تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

فصل المقال في ما بين مدريد و”أنابولس” من اتصال

2007-11-28

ومضت فكرة بوش العبقرية بعقد مؤتمر للسلام بلا معنى مثل برق صيفي لا يعقبه مطر. احتاجت الإدارة الأمريكية إلى حدث سياسي يثبت أن سياستها في المنطقة العربية لم تمن بفشل ذريع. ولم تخطر ببال الرئيس الأمريكي فكرة أفضل مما اقترحته وزيرة خارجيته: تكرار مؤتمر مدريد للسلام الذي هندسه جيمس بيكر في عهد والده. فلسبب ما تعتبر سياسات بوش- بيكر في المنطقة العربية منذ حرب الكويت قصة نجاح يسعى الجمهوريون إلى تقليدها والتذكير بها. والمؤتمر على الأقل يأتي بالعرب الى واشنطن ممتنين على إعارة الامبراطورية إهتمامها لقضية فلسطين مجدداً.

فمنذ فترة تبنى العرب الرسميون وحواشيهم مفاهيم من نوع: “عملية السلام” و”العملية”، و”تبوء القضية الفلسطينية مكانة مرتفعة أو منخفضة على جدول أعمال الإدارة الأمريكية”، و”إعطاء دفعة للجهود الدبلوماسية”، فضلاً عن تعابير مثل “رؤية بوش”، والتخويف بعبارات مثل “قد تهمل أمريكا عملية السلام وأن تنشغل عليها بأمور أخرى”. المشترك بين هذه التعابير والعبارات أنها تفترض نسياناً شاملاً ومتكرراً لماضيها ذاته ولا يتعب مروجوها من انفضاح امرها في كل مرة، وأنها تهمِّش المضمون وتقدِّس الشكل والعملية والاهتمام والمكانة على الأجندة الأمريكية. أما أسئلة مثل لماذا؟ ومن أجل ماذا؟ وما السياسة الأمريكية أصلاً؟ فتبدو تساؤلات طفولية ساذجة في أعين من احترفوا هذه التعابير.
 

صحيح أن المؤتمر هو حدث بحد ذاته. ولكن الأحداث التاريخية، كما عقب كارل ماركس على حالة نابليون الثالث، تكرر نفسها مرتين، فإذا انتهت في الأولى كمأساة، تنتهي في الثانية إلى مهزلة، أو إلى “مسخرة” بالعربية. لقد انتهى مدريد إلى فصل المسارات العربية الذي أعقبته مأساة أوسلو التي بقيت القضية الفلسطينية رهينتها حتى يومنا. أما مؤتمر أنابولس فقد بدأ كمهزلة. ومن أيام التحضير الأولى تبين أنه اجتماع وليس مؤتمراً، ثم تبين أنه لقاء، وأخيراً اتضح أنه افتتاح لعملية تفاوض تتلوه. وماذا كان مؤتمر مدريد؟ كان ايضاً افتتاحاً لعملية تفاوض. كم مرة سوف تفتتح عمليات التفاوض؟ وكم مرة سوف تلقى خطابات مرصعة باقتباسات من التوارة، منمنمة بآيات قرآنية، كم مرة سوف يذكر سيدنا ابراهيم الخليل، و”أبراهام أبينو”، أو أبونا ابراهيم وأبناؤه إسحق وإسماعيل في قاعات باردة أعدت خصيصاً للخطابات والوفود الجالسة على شكل مثلث، يجلس رأسه على طاولة المفاوضات فيما تتثاءب قاعدته أو تضحك امتصاصاً للتوتر على اتفه نكتة. وبوفود وصحافيين وصحافيات يقابلون بعضهم بعضا، وينتظرون جميعا لا شيء، محولين في أحاديثهم لتمضية الوقت خطاباً شبلونياً مملا إلى خطاب مؤثر أو “متماسك”، أو ركيك أو سميك؟ وهو في النهاية اجتماع خطابي تتلوه مفاوضات.
 

وماذا فعل العرب منذ مدريد حتى اليوم؟ فاوضوا. وملأت “إسرائيل” المناطق المحتلة بالمستوطنات إبان التفاوض. ما الحاجة إذاً لافتتاح جديد؟ ليس لدى كاتب هذا المقال معلومات عن حاجة تفاوضية لافتتاح جديد. وفكرة المؤتمر لم تأت من الأطراف المتفاوضة طبعاً. يقولون إنه في هذه المرة ستكون مفاوضات جدية حول دولة فلسطينية. إنه إذاً افتتاح المرحلة الجدية في المفاوضات. وبالنسبة لما سوف نشهد في الأشهر الثمانية القادمة كانت المفاوضات حتى اللحظة “لعب عيال”، هكذا يَعِد المفاوض الفلسطيني نفسه. ويفند أولمرت هذا الوعد انه خلال ثمانية أشهر سوف يكون اتفاق، مؤكدا انه غير ملزم بجدول مواعيد، أياً كان، للانتهاء من مفاوضات الحل الدائم.
 

لم يتفق الفلسطينيون و”الإسرائيليون” المتفاوضون على القدس ولا على الحدود ولا على إزالة كافة المستوطنات، أما بالنسبة لحق العودة فقد قطعوا شوطاً لا بأس به في التمهيد لتخلٍ رسمي فلسطيني وعربي عن ممارسته، وذلك بتحويل “لا -موضوع” مثل يهودية الدولة الى موضوع تفاوضي مثل بقية الموضوعات، اقصد مثل القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات.
 

وهنالك شبه اتفاق على “رؤية بوش”. وهي ليست أمراً مختلفاً على الإطلاق عن “رؤية شارون” التي سبقتها. ولا تعني سوى مقايضة كافة الحقوق الفلسطينية، التي سميت مرة غير قابلة للتصرف، بكيان سياسي فلسطيني تحكمه بعد عمر طويل نخبة سياسية فلسطينية باتفاق سلام مع “إسرائيل”، بعد ان تكون قد وفت بالتزامتها في مكافحة الإرهاب. لن تكون هذه الدولة الفلسطينية على حدود ،1967 ولن ترافق قيامها عودة الفلسطينيين الى ديارهم، ولن تفكك قبل قيامها او بعده كتل الاستيطان الكبرى، ولن تمارس سيادة على القدس العربية، وربما تمنح سكان القدس العرب، بمعنى انهم سيكونون مواطنين فيها ومقيمين في “إسرائيل”، كما ستمنح امكانية الوصول الى الاماكن المقدس. هذه تفسيرات عملية لرؤية بوش/ شارون.
 

على كل حال، كان بالإمكان ممارسة هذه الرؤية المشتركة في المفاوضات. ولكن الافتتاح الجديد هو حاجة أمريكية واحتفالية لبوش والحزب الجمهوري وبلير ورايس الذين أنجزوا أخيراً مؤتمرا للسلام، فيما يعيش الفلسطينيون في غزة واللبنانيون في لبنان والعراقيون في بلدهم كابوساً لا رؤية.
 

لم يبن هذا المؤتمر على توق الولايات المتحدة الى إنجاز على المستوى المعنوي فقط، بل تجاوز ذلك إلى ضرورة الانتباه، او بالعامية الفلسطينية واللبنانية “الإلتكاش” الى وضع المعتدلين العرب. فهؤلاء دعموا الموقف الأمريكي من كافة القضايا وفي كل مناسبة، ولم يخالفوها الرأي منذ ان توقفت عن التدخل في شؤونهم الداخلية مع نهاية مرحلة المحافظين الجدد. ولكن آن الأوان أن تقدم لهم الولايات المتحدة ما “يبل الريق” على مستوى “عملية السلام”. ولكنهم وجدوا انفسهم من جديد يسايرونها بدلاً من أن تسايرهم، فأولمرت رفض مبادرة السلام العربية، ولم يتعاون في تقديم مبادرات نوايا حسنة، وتواطأ معه رأيه العام الذي يرفض حتى بحث غالبية قضايا الحل الدائم، وإن كان نفس الرأي العام يؤيد الذهاب الى أنابولس، كما يؤيد التفاض مع سوريا والفلسطينيين بأغلبية مشابهة أي 65-70%. وبدلاً من أن يشكل المؤتمر دعماً للأنظمة المؤيدة للتسوية باتت مجرد المشاركة مصدر حرج لهم. وقد استمعوا في القاهرة الى رئيس السلطة الفلسطينية وهو يتحدث عن مناسبة وفرصة تاريخية لا يجوز تفويتها. ولكنهم يعرفون جيداً أن السلطة رهينة التفاوض والمكرمات “الإسرائيلية”، وأنه يهرب إلى الأمام إلى “إسرائيل” من فكرة العودة الى حكومة وحدة وطنية فلسطينية.
 

وهنا ننتقل الى ما أنجز فعلاً قبل ان يعقد المؤتمر. لقد بني المؤتمر على الخلاف والصراع الفلسطيني الداخلي. وقبل هذا الشقاق كانت “إسرائيل” قد جمدت ما تسمى العملية السلمية، واشترطت ان يتخلى رئيس السلطة وسلطته عن مجرد الحديث مع حماس لكي تقبل “إسرائيل” بمجرد الكلام معه. أصبح لدى “إسرائيل” شروط حتى للحديث مع السلطة، وكان أولها وقف الحوار او التعاون مع حماس، اي مع جزء واسع من شعبها الواقع تحت الاحتلال. وقد اثبتت السلطة نفسها هنا في تلبية هذا الشرط ونالت إطراءات “إسرائيلية” على موقفها الحازم ضد حماس، الى درجة جلب العالم كله الى مؤتمر أنابولس كشاهد زور على مفاوضات لم تبدأ، وإن بدأت فليس هنالك ما يضمن نجاحها، وذلك لتشجيع وتعزيز وتمكين (بلغة المجتمع المدني) مكانة المعتدلين الفلسطينيين. لا شك في انهم يشعرون بأهمية وبعضهم متأكد، أنه يسمع رفرفة جناحي التاريخ وهو يحلق حول انابولس، فالفرصة تاريخية كما قيل. كم يصبح الإنسان مهماً إذا قبل شروط “إسرائيل”، وكم تتقن الولايات المتحدة و”إسرائيل” عملية منحه هذا الشعور بالأهمية!! كان هذا هو الإنجاز الأول.
 

أما الإنجاز الثاني فقد بدأ الحديث عنه للتو. اعلنت “إسرائيل” في عدة مناسبات، وعلى لسان عدة ناطقين، ان الشرط للحديث مع الفلسطينيين قد تحقق. أما شرط التقدم في التفاوض فيكمن في تنفيذ الفلسطينيين حصتهم من التزامات خارطة الطريق، وهي الكامنة في مكافحة “الإرهاب” وبناه التحتية، أي ضرب المقاومة والقضاء عليها أولاً في الضفة الغربية، ثم في غزة. وكان هذا الشرط المتضمن في خارطة الطريق موضع خلاف مستمر مع ياسر عرفات، خاصة وأن “إسرائيل” تريد من الطرف الفلسطيني ان يثبت نفسه لينال إعجابها، ثم نرى. وقد حيت “إسرائيل” السلطة الفلسطينية على موافقتها على هذا الشرط، وهي تدعوها الآن لتنفيذه.
 

أنجزت “إسرائيل” هذا كله حتى قبل ان تبدأ المفاوضات. وأصبح المفاوض الفلسطيني أضعف في المفاوضات وحتى أمام الرأي العام “الإسرائيلي” نتيجة للانشقاق الحاصل على الساحة الفلسطينية، ونتيجة لمعرفة “إسرائيل” بارتهان جزء كبير من القيادة الفلسطينية بحسن نواياها وبنجاح التفاوض معها. عندما كان الموقف الفلسطيني موحداً أو شبه موحد اشترطت “إسرائيل” الكلام بحصول الانشقاق الداخلي. وعندما حصل الانشقاق أخذت تدعي ان السلطة وقيادتها ضعيفة ولا تستطيع ان تسيطر ميدانيا ولا تستحق أن تقدم لها تنازلات جدية.
 

يكمن الإنجاز الثالث والأخير في فك ارتباط العرب بقضية فلسطين وعدم وجود ملاحظات لديهم، تاركين الأمر لسلطة فلسطينية ضعيفة إلى درجة تحول القضية إلى مسألة “إسرائيلية” داخلية. فهم معها في ضعفها يفهمونه ويفهمونها ويدعمون كل “واقعية” تنتج عن هذا الضعف، وهم طبعاً “لن يكونوا فلسطينيين اكثر من الفلسطينيين”. صحيح انهم يستغلون كل أزمة تطرأ على المفاوضات للتدليل على صمود الطرف الفلسطيني وعدم تنازله بسهولة. ولكن بسهولة أو بصعوبة، مع أنهم ومن دون تأنيب ضمير قبلوا على أنفسهم دور العرابين وشهود الزور.
 

هذا هو الأساس وليس الترويج أن مجرد الجلوس في أنابولس هو تطبيع، فجميع هذه الوفود شاركت في مدريد في الماضي. ولم يعقب المشاركة تطبيع بالضرورة، بل مسارات منفردة لايزال بعضها يراوح في مكانه. وتم التوصل الى اتفاق سلام مع الأردن. أما الطرف الوحيد الذي طبع علاقاته مع “إسرائيل” منذ مؤتمر مدريد من دون اتفاق سلام فعلي فهو منظمة التحرير الفلسطينية. 
 

ويبدو أن سوريا قررت المشاركة في أنابولس بسبب الحالة العربية التي سوف تتركها معزولة في النظام الرسمي العربي في حالة المقاطعة، وربما تشارك كدليل على فشل الحصار الغربي المفروض عليها. وهي تعلم أنه لا ضمان إطلاقاً أن تؤدي مشاركتها هذه الى استعادة هضبة الجولان، حتى لو ذكرت على جدول أعمال المؤتمر. المشكلة في الحضور انه انسجم في الموقف العربي الذي يترك للسلطة الفلسطينية بوضعها الحالي، القائم على الضعف الداخلي والخارجي، مسار التفاوض مع “إسرائيل”، كما أنه سهل على آخرين الحضور بالتأكيد.