تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كل هذا الخراب

2006-09-07

ربما خطر مبنى التوأمين ببال أعداء الولايات المتحدة في السابق، ولكن أن يخطر الشيء بالبال أمر، وان ينفذ أمر آخر تماما. أن يفكر المرء باختطاف طائرة أمر وأن ينفذه أمر آخر، وأمر مختلف عن كليهما أن يخطط سنوات وأن يتعلم الطيران ليقود طائرة بركابها إلى داخل مبنى التوأمين... ثم كل هذا أمر وأن تفعل ذلك أربع مجموعات بشكل متزامن وبدقة وبمنهجية كهذه أمر آخر. وكل هذا ضد الدولة الوحيدة في التاريخ حتى يومنا التي تجرأت على استخدام السلاح النووي ضد مدن مأهولة، ضد الإمبراطورية ذاتها. إنه حدث تاريخي ذو أبعاد كونية. ولو فكر أي إنسان عاقل بنتائجه الكارثية لما أقدم عليه. ومن هنا عدميته. أذكر أنني كتبت في ذلك الأسبوع حلقتين تحت عنوان: "كاميكازا كحالة من فقدان المعنى".
 

غير هذا الحدث التاريخ. وليس فقط لان هنالك من اكتشف في الصدام بين جسده وإرادته وبين المنتجات الحديثة مثل الطائرة ووزنها وسرعتها وخزانات وقودها والمجتمعات الجماهيرية المكتظة وناطحات السحاب هذه القدرة التدميرية، بل أيضا لأنه منح الولايات المتحدة فرصة لكي تقسم العالم كما تريد، ولكي تحول نظريات امبريالية سائدة إلى نبوءات تحقق ذاتها حول صراع بين خير وشر يلتقي سرا في حالة اللبراليين، وعلنا في حالة المحافظين، مع الصراع بين ثقافات.
 

بعد هذه الجريمة تغيرت أميركا بشكل جذري، تغير "نمط الحياة الأميركي"، ولكن التغير الكارثي الذي أحدثته أميركا في العالم العربي أكبر بكثير. لقد صدرت كل هذا الخراب في خمس سنوات. 
 

ولا نعتقد أن الذين اختاروا 11 أيلول وأخذوا جيلا عربيا كاملا رهينة جنون العداء المجرد المطلق، رهينة تقسيم العالم بين خير وشر، قد عرفوا أن هذا سيمنح رئيس الولايات المتحدة فرصة خطابية سنوية لطرح كل مشاريعه بعد مقدمة عن هذا الحدث عير الافتتاح السنوي لدورة الأمم المتحدة في أيلول. 
 

وإذا كان تفكيرك يقودك إلى الاعتقاد أن من قاموا بتنفيذ العملية الكارثة في منهاتن ليس بعيدا عن مقر الأمم المتحدة هم نتاج العولمة وأحد وجوهها المتعددة فسوف تدرك كم هو عالم مثقل بالرمزية والرموز.
 

إذا كنت عربيا وديمقراطيا في الوقت ذاته تعتز بثقافتك العربية الإسلامية أو على الأقل لا ترى سببا لتخجل بها، خاصة في فهمك أنت غير الصنمي لها، وإذا كنت تعتبر نفسك أكثر تقدمية وديمقراطية وتنورا من المحافظين الجدد، فسوف تحتاج إلى جهد غير إنساني تقريبا لكي ترى معنى في أي عمل سياسي واجتماعي في المنطقة العربية، بعدما توزعت فيها الخيارات بين أميركا وعملائها المتلبسين بالديمقراطية حين يحلو لهم فقط من جهة، وبين أصوليين وسياسات هوية من مختلف الأنماط من جهة أخرى. إن أخطر ما يجري منذ 11 أيلول هو استقطاب بين هيمنة أميركية وأصوليات تهمش النضال والعمل والتفكير والسعي من أجل حياة أفضل للفرد كجزء من مجتمع وكمنتم للإنسانية، ومن أجل سعادة البشر كمجتمعات وطنية وكأفراد في سياقات ثقافية مختلفة لا تراتبية تحكمها من ناحية القيمة. 
 

وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر على إدارة أميركية تستند إلى مصادر فكرية سياسية ثلاثة. وطبعا نحن لا نقصد هنا القواعد الاقتصادية الاجتماعية للنظام في أميركا، فهذه أكثر تنوعا بكثير من أن تحصر في ثلاثة. نقول ثلاثة مصادر فكرية سياسية: أولا المحافظون الجمهوريون الواقعيون الذين يميز وجودهم أي إدارة جمهورية منذ نكسون وريجان، ويمثلون موقفا نافيا للبرالية داخليا، وعسكرتارياً تدخلياً عدوانياً خارجيا، طبعا ضد الشيوعية وحلفائها في حينه. ولكن العدو الخارجي انحل وضاع في فترة جورج بوش الأب ثم في فترة كلينتون، وجاءت أحداث 11 أيلول في خضم البحث عن صورة العدو العالمي الجديد ليستبدل مملكة الشر الريجانية. ليس هؤلاء من نمط المحافظين التقليديين الذين يعارضون التدخل في الخارج، ويؤكدون على انكفاء أميركا في قارتها وراء الأطلسي، ويعارضون تقوية المركز الفدرالي عموما على حساب الولايات. 
 

فأولئك محافظون من نوع آخر قديم لم يعد ممثلا بقوة في السياسة الأميركية، فإضافة إلى تقادمه في مقابل تطور الإمبراطورية وسياساتها الخارجية، ينفر بحكم تعريفه من العمل السياسي المؤثر في العاصمة. وثانيا، المحافظون الجدد، وهم نتاج الإمبراطورية وعالميتها، ونتاج مرحلة ما بعد الحرب الباردة. إنهم راديكاليون، أي ليسوا محافظين في الواقع، بل ينظِّرون لسياسات محافظة بأدوات ولأهداف يعتبرونها ثورية، إنهم يدافعون عن تصدير الديمقراطية والقيم التي يعتبرونها كونية ولكنهم يسخرونها كأداة للسيطرة على العالم. وهم يدعون إلى التحرر من فترة "الوضع القائم" في ظل التوازن الدولي والذي دافع عن أنظمة غير ديمقراطية فقط لأنها في صالح المعسكر الرأسمالي ضد المنظومة السوفييتية، أو خوفا من الردع السوفييتي.

مع انتهاء هذه المرحلة لم يبق في نظرهم ما يبرر هذه السياسة. إنهم يدعون أميركا أن تتصرف كامبراطورية فعلا، وألا تتخلى عن واجباتها الأممية كشرطي لهذا العالم، يدعونها إلى التصالح مع قوتها واستخدامها بحرية وبشعور بالرضا وعدم الخوف من قوتها، والتحرر من عقدة فيتنام، عقدة أهلهم. وهم يعارضون النسبية الثقافية التي يتبناها محافظون واقعيون وديمقراطيون في الوقت ذاته ولأسباب مختلفة. ولكنهم يلتقون معهم في الموقف السياسي مما يجري في العالم العربي والإسلامي. وثالثا، الكنائس الإنجيلية الخاصة المحافظة الراديكالية والتي تلعب دورا سياسيا ضد اللبرالية داخل أميركا ومن أجل التمرد على ثقافة الشاطئين، الغربي والشرقي، المنحلة في نظرهم، ولتأكيد هوية أميركا كهوية مسيحية بروتستانتية، ومنها أيضا الأمزجة والتيارات المسيحية الصهيونية التي تؤسس ثيولوجيا سياسية تطابق بين وظيفة أميركا والشعب التوراتي، كمصادرة أميركية لدور أمة المؤمنين وشعب الله المختار، وثيولوجيا استيطانية مستندة على العهد القديم وتفسيرات مختلفة لأرض الميعاد والقدس وصهيون تتواصل مع التاريخ الأميركي إلى درجة غيبيات من نوع التحالف مع إسرائيل للتعجيل في قدوم المسيح ونهاية التاريخ. وتتعصب هذه الكنائس وتؤسس لمزاج يتعصب لإسرائيل ولوجودها كخير مطلق أكثر من تعصب إسرائيل لذاتها، وتعتبر هذه الكنائس أعداء إسرائيل أعداءها إلى درجة شيطنة الإسلام والتحريض عليه وعلى نبيه علنا.
 

ولا شك أن عناوين وشعارات "الحرب على الإرهاب"، ومن "ليس معنا فهو ضدنا"، و"سوف نتعامل مع الدول التي تأوي الإرهاب كما نتعامل مع الإرهاب" في أعقاب 11 أيلول هي نتاج تفاعل التيارات الثلاث. وقد شكلت قاعدة تلتقي عليها التيارات الثلاثة غير المنسجمة في الواقع في قضايا أخرى، فلا شيء يجمع المحافظين الجدد، ومعظمهم شباب علمانيون لبراليون فيما يتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة ومنهم يهود، مع المسيحيين المتطرفين، سوى هذا العداء للإسلام وسوى"الحرب على الإرهاب" كحرب على تنظيمات ودول إسلامية تعتبر معادية لإسرائيل أيضا. ولا شيء يجعل محافظا واقعيا يتحمس لحرب على تنظيمات من نوع القاعدة، إذا لم تؤد هذه الحرب إلى تصفية أنظمة مناهضة للهيمنة الأميركية السياسية في المنطقة وتقف حائلا بينها وبين فرض هيمنتها على منابع النفط.

لا شك أن المحافظ الأميركي يعرف أنه بحاجة إلى صورة العدو لغرض تعريف الإمبراطورية لرسالتها التاريخية، ولكنه يرى معنى لذلك فقط إذا كانت له نتائج عملية وآثار واضحة على السياسات.
 

أما إذا جاء نشر الديمقراطية بذاته تهديدا لمصالح أميركية فلا بد من توقف المحافظ الواقعي هنيهة والتفكير. فخلافا للمحافظ الجديد لا يحقد المحافظ الواقعي قيميا على أنظمة حليفة لأميركا ولكن غير ديمقراطية. وهو لا يعتبر تحطيمها، حتى لو لم يوجد بديل، أمرا ايجابيا بحد ذاته، بل هو يفضل العودة إلى تحالفات مع أنظمة قائمة من نوع تحالفات الحرب على الشيوعية وعنونتها بالحرب على الإرهاب على انتخابات ديمقراطية تأتي ببديل معاد لأميركا.
 

كان بإمكان أي فرد عاقل أن يدرك انه لا يمكن بوسائل حربية قتالية تشمل حاملات طائرات وقوات وإنزال واحتلال إعلان الحرب على ظاهرة تتألف من: شباب لا وطن له، جاهز للاستشهاد في أي مكان، ويجد معنى في الموت إذا ألحق موته ضررا بأميركا، منشؤه في دول حليفة لأميركا لا تريد ولا تفكر أميركا بمحاربتها، يستخدم جسده وعقله كأداة معطوفا على منتجات التكنولوجيا الحديثة ويحولها إلى أدوات قتل.
 

لا توجد طريقة عسكرية لمحاربة مثل هذه الظواهر، ولا يوجد مكان لملاقاتها كما تلتقي الجيوش ولا حتى في حرب عصابات. وعندما أصر الأميركيون على العسكر والقتال كما في فيتنام مثلا متجاوزين العقدة، وجدوا أنفسهم يحاربون دولا لا علاقة لها بالظاهرة ونادرا حتى ما شكلت منشأ لأفرادها، بل وغالبا ما تضررت منها قبل الولايات المتحدة ذاتها. لقد وجدت أميركا نفسها تطبق أجندات قديمة تحت عناوين جديدة فأضعفوا الدول الوطنية وساهموا فقط في نشر الظاهرة التي يفترض أنهم يحاربونها إلى أماكن لم تكن معروفة فيها من قبل. لقد حولوا الثقافة، الدين، وسياسات الهوية إلى مسرح الصراع، فعمقوا من دور ورسالة الأصوليات...كأنها نبوءة تحقق ذاتها بقوة السلاح. 
 

دار في الدول العربية في السبعينيات نقاش بين المؤسسة الدينية وتيار الإخوان المسلمين وفقهائه من جهة، وبين الحركات التكفيرية من جهة أخرى. والأخيرة إضافة لتكفيرها مجتمعاتها المحلية الإسلامية كمجتمعات جاهلية لا تحكم بما أنزل الله ولا تسير حسب منهاج الشرعية باطنا وظاهرا لم تعترف برابطة وطنية أو قومية واعتبرت الجهاد فرض عين... إلا أنها تميزت جميعا بأنه محلية ذات طابع وطني رغما عنها، ورغم إنكار جزء منها للرابطة وللتاريخ الوطني والقومي واعتباره تاريخا جاهليا لا يجوز الاعتزاز به. 
 

أما ظاهرة عولمة الجهاد ضد الكفار، كما شهدناه في نيويورك ولندن ومدريد وبالي فلم يكن ممكنا أن تنشأ إلا في كنف العولمة وكجزء منها، وكان صراع المعسكرين العالمي وتسييس الرابطة الإسلامية الدينية العالمية، ثم استخدامها فيه من قبل معسكر ضد آخر، أو ضد حركات قومية معادية للاستعمار في العالم الإسلامي هو الرافعة التاريخية لهذا التطور الهام باتجاه عولمة هذه الهوية كهوية سياسية، والتي تطور حاليا ديناميكيتها الداخلية. وكانت المحطة الأولى في هذا التطور التحالف مع أميركا ضد التيار القومي العربي في الستينيات، والمحطة الثانية والأهم في هذا التطور هو في الصراع بدعم أميركي ضد السوفييت في أفغانستان التي كانت بالنسبة لبلورة الحركات الجهادية الأممية ما كانته اسبانيا الحرب الأهلية بالنسبة للحركات الشيوعية الأممية.
 

ولكن الرافعة الاجتماعية التي تجهز الناس لمثل هذه التطورات وتجعلهم قادرين على خوض التجربة واستنتاج نتائج معينة منها هي الأكثر أهمية من التطورات التاريخية المباشرة، لأنها تحدد طريقة التفاعل مع الأحداث التاريخية. وفي حالة العنف المعولم ضد أميركا والمجتمعات الغربية فإن "فرانشايز" التنظيم العالمي الجهادي هو الوجه الآخر لمجتمعات مستهلكي مكدونالد وكوكا كولا، و"فرانشايز" وكلاء توزيع الديمقراطية الحصريين وغير الحصريين ووكلاء توزيع ثقافة هوليوود وغيرها. 

لا يمكن تصور نشوء تنظيمات عدمية من الناحية الوطنية والقومية تضع لنفسها مهمات أممية دونكيشوتية في الصراع ضد الغرب و"الصليبية الجديدة" وضد "مجتمعات الكفر والاستكبار" دون العولمة الثقافية. العولمة الثقافية سابقة على الإرهاب العدمي المعولم الكوني. وهو يستخدم نفس أدوات إنتاجها المادية مثل البث المباشر والانترنت وإنتاج وتصدير الحاجات الاستهلاكية، وهي تنشأ عن استخدام أدوات إنتاجها الروحية والرمزية وأقصد إنتاج الصور images والأفكار وتصديرها وتقليدها وإنتاج الحاجات الروحية والثقافية وتصديرها وتقليدها. إنها جزء لا يتجزأ من عملية العولمة التي تعمم الحاجات الاستهلاكية ولا تعمم إمكانية سدها، وتعمم قيم الديمقراطية والحرية والعدالة ولا تعمم إمكانية إنتاجها، وتعمم الثقافة الجماهيرية ولا تعمم العلوم والتنوير والتجربة التاريخية السابقة عليها.
 

ولذلك لم تجد أميركا ما تحاربه خارج الاستعارة، والظاهرة التي تحاربها هي جزء من حربها ذاتها. وفي الواقع لم تحارب أميركا سوى دول، وحركات وطنية إسلامية لم تنفذ عملية واحدة في أوروبا أو أميركا، وقامت على أساس مناهضة الاحتلال، بل تطورت في صيرورة معاكسة لتنظيم القاعدة: من أممية إسلامية إلى تنظيمات وطنية هي في الواقع تنظيمات مقاومة مثل حزب الله وحماس. نقيض القاعدة. ولأنها تنظيمات وطنية فهي قادرة على التفكير بالمجتمع وقضاياه وإصلاح ذاتها للتمكن من المطالبة بإدارته. ولديها كحركات سياسية مرجعية دنيوية هي قواعدها الشعبية. إن الظاهرة الخطيرة الثالثة التي نشأت نتيجة للحرب الأميركية على الإرهاب هي رمي كل هذه التنظيمات والحركات في سلة واحدة مع القاعدة وغيرها، إنها تترجم كل شيء للغة أميركية لتفهمه. وباللغة الأميركية الرسمية، كل مسلم وكل إسلام ليس إلى جانب أميركا، حتى ولو كان إصلاحيا وديمقراطيا ومنتخبا، هو عدو لها