تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

فلسطين في ظل المونديال

2006-06-22

ارتكبت إسرائيل جريمة قتل عائلة كاملة في غزة يوم افتتاح المونديال. وهي تتابع عمليات القصف والاغتيال بشكل منهجي منذ بداية الموسم. وهو موسم يضيع الناس فيه عقولهم بشكل مبتذل، وأقصد أنه حتى غير المتحمس يضطر للظهور بمظهر المتحمس لكي لا يبدو خارج السياق جامدا، جافا، غير شعبي أو إذا كان مهتما بالسياسة لكي لا يبدو عديم الاكتراث بما يشغل الناس.

أما المتحمس فعلا فيجن جنونه، ويخرج عن طوره لكي يظهر أكثر حماسة. يصبح مجنونا بالمعنى الإيجابي اجتماعيا إذا ينعت بهذا الوصف بنوع من الإعجاب الخفيف والاستخفاف في آن معا. فإذا اكتفى البعض برفع علم على السيارة يصبغ هو سيارته كلها بلون العلم، ويقود عائلته في مظاهرة وراء الوالد الخفيف مع لا شيء وضد لا شيء. ما تحول إلى لعبة الفقراء بات كرنفالا استهلاكيا معولما، وما كان تتبعا متواضعا لاحتفال دولي أصبح صناعة عالمية تعتمد على انتشار حالة خفة عقلية وتسكع نفسي وشلل ذهني بحجة الابتعاد عن هموم الحياة. دين استهلاكي جديد بات يمارس حتى في الساحات العامة، وهستيريا جماعية بأدوات استهلاكية. وغالبية المنتجات صينية من أعلام وأقنعة وشالات. وقد جر الاستهلاك والرغبة في الانتماء لجماعة المستهلكين وعدم الوقوف خارج القطيع كالبعير المعبد فئات لم تهتم يوما بكرة القدم من أطفال ونساء ورجال إلى دائرة الصراخ الهستيري بصوت يقترب من صوت من يسقط من أعلى البناية.
 

ودين المونديال ليس كونيا أو عالميا كما يبدو. ورغم انتشار الأعلام المزركشة على شباييك وأسطح البيوت وازدحام المحلات التجارية في الأحياء الفقيرة بها لا يستبدل الناس أعلامهم القومية بأعلام دول أخرى، كما يدعي بعض المنظرين الباحثين عن الأمل في الاستهلاك الكوني، نتيجة لهوية إنسانية ما فوق قومية، وإنما هي أدوات وقطع غيار وإكسسوار استهلاكية باتت تلوث كل بيئة. 
 

لم يعد هنالك عيد دون عدة تباع وتشترى من مفرقعات وغيرها. ويدفع الناس ثمنها ليربح منها ناس آخرون. أما الما فوق قومية فيتبين كذبها عندما ينقسم الناس بين الاعلام بموجب حسابات محلية غريبة، وعندما يستغله السياسيون من ارخص نمط لكي يمنحوا المشاهدين مكرمات وهدايا بصورة رزم مشاهدة فضائية. لم تعد لعبة الفقراء للفقراء تمول بالإعلانات التجارية وتربح منها بل بات الفقير يدفع ثمن المشاهدة ذاتها. شعائر دين المونديال شارعية. جلسات المشاهدة الجماعية غير ضارة أبدا بل جميلة اجتماعيا إلى أن يعقبها صفير أبواق السيارات المنبعث من قوافل المحتفلين ليلا.
 

وكأن ما ذكر أعلاه لم يكف لحرف الأنظار عن الجريمة الكبرى التي تلخص الاحتلال ذاته، جاء الصراع الداخلي الفلسطيني المؤلف من تنازع تيارين إضافة إلى الكثير من الشارع والكثير من العفوية وما يسمى بـ النشطاء الميدانيين الذين يفرضون على القيادة وقائع تتطلب ردود فعل تنفذ بدورها من قبل ميدانيي الجهة الأخرى بتصرف. لا توجد حدود واضحة، ولا قعر لمثل هذه الديناميكية في حالة غيتو، أي في حالة معازل أحياء الفقر والتعاسة والشقاء التي تسمى مخيمات حينا ومدن حينا.

تقع جرائم إسرائيل المتجسدة في قصف عشوائي يودي بحياة العائلات في عملية إرهاب موجه ضد المدنيين، وحصار تجويعي يستهدف المدنيين لكسر إرادتهم وإجبارهم على الندم على خياراتهم السياسية على معازل، جيتوات فرضتها إسرائيل. لقد أنشأت إسرائيل الوضع الاجتماعي الاقتصادي الذي أدى إلى نشوء هذا النوع من الخيارات السياسية التي تريد إسرائيل أن تعاقب الناس عليها. 
 

فقطاع غزة لم يبد هكذا دائما. لقد تحول في النكبة من مدينة ساحلية جميلة إلى مخيم لاجئين كبير بعد أن هجرت إليها سكان غالبية قرى ساحل فلسطين الجنوبي. وساهم الاحتلال الإسرائيلي من العام 1967 في تحويله من مخيم لاجئين إلى مجموعة أحياء فقر هي عبارة عن هوامش المركز الإسرائيلي الاقتصادي. 
 

فغزة أعوام الاحتلال هي مصدر أيد عاملة رخيصة لمنطقة "جوش دان" حول تل أبيب، وهي أيضا سوق استهلاكي للبضائع الإسرائيلية، وهي تجمع سكاني فقد أي اقتصاد مستقل أو شبه مستقل لصالح تعديل البنية وتكييفها مع أغراض سوق العمل وسوق البضائع الإسرائيليين وإمكانيات الاستيراد والتصدير الإسرائيلية. كل هذا في ظل تكاثر سكاني وبناء عشوائي واكتظاظ لا تخطيط دولة يرعاه، ثم غزة التي زودت الحركة الوطنية الفلسطينية بأعداد وكوادر المناضلين، غزة التي تتحول إلى معسكر كبير ببوابة واحدة تغلق في الانتفاضة. وغزة هي الأسهل تعرضا للعقوبات الجماعية، فهي تحول بسهولة إلى سجن كبير بسبب جغرافيتها.
 

وغزة هي المخيم الكبير، ومجموعة أحياء الفقر المكتظة والمعرضة لانفجار العنف المكبوت داخل أحياء فقر دون أفق ودون أمل.
 

يستطيع كل شخص أن يشخص الحالة الغزاوية أو يحللها، ولكن إسرائيل ليست في وضع يسمح لها أن تشخص أو تصف الحالة أو تلوم الناس على سلوكهم أو تشكو منه، فإسرائيل هي الحالة، هي لعنة قطاع غزة، هي من حوله إلى ما هو عليه.
 

والآن تريد إسرائيل أن تحول المناطق المحتلة كلها إلى قطاعات تشبه قطاع غزة. لن يمر وقت طويل قبل أن تتحول منطقة الخليل ونابلس والضواحي المحيطة بالقدس: أبو ديس والعيزرية والرام والضاحية المحاطة بالجدران من كل جانب إلى توائم ضفوية لقطاع غزة. فهي تتجه نحو طرح أفكار على الفلسطينيين معتمدة على خطط أعدت سلفا وبدأت بتنفيذها على الأرض. 
 

كان فك الارتباط مع قطاع غزة، أي إدارة الظهر لقطاع غزة هو البند الأول من الخطة. ولذلك أيضا تبدو قذائف القسام كأنها طلقات في الظهر. وقد تمت إدارة الظهر في عملية فك الارتباط في قطاع غزة. ومنذ فك الارتباط لم ينفك القطاع يذكر إسرائيل إنها لا تستطيع أن تحوله إلى سجن ثم تدير ظهرها دون أن تتضرر، أو دون أن يحاول قطاع غزة أن يثبت لها إنها لا تستطيع أن تحل مشكلتها هي في القطاع وتبقي مشكلته غير محلولة.
 

وقد رافق فك الارتباط في قطاع غزة استكمال بناء الجدار الوحشي على أراضي الضفة الغربية حول القدس وغيرها، وهو جدار يقطع الضفة الغربية إلى قطاعات سوف ينتهي كل منها إلى أن يصبح قطاعا كقطاع غزة: إغلاق منافذ، اكتظاظ سكاني، وانعدام أفق للتطور.
 

هذا ما تعده إسرائيل للضفة الغربية. وهي ترغب أن ينفذ كتسوية موقعة. أي أن يكون هنالك طرف يعتمد عليه في صيانة وحراسة ونظارة وتولي هذا السجن الكبير وإشغاله بمقومات الحد الأدنى اللازم لإعالة ذاته. هذا الطرف يسمى حكومة، أما السجن فيسمى دولة. ودولة الاحتلال عازمة على إقامة هذه المعازل والانسحاب منها. ويستغل جزء من السياسيين الفلسطينيين هذا المأزق الذي تضع إسرائيل ضحاياها فيه لادعاء أنها تغرب باستباق هذا الخطر بالاتفاق على تسوية مع إسرائيل بنفسية، و"شو ما أعطتنا كتير علينا" أي "شو ما أعطتهم كتير عليهم". فهذا برأيهم أفضل من أن تفرض إسرائيل ما تريده من طرف واحد. ولكن هذا الاستنتاج لا يعدو في الواقع أن يكون انتصارا إسرائيليا، بل هو انتصار لإسرائيل، إذ تتحول السياسة الفلسطينية الداخلية في ظروف نزاعات أحياء الفقر ودينامكيتها إلى جزء من استراتيجيتها.
 

التوجه للحكومة الفلسطينية بالادعاء أن عليها أن تقدم تنازلات سياسية من نوع الاعتراف باسرائيل فقط مقابل الطعام والشراب هو أمر خطير. فأوروبا وغيرها تعد بوقف الحصار فقط في حالة تقديم هذه التنازلات، ولكنها لا تعد بتنازلات إسرائيلية موازية. والإدعاء أنها فشلت بدل الوقوف إلى جانبها في حكومة موحدة ضد الحصار، وهي وقفة تفشل الحصار كما هو معروف، هو إدعاء يننتصر للحصار. والإدعاء أنه يجب أن يتم التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل قبل أن تنفذ الأخيرة مأربها هو تنفيذ لمأرب إسرائيل وانتصار له واثبات لفاعلية التهديد الإسرائيلي.
 

كل هذا يضع الخلاف الفلسطيني الفلسطيني في ضوء آخر تماما. فلكي يظهر من هو قادر على توقيع الاتفاق مع إسرائيل، أو فرض التفاوض عليها، يجب أن يزال العائق المتمثل بالحكومة المنتخبة وذلك ضد منطق الانتخاب أصلا وضد منطق التمسك بالسيادة واستقلالية القرار. وما التصعيد المتمثل بالاستفتاء إلا محاولة لحصاد تأثير الحصار الدولي على المجتمع الفلسطيني ومحاولة لتوليد طرف يفاوض بعد زوال العوائق من عرفات وحتى الحكومة المنتخبة. وهو طرف يصبح أكثر استعدادا لقبول الشروط الإسرائيلية كلما أزيل عائق من طريقه.
 

وثيقة الأسرى هي اجتهاد جيد، وليست أكثر من اجتهاد هام يؤخذ بعين الاعتبار، فاجتماع أسرى على أهيمته وأهميتهم كقيادات ليس بديلا للهيئات السياسية. ولا معنى لوجود هيئات قيادة الحركات السياسية المتحاورة حاليا إن لم يكن لديها الحق في تعديل الوثيقة. الطرف الذي يتعامل مع الوثيقة حاليا كأنها ملكه يسخره في خدمة طموحاته يتعامل معها كأقل من اجتهاد، إنه يتعامل معها كمجرد وسيلة. إنها أداة تستخدم ضد الخصم السياسي الداخلي وليس هدفا يسعى إلى تحقيقه ضد العدو الحقيقي الذي يفترض أن بنود الوثيقة موجهة ضده. 
 

إنهم يرفضون مناقشة مضمون الوثيقة ليس لأنه مقدس بالنسبة لهم، بل بالعكس تماما، لأنه أداة. وهكذا أصبح الاستفتاء هو الموضوع وليس الوثيقة. وانقسمت الناس ضد ومع الاستفتاء وليس ضد ومع الوثيقة.
 

فلو كان مؤيدو الاستفتاء مع مضمون الوثيقة فعلا لوافقوا إذا طلب منهم في الحوار أن يعلنوا التنازل عن وثيقة جنيف مثلا لأنها تتناقض مع تمسك الوثيقة بحق العودة، ولأعلنوا عن تخليهم عن خارطة الطريق أو وضعوا تحفظات عليها كما فعلت حكومة إسرائيل على الأقل. فوثيقة الأسرى تؤكد حق المقاومة في حين تطالب خارطة الطريق من السلطة الفلسطينية أن تضرب البنى التحتية للإرهاب. ولكنهم لا يفعلون ذلك فما يهمهم هو ليس الثوابت التي تتضمنها الوثيقة وسبق أن تنازلوا عنها بل تنازلات حماس لكي تلتقي مع الوثيقة من نوع الاعتراف باسرائيل دون مقابل والتسليم بما يسمى "الشرعية الدولية". والشرعية الدولية مصطلح عربي لا يعني شيئا ولا توجد ترجمة عبرية أو انجليزية ذات معنى له. ومن حق أي قوة سياسية فلسطينية أن ترفضه فقد تدخل في إطار الشرعية المدعاة كل قرار تتخذه الرباعية مثلا. ومن حق أي قوة فلسطينية أن تصر على القانون الدولي وليس الشرعية الدولية، وان تذكر القرارات التي تعنيها بالإسم مثل قرار 194 الذي يقر حق العودة، وقرار محكمة لاهاي بشان الجدار وغيرها لكي لا يحصل ارتباك حول ما تعنيه عبارة: "القرارات الدولية التي تنصف الشعب الفلسطيني". 
 

لو كانت النية فعلا وضع استراتيجية مشتركة وليس فرض تراجعات على طرف بالحصار لا بالحوار وإنما بالحصار، لما تصرف الناس على هذا النحو. فالاستراتيجية المشتركة مسألة مصلحة مشتركة يتم السعي إليها بقناعة من يرغب بالوصول إلى وحدة وطنية لا الإفشال والانتصار. وبرنامج الحد الأدنى الذي يتم الاتفاق عليه كأساس لحكومة كهذا لا يتضمن فقط سقفا سياسيا ضروريا للحكومة، بل قاعا سياسيا بات ضروريا أيضا.
 

لا يمكن أن تدير حركة حماس حكومة فلسطينية في هذه الظروف المعقدة دون برنامج سياسي، وليس بوسع فتح أن تواصل العمل كأن أوسلو ما زال قائما إلى درجة إلزام حماس به. فقد نسفت رسالة الضمانات من بوش إلى شارون وخطة فك الارتباط اتفاقيات أوسلو ولم تبق منها شيئا سوى السلطة ذاتها. وهي سلطة خلفت تاريخها وراءها عندما شاركت حماس في الانتخابات. ولم يعد مهما أن يقبله بأثر رجعي ويلتزم بها كل من يدير هذه السلطة. من حق حماس في السلطة أن تصر أنها ترفض اتفاق أوسلو ومنطقه، ولكن ليس من حقها أن تدير السلطة دون برنامج سياسي يمكن من التوصل إلى وحدة وطنية في هذا الظرف العصيب.
 

لم تنتصر حماس في الانتخابات بشكل يمحو غيرها فقد حازت ربما على 44% من الأصوات لو حسبت نسبيا، ولم تخسرها حركة فتح إلى درجة فقدان الثقة بالنفس فقد حازت ربما على 43% من الأصوات. ولكنها لم تجر بالطريقة النسبية، وهنالك طرف ربح المجلس التشريعي بشكل ساحق. هذا الطرف يشكل الحكومة ولو كانت حكومة وحدة وطنية، ومنه يعين رئيس الحكومة.
 

عندما يتم الاتفاق على البرنامج السياسي، وهذا ممكن إذا توفرت النوايا لحكومة وحدة وطنية ولا بديل عن النوايا الحسنة، فسوف يكون ممكنا الاتفاق على البرنامج السياسي لان عناصره الأساسية المشتركة متفق عليها. ويساهم في ذلك الإدراك أن هذا اتفاق فلسطيني فلسطيني يرسي برنامجا سياسيا يمكن من التحرك دوليا ضد الجدار وضد خطة أولمرت ويكسر الحصار، ويمكن من استمرار المقاومة بوسائل ولأهداف متفق عليها. 
 

وأخيرا أرجح أنه لن يكون هنالك استفتاء، وذلك لأن القوى الفلسطينية أمام خيارين؛ إما أن تتفق أو تختلف إلى درجة الصدام قبل موعده. في الحالتين لن يكون استفتاء على شيء. ويفضل طبعا أن تتفق، يجب أن تتفق. فما ينتظر أن يحصل هو ليست مباراة نهائية ولا لعبة تصفيات كأس العالم بل تصفية وتصفيات كأس السم، وأمور أخرى أخطر..