مقدمة مألوفة ومملة لا بد منـها, فالتكرار مفيد في هذه المرحلة: بعدما اعلن شارون في ايلول (سبتمبر) 2001 تأييـده إقامة دولة فلسطينية, وفي ايار (مايو) 2003 معارضته مواصلة احتلال شعب آخر, وأذكِّر بأنه لم يقل ارض شعب آخر, يعود شارون للمرة الثالثة في تشرين الثـاني (نوفمبر) 2003 ليدير الأزمة ويتفنن في اضاعة الوقت وتنفيس الضغط الى ان تبدأ الانتخابات الاميركية, ولا يعود أحد يذكر احداً. ويتعرض شارون لضغط خارجي وداخلي لتحريك الوضع السياسي, وحتى حزب العمل استعاد انفاسه بعد كامب ديفيد طارحاً مبادرة سياسية تتألف من افكار عامة سياسية لا تختلف في الجوهر عما طرح في كامب ديفيد. فما كدنا نتخلص من التعجب من عادات الناس الاستهلاكية الاستعراضية التي حوّلت شهر الصيام الى شهر الطعام, كما يبدو على الأقل, حتى تبين أنه شهر مبادرات السلام. ولا بأس من التوقف عند المبادرات المختلفة التي تطرح بدائل تفكك مبادرة السلام العربية, ولا أمل لها بالتحقق في عهد شارون, فتكتفي بخفض سقف الموقف العربي والفلسطيني قبل التفاوض.
لم يغيّر شارون موقفه السياسي الرامي الى الفصل الديموغرافي مع الفلسطينيين, حيث ينفصل الأخيرون ومعهم أقل مساحة ممكنة من الارض, واقامة دولة فلسطيـنـية على ما يقارب من نصف الضفة الغربيـة وقطاع غزة. ولم يغيّر شارون موقفه من ضرورة ضم غالبيـة المستوطنـات الى اسرائيل, والأهم من هذا كله انه لم يغير تاريخياً الموقف الرامي في النهاية الى ربط هذا الكيان الفلسطيني بالاردن. فهو يعلم أنه غير قادر على الحياة وحل قضية اللاجئين من دون الارتباط بكيان آخر غرباً أو شرقاً. وشـارون يفضل ربط الكيان الفلسطيني شرقاً. فالدولة اليهودية يجب ان تبـقى يهوديـة, دولة الشـعب اليهودي, مع أقليات دينية طائفية الطابع لا طابع قومياً لها. ولا بد في النهاية من ان تحسم هذه "الاقليات الطائفية" مسألة ولائها كشرط للمواطنة الاسرائيلية. فهذه الاخيرة ليس مواطنة في دولة ثنائية القومية لتسمح بولاءين مزدوجين في ظل مواطنة واحدة, بل هي مواطنة في دولة يهودية صهيونية.
وحتى لو جرت مفاوضات قريباً, وهي سوف تجرى, لأن الاقتصاد والسياسة والحكومة والحياة الحزبية في اسرائيل بحاجة لهدنة ومفاوضات, يجب ان يبقى في الذهن ان لدى شارون تصوراً لم يتنازل عن آخر تفاصيله.
وربما كان الأمر الأكثر أهمية في كل مبادرات السلام المطروحة من جانب معارضة اسرائيلية تتصرف كأنها طرف ديبلوماسي يفاوض الفلسطينيين مكان حكومته بدل ان يتضامن مع الفلسطينيين احتجاجاً على جرائم الاحتلال, انها جعلت العرب المتفقين معها يعترفون بالدولة اليهودية كدولة يهودية. وهذا تعريف نظري ايديولوجي يصرّ عليه حتى اكثر الصهيونيين ليبرالية وحداثة, وهو في نظرهم غير ناجم عن وجود غالبية وأقلية بل هو تعريف جوهري له علاقة بوظيفة الدولة كدولة اليهود, المواطنين منهم وغير المواطنين, في اسرائيل. ويعني الاعتراف ايضاً في نظر الصهيونية على اختلاف تياراتها موافقة الفلسطينيين على التنازل عن حق العودة, وتسقط او تتداعى عنه موافقة ضمنية ان من حق اسرائيل في المستقبل ان تتخذ اي اجراء تراه مناسباً لتحقيق او تعزيز تعريفها كدولة يهودية, بما في ذلك بالنسبة الى المواطنين العرب وولائهم للدولة اليهودية. ولا بد ان بعض الاخوة العرب الذين يتنحنحون عند سماع كلمة عرب باعتبارها "قومجية" فارغة, يعتبر هذا السلوك السياسي واقعياً في حين انه موقف ايديولوجي صرف, وهو غير مطلوب في المفاوضات بين دول, ناهيك عن حركات تحرر. وبدل ان تتضمن تسويتهم اعترافاً بالدولة التي يرغبون في التسوية معها فإنهم يعترفون بطابعها الايديولوجي, كأنهم يلبون شروط الانضمام الى البرلمان الاسرائيلي وليس شروط صنع سلام مع اسرائيل.
في هذه الاثناء, وعلى رغم لفت النظر الى "انتقادات" بوش لشارون في لندن, والتي لم ألاحظها شخصـيـاً لا بالأذن المجـردة ولا بالعـقل المجرد, تحتفل المؤسسة الامنية الاسرائيلية بهرولة اميركية عسكرية واستخباراتية وبحثية منقطعة النظير اليها لتعلم وسائل حرب المدن, وقمع المقاومة. وذلك على رغم ما نشر أخيراً من نقد على لسان قيادات الاجهزة الامنية الاسرائيلية السابقين. فهذا النقد لم يصل الى الأذن الاميركية في الادارة الحالية المتفقة سياسياً مع شارون أكثر من اتفاقها مع آراء قادة اجهزه اسرائيل الامنية. وقد خصصت صحيفة لوس انجليس تايمز (24 تشرين الثاني 2003) تحقيقاً "طويلاً عريضاً" عن التعاون الامني المنقطع النظير بين اسرائيل والولايات المتحدة, وأسرلة وسائل قمع المقاومة في العراق, مبرزة ان قادة الاجهزة العسكرية الاميركية والاسرائيلية باتوا يفكرون بالمفاهيم نفسها بعد عقود من التعاون والتشاور, وفي أي حل ليس هذا هو الرابط الذي بحثنا عنه بين الحالة في العراق وفلسطين. وهنالك ما هو اكثر جوهرية.
ففي الوقت الذي يحاول فيه آرييل شارون كسب الوقت بالعودة الى اعلان النية لتقديم اقتراحات سياسية بقَّت المؤسسة السياسية الاميركـيـة الحصـوة حـول تقسيم العراق من فم أحد باحثيـها في العلاقـات الخارجيـة. وبعد تردد وخجل واستحياء انطلقت الفكرة هذا الأسبوع بشكل غير رسمي من على صفحات النيويورك تايمز, ولنرَ كيف ستتدحرج "فكرة الثـلج" هـذه. وفي الوقـت الذي يمسخ فيه مفهوم الدولتين اسرائيلياً تمسخ أيضاً الدولة العراقية الى ثلاث دول. وفي الوقت الذي يعترف فيه بعض العـرب ليس فقط باسرائـيـل بل بيهودية اسرائـيل تنكر فيه عروبة العراق. هوية الأولى دينية قومية لا تفصل بين الدين والدولة, والهوية الثانية ثقافية قومية تصلح اساسـاً للفصـل بين الدين والدولة, انها هوية غالبية سكان العراق, وهي غالبية اكبر من الغالبيـة اليهودية في اسرائيـل بغـض النظـر عن تعريف هذه الهوية بنظر حامليها. في الماضي كان العرب يرفضـون حتى هذه المقارنـة, فالى اين اوصـلوا انـفسهم؟ في الوقت الذي يعترف فيه بيهودية اسرائيل يروّج أيضاً عدم الاعتـراف بعـروبـة العراق, ولم نعد ندري من الذي يحتاج الى الاعتراف بمن, يشكّك بشكل حثيث بعروبة العرب وبمفهوم الانتماء العربي, لكي ينزع العرب من عقولهم وقلوبهم تماماً امكان التعددية في ظل التكامل الاقتصادي والسياسي, وامكان تشكيل كيان تغلب عليه الهوية العربية. والحقيقة ان من السهل مهاجمة العروبة كهوية اثنية عصبوية, كما ان من السهل مهاجمة الايديولوجية العربية كإيديولوجية تبريرية لانظمة حكم سلطوية استغلتها للتشكيك في شرعية الدول المجاورة ومنح الشرعية للنظام القائم. ولكن ليس من السهل التشكيك بالعروبة الثقافية التي تزداد انتشاراً مع تطور التعليم ومع كل تطور لوسائل الاتصال, كما ان ليـس من السهل التشكيك بالذاكرة العربية الاسلامية الجماعية المتعلقة بتاريخ مشترك ينظر اليه من زوايا محتلفة ويتضمن تعددية وتنوعاً. لا شك في ان الهوية العربية الحديثة كهوية قومية متعددة الديانات هي هوية مركبة, بمعنى ناشئة تاريخياً, وكل الهويات مركبة وناشئة تاريخياً وهي تصنع ويعاد انتاجها اكثر حتى من وجه وهوية مايـكل جاكسـون, ولكن محاولة تفكيكها الحالية لا تقل تركيباً, وهي الاخرى من صنع البشر, واهدافها سياسية ايضاً. والغريب ان المتحاملين على الهوية القومية العربية وعلى امكانية تعايشها مع الديموقراطية والمعتـرفين بهوية يهـوديـة قومية لاسرائيل, لا يعترفون ان محاولتهم لا تقل سياسية. ويقبل هؤلاء بديموقراطية صهيوني متمسك بهوية وحدانية يهودية للدولة وللفرد لا ينفصل فيها الدين عن القومية, ولكنهم لا يستطيعون تصور عربي ديموقراطي, لا يرى بالقومية ايديولوجية كما تراها الصهيونية, ولكنه يؤكد على انتمائه العربي كانتماء حديث نقيض للقبلية والعشائرية والطائفية على رغم ادراكه لتاريخيته ولهوياته الاخرى.
لم تطرح حتى الآن هوية ثقافية - سياسية اكثر حداثة من الهوية العربية, فهي الاكثر ملاءمة لفصل الدين عن الدولة والاكثر قرباً من صنع الانسجام الوطني المحـلي اللازم للتعددية في اطار الوحدة, ما عدا في حالات ينبغي ان تتعايش فيها القومية العربية مع قوميات اخرى لم تندمج فيها تاريخياً وفات الوقت ان تندمج. وكل محاولة لحـل هذه الهوية العربيـة في أي مكـان اوصل الى انحلال طائفي لا يقف عند حد. وكل الهويات شرعية الا الهوية العربية. وما علينا إلا أن نرفع شعار تضامنوا مع الاقلية العربية في البلاد العربية.
ومحاولة التنكر لهوية الجتمعات العربية لم تتوقف عند حد كما كان متوقعاً. وانكار هوية العراق العربية غير المفهوم وغير المبرر تاريخياً وحضارياً, ما لبث ان وصل الى انكار هوية العراق العراقية. وأخيراً لفظها في الـ"نيويورك تايمز" ليزلي غيلب (26 تشرين الثاني 2003) داعياً الولايات المتحدة الى التوقف عن "الصلاة على محراب وحدة العراق" (!), وما أسهل المبالغة لغرض التسخيف, والى العمل ببطء ولكن بيقين على اقامة ثلاث دول في العراق, "بما يتلاءم مع تاريخ العراق السابق". ولا ندري ما يعنيه ليزلي غيلب رئيس مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة سابقاً ورئيسه الفخري حالياً, واي ثلاث دول سابقة يقصد في تاريخ العراق؟ يكتب غيلب ضد الانسحاب الفوري واجراء انتخابات وطنية الطابع, وضد بقاء الجيش الاميركي و"التضحية" من اجل وحدة العراق, فهذه الوحدة أمر حديث العهد لا طائل من ورائه, كأن هنالك وحدات وطنية او قومية قديمة العهد.
قد يكون الهدف من هذا التفكير الاميركي ان تصبح كل دول المنطقة دول طوائف في المستقبل, ربما. ولكن تبقى هنالك "مشكلة بسيطة" ألا وهي نحو مليوني شخص لا يسكنون في مناطق طوائفهم بحسب توزيع العراق الى شمال ووسط وجنوب. لا بأس, يقول الرجل, فإما ان يتدبروا امرهم او يرتب امر رحيلهم: والمفترض ان الكلمة تطهير طائفي بدل عرقي, والرجل يتحدث بلغة الخطط الكبرى لترحيل مجموعات بشرية لا يتلاءم وجودها مع خطته, كأنه ستالين صغير على صفحة "الأوب اد" وهو يدعو الولايات المتحدة الى توفير الجهد والموازنات لهذه الخطة ولهذا الغرض المضمون النجاح لأنها ستضطر للعودة الى هذا السيناريو عاجلاً أو آجلاً, مهما حاولت تجنبه. ولا يبخل في طريقه الى النهاية السعيدة ببعض التعاميم العنصرية عن السنة.
يتناول هذا النمط من التفكير الامبريالي العالم كأنه حقل تجارب لا يردع فيه الباحث, الذي ولد بالصدفة مواطناً في الامبراطورية, رادع. انه متفوق علينا او هكذا يعتقد بحكم الولادة, ويحق له مثلما يحق لشارون ان يقسم بلادنا كما يشاء. فوحدة العراق لم تكن الا خطة تشرتشل لضمان وحدة ضخ النفط لا وحدة العراق تحت حكم ملك موال لبريطانيا, هكذا برأيه. لا نشوء المدينة ولا تشكل ولا حركة وطنية ولا احلام ولا اوهام ولا يحزنون. فالقومية كما يبدو, ونستميح بينيديكت اندرسون عذراً, هي جماعة متخيلة في الغرب فحسب, اما شعوب الشرق فليس من حقها التخيل, أي تخيل ذاتها كقومية. ولا بأس اذاً من ان يُفكك ما وحّدته المصلحة البريطانية بموجب مصلحة اميركية, المنطق برمته منطق استعماري.
ويكاد المرء لا يصدق انه يسمعه هنا في بداية القرن الواحد والعشرين بعد التجربة الطويلة والغنية للعرب في الدول والاحزاب وبعد ان ملأوا الدنيا قعقعة وقرقعة وفرقعة وجعجعة بالايديولوجيات التحررية, والزعماء المرهوبي الجانب وحاشياتهم وحواشيهم واستخباراتهم, وبعدما ملأ المثقفون العرب الدنيا بـ"انا اعتقد...", و"في الحقيقة...", عدنا الى مرحلة احتلال مباشر يتم فيها التعامل مع العرب كأنهم حقل تجارب لاقامة دول جديدة... الا يكفي هذا لتحريض الحال السياسية العربية لقدر اكبر من احترام الذات, بغض النظر أي ذات, في التعامل مع الولايات المتحدة.
ولكن الدول العربية مشغولة بأخذ البركة من اميركا في شؤون خلافة الزعيم وضمان استمرارية خليفته, وما دامت الولايـات المتحدة وليس الشعب هي مصـدر شـرعية نظام الحكم, وما دام الشعب ذاته يأبى ان يكون مصدراً ديموقراطياً للشرعية السياسية, فلم لا تجرى علينا التجارب من حل الدولتين الى حل الدول الثلاث؟ ارفعوا ايديكم عن الاقلية العربية في بلاد العرب! وكل عام وانتم بخير.