لسبب ما ترجمت كلمة normalization بلفظ تطبيع مع أنها مشتقة من normal أي عادي. وقد درج الإسرائيليون على استخدام المصطلح والتأكيد عليه لا أقل من تأكيدهم على اتفاقيات السلام مع الدول العربية، التي يخشون أن تبقى شكلية وسطحية إذا لم تُتبع بتطبيع للعلاقات، بحيث يتجذّر "السلام"، ويتحوّل الاستعمار الاستيطاني في المنطقة العربية من علاقات قوة عدوانية مناقضة لكل ما هو طبيعي إلى أمر طبيعي، وتعويد الشعوب على أن العلاقات مع إسرائيل بوجود الاحتلال وممارسات الفصل العنصري أمرٌ عادي normal.
كانت الدولة الأفريقية التي قاطعت جنوب افريقيا ورفضت تطبيع العلاقات معها أفقر بكثير من الدول العربية، وأكثر حاجة منها للعلاقات الاقتصادية مع الطرف غير الطبيعي القائم إلى جوارها. كما أنها لم تكن أكثر ديمقراطية، ولا أقل سلطوية من الدول العربية. ولكن ثمة مواقف تُجمِع عليها البلدان (شعوبا وأنظمة)، ومنها العنصرية والاستعمار، فضلا عن استمراره في عصر التحرر منه. ولا شك أن جنوب افريقيا العنصرية في حينه، وإسرائيل (التي بقيت حليفتها حتى أيامها الأخيرة) هي من بقايا المسألة الاستعمارية. وفي منطقتنا انهارت وحدة الموقف (الظاهر على الأقل) من آخر مسألة استعمارية مفتوحة.
وإذا نحّينا الموقف الأخلاقي جانبا (ولا يجوز تنحيته لغير أغراض النقاش، فمثل هذه التنحية تشكل مقدمة لانهيارات اجتماعية وثقافية) وتأملنا في الخطوة بوصفها مترتبة على صحوة نمط تفكير عملاني "براغماتي"، نجد أنه لم يكن ثمة داعٍ لها من هذا المنظور، حتى حين تعلق الأمر بالدول المجاورة لفلسطين، فضلا عن تلك التي لم تشارك أصلا، رسميا، في أي حروب ضدها. ثمة أوهام متعلقة بإسهام إسرائيل، في تعزيز، أو تحصين علاقات الأنظمة المطبعة مع الولايات المتحدة.
والحقيقة أن من يرتب وضعه الداخلي بالحد الأدنى المطلوب للحفاظ على الاستقرار (لا نتحدث هنا عن العدالة)، ويتصرف بمسؤولية في السياسة الخارجية، يفرض احترامه على الآخرين في الشرق والغرب. أما من الناحية الاقتصادية فالعلاقات مع إسرائيل لم تسهم في إنعاش اقتصاد أي بلد. إسألوا الدول التي قامت بالتطبيع منذ اتفاقيات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية!
والحقيقة أن قادة الدول يعرفون هذا. ولاحظ من التقى الإسرائيليين منهم أسلوبهم اللحوح والفضولي، الحشري واللجوج بالعامية، وأدرك أن هدفهم الاستفادة لا الإفادة. ولكنهم يندفعون بهذا الاتجاه لأنهم يريدون إسرائيل حليفاً لهم في الغرب في مقابل خصوم قريبين. وآخر الأمثلة على ذلك التنافس في التقرب من إسرائيل جاء من كل من ليبيا والسودان. كان الدافع في هذه الحالة هو الخصومات داخل كل بلد، فكل طرف داخل ليبيا والسودان خشي أن يحظى الآخر وحده بهذا "المجد". أما دفع الصراعات والخصومات الإقليمية والتنافس على ود الولايات المتحدة الأفرقاءَ نحو إسرائيل، كما في حالة الخليج والمغرب، فلا تحتاج إلى بيان.
فهل يحل التطبيع مع إسرائيل صراعات العرب الداخلية أم تسهم في تغذيتها وتأجيجها؟
يجري التطبيع على حساب الشعب الفلسطيني. هذا أمر مفروغ منه. أما ما يستوجب إعمال التفكير فيه هو أن التنازلات لإسرائيل تقدّم على حساب العرب أمةً وشعوبًا. ويكفي أن يجيل المرء نظره سريعا في هذه المنطقة ليصدمه مزيج التدهور السياسي والأخلاقي والفجوة بين الأنظمة والشعوب الذي يجري التطبيع في سياقه.
وإذا لم يرغب العربي أن يتعب نفسه بالحجج حول عدالة قضية فلسطين، مع أنها حجج مقنعة، وباتت تقنع أوساطًا واسعة من الأميركيين، فالحجة "البراغماتية" التي يمكن أن تقدَّم لبايدن الكهل الذي لن يجلب له التطبيع صوتاً إضافياً واحدًا، والمندفع في الضغط على الدول العربية بدافع من قناعاته الصهيونية، تتلخص في أن كل خطوة عربية للتطبيع مع إسرائيل حتى الآن زادت الأخيرة تطرفًا وتعنتًا وقناعة بموقفها أن التصلب ومنطق القوة هو الذي يفيد مع العرب، الذين ينتقلون من مبادرة سلام إلى أخرى أقل شروطًا. ويمكن إسناد ذلك بالأدلة. فما بالك بالتطبيع في وجود الحكومة الحالية؟ إنه عبارة عن مكافأة تشجيعية لممارسات الحكومة الإسرائيلية، وللمستوطنين غير المهتمين بالتطبيع مع العرب. وهذه إجابة مقنعة حتى لبايدن. ولكن الراغب بالتطبيع لن يفعل، لأن دوافعه مختلفة. وهو يبحث عن مبررات لكي يقوم به، لا عن مخرج منه.
لا داعي إذا للحديث عن الفائدة التي سوف يجنيها الفلسطينيون، فقد بيّنت خطوات التطبيع حتى الآن أن تهميش قضية فلسطين بنيوي فيها لأنها تنطلق من أن العلاقات الطبيعية مع إسرائيل ممكنة من دون حل القضية الفلسطينية. وهو تأكيد لوجهة نظر إسرائيل منذ النكبة بشأن هامشية فلسطين في سياق ما سمي يوماً الصراع العربي-الإسرائيلي، والذي ما زال قائما من ناحية الشعوب فقط.
والحقيقة أنه لا علاقة لقضية فلسطين بدوافع المطبعين سلبًا أو إيجابًا. فالموضوع هو مطالب وتوقعات من الولايات المتحدة. ولا يخفي ذلك التقاط الصور مع محمود عباس، ولا حتى مع قادة حماس، ولا وضع شال بألوان الكوفية الفلسطينية. فهذا الفولكلور منفرٌ ومستهلك. وليست إسرائيل مستعدة للتضحية بالاستيطان من أجل اتفاقيات سلام، ولا حتى بوحدة ائتلافها.
لكن الأمر يتجاوز عدم وجود صلة مع قضية فلسطين إلى تبرير بعض خطواتهم باتجاه إسرائيل بأثر تراجعي لأنفسهم بالتهجم على الفلسطينيين، وحتى على العرب عموما. فلم يخلُ أي تطبيع حتى الآن من جوقات إعلامية تتفنن في جسر الهوة بين الضمير الأخلاقي والممارسة، وبين القناعات والأفعال (التنافر المعرفي) بإسكات الضمير وتغيير القناعات. ويندرج ذلك ضمن تدهور الأحوال المعنوية والثقافية السياسية التي تشكّل سياق مثل هذه الخطوات.
تفيد الأرشيفات أن عددا كبيرا من الزعامات العربية تواصلَ مع الحركة الصهيونية قبل النكبة ومع مسؤولين إسرائيليين بعدها، وأن الانقطاع شبه الكامل عن ذلك كان في مرحلة حكم الأحزاب القومية. ولكن السادات تجاوز من كانوا يديرون علاقات بالسر، حين وقع اتفاقيات سلام وتطبيع مع إسرائيل محوِّلا المسألة إلى تسويات حدودية ثنائية. في تلك المرحلة أُخرِجت مصر من الجامعة العربية التي نقلت مقرها إلى تونس، وأقيمت جبهة الصمود والتصدي لمعارضة هذا النهج. ولكن النهج تواصل. ولم تعد تتشكل جبهات رسمية، ولا مؤتمرات ضد التطبيع، وأصبح البعض يتحجج بأن التطبيع خطوة سيادية، وكأن النقاشَ قانونيٌ حول صلاحيات الدول إبرام اتفاقيات سلام ثنائية. ليس النقاش قانونيًا، بل هو سياسيٌ وأخلاقيٌ، وهذه عموما طبيعة الاختلاف مع الخطوات السيادية التي تتخذها الدول من شن الحروب إلى عقد اتفاقيات السلام.
تبقى قضية فلسطين قائمة. وهي تصبح أقل قابلية للاستخدام من طرف الأنظمة العربية. ومن ناحية أخرى تمسخ إسرائيل، المصرة على توسيع الاستيطان وعلى الضم الفعلي نظامَ، الاحتلالَ الاستيطاني إلى نظام شبيه بالفصل العنصري في قلب المنطقة العربية. وهو ما لا يمكن أن يصبح أمرًا طبيعيًا، ويستحيل تعويد الشعوب العربية على قبوله.