وأن على الحركة أن تتقدم خطوات أخرى وثيقة تجاوز وثيقة الوفاق للتوصل إلى حل وسط مع الأوروبيين والأميركيين. عند ذلك تم الإصرار على تجميد مسألة الحكومة ريثما يتم الحصول على وعد واضح برفع الحصار قبل تشكيلها مقابل معادلة سياسية من جملة واحدة واقعية لا تشمل الاعتراف بإسرائيل ولا التخلي عن المقاومة، هذا إضافة إلى شرط الاتفاق على المناصب والوزارات مع حركة فتح والقوى الأخرى.
 

هنالك إذا شرطان للتقدم نحو حكومة وحدة وطنية فلسطينية في الوقت الراهن، أولا تسلم وعد قاطع وواضح ومن طرف خارجي مسؤول برفع الحصار، والاتفاق على الوزارات داخليا.
 

عند هذه النقطة تحديدا وجه أولمرت خطابه المكنى خطأ مبادرة إلى الشعب الفلسطيني، كأنه يريد أن يظهر لهذا الشعب مزايا القبول بشروط الرباعية مقابل بؤس استمرار الحصار. لكي يضغط الشعب الفلسطيني أو على الأقل قواه الفاعلة المعنية بتسوية على قيادته. وانطلقت فورا أصوات أوروبية مجتمعة مع العرب في دولة ال"نوكيا" لم تنتظر لتهنئه على شجاعته وإبداعه الذي وصل حد نفخ الغبار عن أفكار شارون مقابل قبول شروط الرباعية، كما سمعنا أصوات فلسطينية متوقعة اعتبرت كلامه "إيجابيا ويصلح أساسا لبدء المفاوضات". وحبذا لو استخدم هؤلاء المصطلح الذي يسمعوه من الإسرائيليين "نون ستارتر" في وصف أفكار أولمرت هذه، فهي لا تصلح أساسا لأي تفاوض جدي.
 

المهم أنه في هذا الظرف تحديدا ورغم محاولة أولمرت أن يظهر بمظهر من يقرأ الخارطة الفلسطينية ويتدخل فيها لصالح "القوى المعتدلة"، إلا أن هذه "القوى المعتدلة" قادرة لو شاءت أن ترفض هذا التدخل لأنها أصبحت دون أن تدري أقوى من السابق. لقد قوتها المقاومة العراقية التي تعاديها بالفطرة، وقواها انتصار حزب الله الذي تسخر منه... لأن أميركا أصبحت أكثر حاجة لها بعد أن دخلت سياستها العدوانية الجديدة التي انطلقت بعد 11 أيلول طور الأزمة.
 

وعموما على الصعيد العربي نجد أن هذه القوى لا تفهم أن نفوذها قد تعزز رغما عنها، وما زالت تخضع لتأخر زمني "جيت لاج" من 11 أيلول، وكأن الولايات المتحدة ما زالت تعمل على قلبها أو إضعافها إحداث "فوضى ديمقراطية" في بلدانها، وأن عليها مقابل الرضى الأميركي عن شأنها الداخلي أن تقدم تنازلات في الشأن العراقي والفلسطيني وغيرها من القضايا القومية، وبالمجمل عليها أن ترضي إسرائيل. وفي الواقع فقد دخلت السياسة الأميركية طور الأزمة ولم تعد هذه بحاجة أن ترضيها بل العكس هو الصحيح، لقد أصبحت أميركا بأمس الحاجة لها، كما في أيام الحرب الباردة. ولكن هذه تمثلت شخصية الخادم أو "البتلر" الأكثر تعصبا لسيده مشغله والأكثر حرصا عليه ومعرفة لمصلحته منه هو ذاته. ولم تعد قادرة على تشخيص قوتها حتى عندما تمثل أمامها، وعندما تلوح قوتها الجديدة أمامها في مؤتمر أو اجتماع مع مسؤول غربي فهي تستمر بتلقي الأوامر متظاهرة بعدم رؤيتها لأن قوتها تربكها كأنها شبح. الضعف أمام أميركا بات يريحها، أما المواجهة أو النقاش أو الاختلاف مع أميركا فيدخلها في متاهات هي في غنى عنها.
 

منذ أن اتضح عمق الأزمة الأميركية في العراق، ثم عمق أزمة فرض المخطط الأميركي على لبنان بعد اغتيال الحريري وفشل محاولة إنقاذها بالعدوان الإسرائيلي على لبنان أصبحت أميركا تعيد النظر بضرورة ابتزاز الأنظمة الحليفة لها والعبث بمصائرها، وبالعكس أخذت تحاول إرضاءها بسبب ازدياد حاجتها لها كمحاور إقليمية، ولكن هذه الأنظمة تتجاهل أن هذا التغير يمكنها من تبني نبرة أقوى في التعامل مع أميركا، مثلا في قضايا مثل رفع الحصار الجائر على المناطق الفلسطينية المحتلة، فهنالك دول عربية قادرة على الضرب على الطاولة إذا أرادت لحث الأوروبيين والأميركيين على قبول نتائج الوفاق الفلسطيني كمبرر لرفع الحصار، وبإمكانها أن تحذر وتهدد بما ستكون عليه النتيجة إذا لم يحصل ذلك. ويستطيع بعضها حاليا أن يقدم نصائح لأميركا بشأن حماقة سياسة المواجهة مع سوريا وتجاهل رأيها ووجودها حتى في شأن يعد ضدها مثل المحكمة الدولية. فبغض النظر عن نتائج التحقيق تناقش هذه الأخيرة كأنها موجهة للضغط على سوريا، ومن الواضح أن سوريا ترفضها، ولذلك فهنالك من المهاويس من يحرض منذ اللحظة على المواجهة. 
 

وكل عاقل يعلم أن الوضع في العراق لن يستقر على استقلال حقيقي إذا لم تتفق دول المنطقة وأقصد تركيا والسعودية وإيران وسوريا على التعاون على دفع العراق للاستقرار مقابل انسحاب أميركي كامل وشامل، وعلى حلفاء أميركا أن يطالبوا بذلك، وعلى أميركا أن تقبل بتفاهم كهذا، لا أن تعرقله لكي يكون هنالك مخرج من المأزق في العراق.
 

ويستطيع طرف ثالث حليف لأميركا أن ينصحها بدفع حلفائها في لبنان إلى قبول فكرة الوحدة الوطنية، لا أن تدفع حلفاءها نحو المواجهة في لبنان بوعود كارثية مطمئنة أن كل شيء على ما يرام، ولا شيء تغير، وأن أميركا ماضية في سياستها نفسها.
 

بات بإمكان دول عربية حليفة أن تهمس ذلك بأذن أميركا، ولن يحصل لها شيء. 
 

ولكن إضافة للأنظمة التي لم تدرك بعد أنها أصبحت قادرة على ذلك بفضل المقاومة اللبنانية والعراقية والفلسطينية، هنالك أنظمة يستحسن ألا تنصح أحدا بشيء فهي سعيدة بمجرد أن أميركا تعيرها انتباها. ويبدو أن بعض هذه الأنظمة لم يتعود على نمط العلاقة الذي نعرفه عنها مع أميركا فحسب، بل طور مصلحة في بقاء هذا النمط من العلاقة. فمنها من بات يعتمد حتى اقتصاديا على بيع خدمات أمنية للأميركيين و باسمهم، ولم يعد يرغب بتعديل السياسة الأميركية، ومنهم من ربط نفسه بالسياسات العدوانية الأميركية تحديدا وغضب من نتائج انتخابات الكونجرس كأنه متطوع في حملة الحزب الجمهوري الانتخابية.
 

ومن هذه الدول من تعرف إلى قوته بخبث وصمت، ولكنه عقد العزم أن يستغل كل درهم فيها لوقاية من أي سياسة جديدة هي أفضل من قنطار علاج، فهو بدلا من أن يستغل وضعه الجديد لصالح الموقف العربي والقضايا التي تعاني منها الحالة العربية سوف يقدم طلبات قديمة خاصة به وبمصالحه، أو بعائلته وبمسائل متعلقة بتيسير وراثة الحكم في بلده مقابل حاجة الولايات المتحدة المفاجئة له بعد المآزق الكبرى. لسنا أمام أصحاب مشاريع يعتبرون الحكم أداة لتنفيذ مشاريع سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية لبلدانهم.

وهنالك من هو أعجز من أن يفكر بطريقة أخرى وبمصطلحات أخرى غير مزايا ومنافع الحكم للحكام. وهؤلاء سوف يخسرون، فلا يرضى أحد أن تبقى المنطقة على كف عفريت أميركي، خاصة بعد أن أدرك الجميع ما عدا هؤلاء نقاط ضعفه وأنه ليس كلي القدرة. وإذا لم تدرك ذلك القوى العربية المنظمة والمسؤولة ذلك، فسوف تنتقل المنطقة من كف عفريت إلى أكف عفاريت.