تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مبادرة السلام وفقدان المبادرة: بين أولمرت وتشيني

2007-05-16

عزمي بشارة

 

يدعي أولمرت أن الزعماء العرب لن يسمعوه يقول كلمة "لا" لمبادرة السلام العربية، وما عليهم إلا أن يجتمعوا به ويشرحوا له المبادرة. فـ"مانيوال" يدوي من نوع: "كيف تقرأ مبادرة السلام العربية" لن يفي بالغرض. يجب أن يشرحوا له المبادرة شخصيا. وعندها سيعطيهم هو درسا في "كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس"، وكيف ترفض دون أن تقول لا. فهو يقول: إن حق العودة هو عائق يجب التخلي عنه لإزالته من طريق السلام، وأن "القدس الموحدة" هي أمر مفروغ منه بالنسبة لإسرائيل، كذلك فإن الإصرار العربي على حدود 1967 تشكل مشكلة. لاحظ انه لا توجد كلمة "لا" واحدة في كل ما قيل.
 

والحقيقة أن الأمر لا يحتاج إلى تحليل، فقد رفض أولمرت مبادرة السلام العربية ألف مرة، قبل أن يصر العرب على عرضها من جديد، كما أنه رفضها عمليا في فعل يقطع قول كل خطيب بعد إعادة طرحها، وذلك عندما قرر تخصيص مليارد ونصف المليارد دولار لتعزيز جهود تهويد القدس. هذه خطوة أهم من أي "لا" شفوية. فحتى لو قال "نعم" لمبادرة السلام العربية واتخذ مثل هذا القرار يجب أن يعتبر العرب هذه الـ"نعم" كأنها "لا"، فكم بالحري وهو يقول لا..
 

ومع ذلك هنالك من لا يريد أن يسمع كلمة لا حتى عندما تقال. تدوي في أذنه ويتجاهلها لأن استراتيجيته تقضي بـ"تحريك عملية السلام"، فهذا على ما يبدو الأمر المتاح الوحيد حاليا. الأمر الوحيد الذي يتيحه الواقع حاليا هو ليس حلا واقعيا، كما جرت العادة على القول ضد المتطرفين، بل لا- حل واقعي، أو عملية سلام مستمرة. فإذا كان عدم الواقعية يعني عدم قبول الحلول، فإن الواقعية باتت تعني قبول اللا- حلول، أو قبول عملية سلام دائمة، على وزن الثورة الدائمة، دون حل.
 

تحتاج الدول العربية المعنية إلى موهبة لتضع نفسها في مواقف من هذا النوع في مرحلة فشل السياسة الأميركية في المنطقة العربية والطفرة في أسعار النفط وحالة حرب الكل ضد الكل في إسرائيل بانتظار تشكل الخارطة السياسية من جديد على أنقاض "كاديما".
 

حلفاء أميركا يقبلون بعملية سلام ويتمسكون بمبادرة سلام رفضتها إسرائيل محولين المبادرة إلى موقف ثابت، أي متنازلين عن مواقفهم السابقة، وهم يأملون فقط أن يهدئ هذا المسعى هذه الجبهة أو يحيدها في نوع من العلاقات العامة عن الجبهات الأخرى المفتوحة. فحلفاء أميركا في المنطقة قلقون ومرتبكون بخصوص سياسة أميركا في العراق وإيران. وهم يتمنون في الواقع عودة السياسة التي اطلق عليها في زمن كلينتون اسم " الإحتواء المزدوج" مع فارق وجود القوة الأميركية المباشرة حاليا. وهذا شبة مستحيل في الوضع الراهن. فجأة يسمحون لأنفسهم بتمنية النفس، أي بعدم الواقعية.
 

جاء تشيني ليحتوي أصحاب المواقف القلقة، وليهدئ من روعهم ويطمئنهم أنه لن تكون ضربة لإيران دون معرفتهم ودون أخذ مصالحهم الأمنية بعين الاعتبار، وأنه لن تكون صفقة مع إيران تهمشهم وعلى حسابهم. وهذه وعود مستحيلة وغير واقعية بالطبع.
 

كان هنالك تقارب أميركي إيراني لفترة ما في دعم حكومة المالكي، وقد أدى هذا التقارب إلى ابتعاد مملكة سعودية محرجة عن هذه الحكومة العراقية الإيرانية الأميركية ، ابتعادا يؤهلها للعب دور "ناطق باسم السنة" في مرحلة لم يبق فيها إلا محاولة وضع حاجز طائفي بين المقاومة والجماهير العربية. ومن غير الممكن دعم حكومة المالكي وتمثيل "مصالح السنة" في نفس الوقت، بما فيهم "سنة العراق". وهنالك مشكلة متعلقة بالسياسة الاميركية التي تهمش السنة في العراق منذ يوم الاحتلال الأول.

وبموجب كافة الصحف الأميركية الممكن متابعتها (أنظر واشنطن بوست ولوس أنجلس تايمز 12 أيار/مايو كمثال) يحاول تشيني عبر زيارته جسر الهوة بين حكومة المالكي من جهة والسعودية وحلفائها من جهة أخرى لغرض تطويق التأثير الإيراني في العراق. وبموجب نفس الصحف الأميركية حاول تشيتي بث بعض الواقعية بإفهماهم أنه من غير الواقعي توقع تغيير المالكي حاليا، وأنه لو جاء علاوي مثلا فلن يكون وضعه أفضل.
 

بالنسبة لحلفاء اميركا فإن العلاقة الأميركية الإيرانية حبلى بخطرين. خطر ضربة أميركية على إيران وخطر صفقة مع إيران. فكيف وصلت دول بهذا الحجم والغنى في أوج الأزمة الأميركية الإسرائيلية في المنطقة إلى وضع تجد نفسها فيه متضررة من صفقة إيرانية أميركية، ومتضررة من حرب أميركية إيرانية ايضا. كيف وصلت هذه الدول إلى وضع كهذا؟ لا بد أن خطأ وقع في مكان ما على الطريق بين التخطيط والدهاء والحساب. ويبدو أن المشكلة كامنة بعدم وجود سياسة ومشروع خاص بها فهي متأثرة أكتر مما هي مؤثرة. والوضع الطبيعي للمفعول به أن يجد نفسه متضررا دائما.
 

إيران تريد تعهدا ألا تكون هنالك ضربة عسكرية أميركية ضدها، وتقبل مكانتها الجديدة كدولة هامة، ومنتج طاقة نووية، والتسليم ولو المحدود بتأثيرها على العراق. الولايات المتحدة ترغب بتجميد التخصيب ووقف النشاط الإيراني "الذي يمس باستقرار العراق والمنطقة" باعمال تتعارض مع الاستراتيجية الأميركية...لقد عرضت إيران سابقا هذا النوع من الصفقة عام 2003 ولكن الولايات المتحدة رفضتها في حينه. والآن تسعى هي إليها.
 

في الواقع هنالك تصريحات نارية من بوش وأحمدي نجاد وحرب نفسية دائرة. ولكنها ليست نفسية فقط فأميركا تعد العدة لعدوان، ونحن لا نعرف إذا كان هذا الإعداد هو أيضا جزء من الحرب النفسية. كما لا نعرف هل هنالك تناقض بين خطاب تشيني الناري من على ظهر حاملة الطائرات في الخليج والقادم من عصر آخر كأن الحرب على العراق لم تقع ولم تفشل، وبين نشاط الخارجية الأميركية التي تعد للقاء مع إيران في بغداد، أم انهما يلعبان دورين منسقين: دور الشرطي الجيد والشرطي السيء في التحقيق؟ 
 

حتى لو كان هنالك خلاف فعلي وليس مجرد توزيع أدوار بينهما فثمة إدارة ورئيس يديران المشهد، والأرجح أن هنالك تنسيق لابتزاز تراجع إيراني، ولا ينقص بالطبع من يدرس كيفية التصرف الأميركي لاحقا بموجب الرد الإيراني...فرضوخ إيران يفرض خطوات تختلف عن تحديها الضغط الأميركي. وفي الحالتين لا يوجد تخطيط عربي لكيفية التعامل مع صفقة أو تصعيد. فربما تكون المشاعر مع التصعيد الأميركي ضد إيران أما المصالح فلا تحمد نتائجه، والمشاعر والمصالح ضد صفقة أميركية إيرانية.
 

ونحن قادرون ان نتخيل أن تستقل هذه الدول بإرادتها على الأقل في منطقة بعيدة عن الحساسيات حتى مع إيران مثل رد على رفض مبادرة السلام الإسرائيلية تلتقي فيه المحاور العربية بعودة إلى الموقف العربي الأصلي وليس بالتمسك بـ"عملية السلام"، أو اتخاذ موقف حازم من المسألة اللبنانية يضع السلم الأهلي في هذا البلد فوق كل اعتبار. في مثل هذه الحالة يصبح لديها مشروع مستقل عن الولايات المتحدة وعن إيران بحيث يمكنها من تحديد مواقفها من سياستهما في لبنان بموجب مشروعها هي. فلماذا لا تتخيل هي أن تبادر في مكان آخر الى خطوات غير خاضعة للعبة الآخرين؟ يبدو أن الإجابة على هذا السؤال هي نفس الإجابة على السؤال أعلاه: كيف وجدت نفسها قلقة لأنها متضررة من كافة الخيارات المطروحة على أميركا وإيران.