تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مزالق الوعي الإنتخابي

2005-12-22

في سياق استراتيجية شاملة لحركة تحرر كان من المفترض أن يستغرب كل عاقل، بل أن يستهجن قرار إجراء إنتخابات تمهيدية "برايمريز" لاختيار مرشحي حركة فتح لانتخابات المجلس التشريعي في الداخل الفلسطيني. ففي جعبة فتح طرق أخرى أكثر انضباطا لاختيار قائمة مرشحين. وحتى في أعتى الديمقراطيات ذات التقاليد وحتى بنظر أحزاب تاريخية تعتبر الانتخابات التمهيدية على مستوى القواعد الاجتماعية الواسعة بعد الاكتتاب لحركة سياسية هزة للنظام الحزبي قد تعرضه للخطر. وقد تراجعت عنها أحزاب تاريخية في ديمقراطيات برلمانية بعد أن جربتها لفترات كانت كافية لتهددها.
 

فهي بطبيعتها مكلفة، وتتيح الفرصة للمال وللإعلام والبروز الإعلامي لخدمة مرشح ضد آخر، خاصة وأن انتخابات بهذا الإتساع حتى داخل الحزب تصبح بحاجة إلى تمويل، وإلى إعلام وإلى شعبوية ومزايدات داخل نفس الحزب، بحيث يحتل منطق التنافس بين الأحزاب التنافس داخل الحزب ذاته. كما تتيح الإنتخابات التمهيدية "برايمريز" الفرصة لطمس حدود الأحزاب ولاختلاط الحزب بالعشيرة والحمولة على المستوى المحلي، اذ يجيش كل مرشح ما يستطيع من مكتتبين منتسبين موسميين للحزب لا علاقة لهم به وبنهجه وخطه لكي يقوي نفوذه داخله. وقد يشمل التجييش كما أسلفنا أفرادا لا يجمعهم بالحزب جامع بل قد لا يمنحوا الحزب حتى أصواتهم في الانتخابات ذاتها. ولذلك تخلت حتى أحزاب تاريخية كبيرة عن الإنتخابات التمهيدية واستبدلتها بالعودة إلى مؤتمر الحزب أو هيئات موسعة أخرى.
 

إذا كان التنافس بين أحزاب تنافسا بين مواقف فإن الإنتخابات التمهيدية لا تتيح الإختيار بناء على معيار أي المرشحين أفضل تمثيلا لموقف الحزب، بل هي تحيد الموقف تماما من معايير التنافس، كما تحيد المساواة في الفرص بين أعضاء وقيادات الحزب ذاته.
 

على كل حال يصلح الموضوع نظريا كمجرد مثل عن أن وسائل الإختيار بما فيها الإنتخابات التمهيدية ليست ديمقراطية بذاتها، بل تحدد مدى ديمقراطيتها بمدى خدمتها لقضية الديمقراطية أو بوجود أو غياب سياق ديمقراطي. ويصح أن نعتبر خطوات، مثل الإنتخابات التمهيدية، تبدو في سياق معين "سوبر ديمقراطية" إعاقة للتحول الديمقراطي في سياق آخر، مثلا إذا هددت بنية الأحزاب واستبدلتها ببنية العشيرة أو القبيلة.
 

وفي حالة فتح اختلط الحابل بالنابل فعلا. فمن ناحية لم يتم التحرر من الإحتلال بعد، ولم تنجز مهمات التحرر الوطني الكبرى، ولم تقم حتى دولة ذات سيادة، ولا حتى بالمفهوم الأميركي، ومن ناحية أخرى اختيرت طريقة إنتخابات تمهيدية تصلح لتنظيم، هو حزب سلطة ثابت تحول بعد مرحلة في الحكم إلى أشخاص يتنافسون على سلطة. هكذا اضطر حتى المناضلين إلى الإستعانة بحيثياتهم المحلية الاجتماعية ركيزة يستندون إليها في تنافس مفتوح بهذا الشكل، ومفتت إلى مستوى مناطق منقسمة على ذتها تقليديا وعشائريا.
 

من ناحية جرى الحديث عن حسم ديمقراطي بين أشخاص في نفس التنظيم الذي يحمل نفس البرنامج وحملت القوائم التي رتبت كـ"بلوك" إنتخابي نبرة او لهجة سياسية. ومن ناحية أخرى بدا أحيانا أن ما يجمعها هو الجيل أو الموقع أو التكتيك ضد الخصم المشترك داخل الحركة وأن السياسة أمر ثانوي. وهكذا تم في نظر الكثيرين إخفاء أكثر الأمزجة السياسية استعدادا للتسوية والمساومة في مرحلة شارون خلف ما بدا أحيانا الأكثر ميدانية والأكثر نضالية. ويبدو أنه لا تناقض بين الميدانية والمرونة في الإستعداد للتسوية. ولا تناقض بين البيروقراطية والتشدد في المفاوضات.
 

وتحالف الرئيس مع من يعتبرهم خصوما سياسيين لمجرد أنهم في الهيئات الرسمية التاريخية، وبدا كأنه يخاصم الأقرب سياسيا إليه في مسألة التسوية ويعترض على شركاء طريق في الجهد لضرب البنية الموروثة من مرحلة عرفات. ولا أحد يعلم أي الأمرين أكثر جدية؛ ما يبدو تحالفا أم ما يبدو خصاما.

ولم تسفر انتخابات فتح التمهيدية عن إنتصار "تيار" ضد آخر، ولا حتى الخارج ضد الداخل، أو القواعد من قيادات الإنتفاضة الأولى ضد الهيئات المركزية الموروثة من مرحلة ياسر عرفات بل أسفرت عن قائمتين سوف تسفران بدورهما عن حل وسط بعد تأجيل موعد الإنتخابات برغبة أميركية تقاطعت مع رغبة أخرى بالتأجيل ناجمة عن ضرورة توحيد الحركة.
 

ومن الواضح أن مشروع الإنتخابات ليس اختيار هيئات حركة تحرر بل تنافس على انتخاب هيئات حزب سلطة يتم فيها استنفار كافة الإنتماءات لغرض النجاح. وهو ليس حزب سلطة في دولة مستقلة، بل سلطة خاضعة لإيقاع المفاوضات الإسرائيلية.
 

لم تطرح في انتخابات فتح التمهيدية مسألة استراتيجية النضال ضد إسرائيل كأمر جوهري، بل كيفية إدارة سلطة تبدي ممانعة عينية في إطار انصياع عام لقواعد اللعبة التي تحفظها كسلطة. أما النهج النضالي فتبعثر إلى مجموعات مسلحة تبحث عمن يتبناها لغرض الإستمرار في نهج أصبح أفرادها أسرى له خارج العملية السياسية الإجتماعية الجارية، أو أصبحوا رهائن مطلب استيعابهم فيها بالتوظيف في أجهزة أمنية لغرض التوقف عن هذا النهج. وتقتحم هذه المجموعات ذاكرة الناس في احتلال مبان وعمليات خطف، إذ يخشى أفرادها الذي حملوا دمهم على أكفهم أن يطويهم النسيان في خضم أعراس تقسيم الغنائم الإنتخابية. ويصر البعض على تسمية هذه الظاهرة المأساوية ظاهرة فوضى السلاح. 
 

حسنا، لا بأس بالتسمية إذا انتبهنا أنها لا تبقي منهم إلا إزعاجا للإستقرار الإجتماعي. ولكن ماذا تطرح مؤسسات تنتشر كالفطربات ممولة من الخارج كبديل نضالي منظم مقابل هذه الفوضى؟
 

وليس مصير اليسار بأفضل من هذا المصير فهو لم ينجح في ترتيب بديل موحد مقابل هذه الحالة المأزومة. فهو أولا ليس حزب سلطة يتوحد دفاعا عن مصالحه قبل أن يخسرها. وهو ثانيا لا يطرح استراتيجية بديلة من منطلق معارضة نهج السلطة. ولا أدري لماذا تعتبر كل قائمة ليست فتح ولا حماس قائمة يسار؟!. فمن القوائم التي لم تنجح في تشكيل "قطب ثالث" قوائم يسارية الطابع، ومنها من هي أكثر إستعداداً للتسوية من فتح وأكثر يمينية من الناحية الإجتماعية وأكثر إعتمادا على حسن النية الأميركي في النهج الذي تمثل. وغالبية هذه القوائم تعارض الكفاح المسلح ولا تطرح نهج مقاومة بديل كما يفترض باليسار أن يطرح.
 

والحقيقة أن كلمة يسار تستخدم مؤخرا بشكل لافت في العالم العربي لوصف حركات ونهج متحالف مع السياسة الأميركية إقليميا ويتبنى سياسات إقتصادية نيولبرالية وليس فيها من اليسار الا العلمانية. وهي من سمات اليسار لا شك بذلك. ولكنها لا تكفي لتعريف موقف يساري. فهنالك يمين علماني.
 

والمهم أن إثنتي عشر قائمة تقدمت لخوض انتخابات المجلس التشريعي في كيان سياسي ليس دولة، وتتوقف عن التصرف كحركة تحرر. وليس بالإمكان التعامل مع هذه التعددية كتعددية حزبية ديمقراطية بل ظاهرة أزمة فصائل لم تحل محلها تعددية حزبية ديمقراطية بعد.
 

في هذه الظروف يعود الكونجرس إلى تذكيرنا بجوهر هذه اللعبة برمتها. فهو يستجيب لضغط اللوبي الصهيوني ويهدد السلطة الفلسطينية بوقف المعونات المالية إذا سمح لحركة حماس بخوض الإنتخابات البرلمانية، وهذا أصلا موقف شارون الذي يظهر فيه وحيدا في البداية. ويتبعه خافير سولانا مهددا متوعدا. ويبدو أن الاحتلال يحكم حتى إيقاع لعبة الإنتخابات. ولا شك أن رفض هذه القوى الدولية التي تتفاعل وتتجاوب مع إسرائيل في المنطقة مثل تفاعل سلسلة كيماوية لخوض حماس الانتخابات التشريعية لا ينبع من كون حماس غير ديمقراطية، بل لأنها تتنافى في نهجها الرافض للبنية الحالية ولنهج التسوية الحالي مع الكيان الذي تخوض فيه الإنتخابات. فهي تخوض انتخابات السلطة ولا ترغب بالوصول إلى السلطة في إطار تسوية تعارضها.
 

تشجع نفس القوى الدولية حركات إسلامية في دول عربية على خوض الإنتخابات وتعتبر الأمر حيويا لكي تقوم هذه الحركات بإصلاح موقفها تدريجيا من الديمقراطية ولكي يتم فرض نوع من الإصلاح على حلفاء أميركا غير الديمقراطيين. ومن يدري ربما تأمل تحالفا مستقبليا مع نمط من الإسلام "المعتدل سياسيا" والذي يتم التسامح مؤقتا مع تطرفه اجتماعيا.
 

في دولة مستقلة يجوز أن تسأل حماس وغيرها عن موقفها من الديمقراطية والمواطنة وقيمها قبل السماح لها بخوض الإنتخابات كي يضمن احترامها للديمقراطية وقيمها بعد فوزها من منطلق مبدأ الديمقراطية للديمقراطيين. ولكن ليس هذا هو السياق. فالناس تختار حماس لنفس أسباب اختيار الإسلام السياسي عربيا خاصة بعد العام 1967 يضاف إليه منذ نهاية الإنتفاضة الثانية اختيار نهج الممانعة وضد الفساد وكجزء من أزمة حركة التحرر الوطني وضد السلطة بعد أوسلو وضد الغرب وضد إسرائيل وغيرها من أسباب قوة الإسلام السياسي في الحالة الفلسطينية.
 

لقد حسبت إسرائيل في الماضي أن الضغط على المجتمع الفلسطيني بالقصف والعقوبات الجماعية مثلا في أعقاب كل عملية لحماس سوف يؤدي إلى ضغط مقابل من المجتمع الفلسطيني على حماس. وهذا ما يجوز أن نطلق عليه اسم "نظرية جباليا وبيت حنون" عند إسرائيل. فقد حاولت الأخيرة أن تشدد قبضتها ووطأتها على هذين التجمعين نتيجة لإطلاق قذائف منهما، وكثرت البرامج التلفزيونية الإسرائيلية والتحقيقات الصحافية عن تخلي سكان البلدين وتبرمهما من نشاط حماس وعواقبه ليتبين عكس ذلك في الانتخابات البلدية. ولا شك أن مصير التهديد الأميركي والأوروبي في الإنتخابات التشريعية لن يكون أفضل.
 

لم ينفضح زيف الموقف الأميركي من الديمقراطية في هذه التهديدات والخطوات. فالحديث هنا ليس عن ديمقراطية أصلا، ولا عن لعبة برلمانية ولا يحزنون. بل الحديث هو عن إمتداد لإملاء إسرائيل حدود وقواعد اللعبة السياسية الداخلية بما لا يتعارض وتصورها للتسوية وشروط تنفيذ هذا التصور.
 

ومن شروط تنفيذ هذا التصور ربط فئات كاملة من المجتمع الفلسطيني بأموال المعونات الأجنبية وبمتطلبات الأمن الإسرائيلي، وهدم بنية حركة التحرر الفلسطيني وتذرير السياسة الفلسطينية إلى تنافس على مناصب قبل التحرير وقيام دولة مستقلة، وإلى تنافس على وكالة حصرية عن التسوية. وهذا ما يجري حاليا.