تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

"شوتسباه"... صفة للتحبب!

2003-12-25

عندما استمعت روح العصر الى بروفسور القانون الليبرالي من جامعة هارفرد وهو يبرر تبرئة أورينثال جيمس سمبسون المكنى "أو جي", بحجة توفر "شك معقول" بارتكابه الجرم, لا بد أنها تذكرت تلك الجملة من مسرحية وليام شكسبير: "بادئ ذي بدء دعونا نقتل كل المحامين" (مسرحية هنري السادس, الفصل الثالث). مع الاعتذار من المحامين الذين يستحقون لقب حقوقيين.

 

استاذ القانون الليبرالي المدافع عن حقوق المواطن ضد أشكال التمييز كافة, وعن خصوصية المواطن, وعن حقه بالتمتع بـ "الشك المعقول" في حالة كونه قاتلاً, المثقف الذي يحاول جاهداً أن يكون غير متوقع في رفضه لإجماع الفئات الاجتماعية التي ينتمي اليها على إدانة النجم الثري المحتفى به والمكروه في آن واحد, الاستاذ الجامعي الذي انبرى دفاعاً عن الشخص الذي احب الناس ان يكرهوه, كما يحصل للنجوم من حين لآخر. المثقف الذي يحب دور الولد السيئ الذي يتلهى بإثارة حنق بيئته الاجتماعية وغضبها في معركة تبدو متعلقة بحقوق المتهم البريء الى ان تثبت إدانته, فيثبت عدم امكان إدانته, ولا يثبت براءته, فيزيدهم غضباً عليه واعجاباً ببراعته كمحام. ومن حقيقة الدم والضحية ذات الاسم والعائلة والاصدقاء الذين تحولوا الى كتبة مذكرات وضيوف في وسائل الاعلام, ومن اللحم الآدمي تحت اظافر الضحية, استخلص الليبراليون والمحافظون, محبو المتهم وكارهوه مشهداً اعلامياً ومسلسلاً تلفزيونياً رخيصاً عن مغامرات الاثرياء وأخلاق الخيانة ودموية الأخلاق, وعن ثقافتهم وقيمهم الخفيفة المتطايرة مثل الديودورانت.

 

شارك الاستاذ من هارفرد في المشهد الاعلامي عبر لعب دور المحامي البارع والغالي السعر الذي دربته قضايا الحقوق المدنية على خوض مسالك القانون الوعرة, والذي لا يكترث للاشاعات ولا تهمه الآراء السائدة وينبري للدفاع عن حقوق المتهم في ظروف انعدام شعبية مهمته. وانتقل من "انه بريء حتى تثبت ادانته حتى لو كان اسود البشرة" في مجال الحقوق المدنية, الى "انه برئ حتى لو كان غنياً ومشهوراً" في مجال حقوق النجومًية. هكذا سخَّر سجال الحقوق المدنية وبلاغتها واخلاقياتها في خدمة اللا-أخلاق, ووضع رفض الآراء المسبقة وازدراء الاشاعة والتمسك بعناد بمسلكيات الدفاع عن الحقوق المدنية في خدمة صناعة الآراء المسبقة والصورة والكليشيه والمشهد الاعلامي والثروة القادرة على التبرئة, وعلى استئجار "الشك المعقول" في خدمتها.

 

كان بالامكان ان ننسى هذا الفصل الروتيني في تاريخ استهلاك الاثارة الاميركية, وان ننسى الذين أثارهم المشهد, فالنسيان نعمة والذاكرة لعنة. ولكن الاستاذ لا يكل ولا يمل. فهو يكتب بصفته مثقف عمومي public intellectual الكتاب تلو الآخر, واحد بعنوان "الشوتسباه Chuztpah" عن استثنائية اسرائيل ويهود الولايات المتحدة, وعن محاكمة سمبسون, وسر في نجاح الارهاب... الى ان صفعتنا الصحافة بوجوده في محاضرة في هرتسليا, هرتسليا خطاب شارون ونتانياهو وتبجح رئيس المخابرات الاسرائيلي, يا محاسن الصدف. ورب صدفة خير من الف ميعاد. ونجد انفسنا بعد اعوام على تلك المهزلة المحاكمة نقرأ عن نصائحه لإسرائيل كيف تلتف على القانون الدولي وتتغلب على ضعفها لحقوق الانسان في محاربتها للارهاب.

 

هو أيضاً وصل الى مؤتمر هرتسليا. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكأنه ينقص اسرائيل من ينصحها في كيفية خرق القانون الدولي والاستخفاف به من دون وجل. اضطرنا الرجل الى مراجعة نشاطه الذي اتخذ بعداً تحريضياً منذ الحادي عشر من ايلول فوجدنا في يوم 3 أيار 2002 مقابلة في الـ CNN, ويوم 20 أيلول 2002 مقابلة الـ CBS, خرج فيها بسلسلة تصريحات تبرر استخدام التعذيب في الحرب ضد الارهاب. ولكن, كما يليق بليبرالي, يجب فعل ذلك برأيه بشكل مراقَب ومنضبط في حالات فردية, وفقط بقرار على أعلى مستوى ممكن, وذلك اذا توفرت اسباب كافية للإعتقاد بأن لدى السجين معلومات عن عملية ارهابــية, وان تعذيبه قد يــؤدي الى كشف هذه المعلومات اللازمة لانقاذ حياة البشر. والمهم انه يجوز برأيه قوننة التعذيب الجسدي. وقد عولج هذا الإشكال في الادبيات الحقوقية والمحاكم الاسرائيلية تحت عنوان منع التعذيب والسماح بإستخدام "قدر معقول من الضغط الجسدي" في حالة وجود خطر محدق بوقوع عملية ارهابية, وقد شُبِّه الخطر بالقنبلة المـــوقوتة Ticking Bomb . والمسألة التي استنفرت منظمات حــقوق الانسان هي ان هذه محاولة لتشريع التعذيب قانونياً, ويعتبر هذا تغيراً معيارياً خطيراً. ويدعي الاستاذ في هذه المقابلات ان تشريع التـــعذيب ومراقبته افضل من الاقدام عليه في الخفاء. الأسوأ هــو قول الشيء والتظاهر بعكسه, او التظاهر بالوداعة. تبدو الـ "شوتسباه" هنا كنوع من الاستقامة, ضد التلون والرياء, واللف والدوران.

 

جاء حضرته الى المؤتمر ثم الى لجنة القانون والدستور في الكنيست ليقترح ان تتعامل اسرائيل مع القانون الدولي "بشكل ابداعي" (هآرتس 19/ 12/ 2003), فتحمِّل "الارهابي" مسؤولية اضطرارها للمسّ بالمدنيين. وبموجب ذلك على "الارهابيين" ان يقيموا معسكرات في غزة مثل الجيوش النظامية لكي تقصفهم اسرائيل, وإلا فالويل للمدنيين اذا كانوا يعيشون بينهم. هذا هو منطق الليبرالي الاميركي الجديد. انه يدرك تماماً ان من يسميهم بالارهابيين هم في الواقع مدنيون, ناس عاديون, يعيشون في بيوتهم تحت الاحتلال مثل بقية الناس, وان البنية التحتية للارهاب التي يتشدق بها شارون كأنها معسكرات تدريب منظمة "هبي" محض دعاية, فلا يمــكن ان تقوم في المناطق المحتلة خلف ابراج المراقبة الاسرائيلية معسكرات من أي نوع. ليست البنية التحتية للارهاب إلا الاحتلال ذاته. ولكن الاستاذ متعصب لموقف, هو موقف اسرائيل, وعصبيته قومـــية لا أكثر ولا أقل, انه مع هذا الطرف ضد ذاك, والى الجحيم ايتها الليبرالية.

 

وبين هارفرد و"أو جي" يتعصب الليبرالي الاميركي لنمط الحياة الأميركي ولهويته اليهودية وفي اطارها وفي القلب منها اسرائيل في التعريف الجديد لهذه الهوية في اميركا, من دون ان يجرؤ احد على اتهامه بأنه قومي يهودي. انه ليس ساذجاً وهو يفقه شيئاً عن الحياة تحت الاحتلال, ولا يهمه الأمر, فما يهمه هو كيف تدبر اسرائيل أمرها وكيف تظهر بين "الأمم". انه يؤمن باستثنائين في وحدة مصير: اميركا واسرائيل.

 

يقول الان ديرشوفيتس Alan Dershowitz في محاضرته في مؤتمر هرتسليا حرفياً أن "جذور الارهاب كامنة في تقديم الدعم له, وفي نجاحه بتحقيق انجازات. انه حالة من اصحاب الامتيازات الذين يستخدمون المحرومين كمدفع. وكما نعلم جميعاً قامت الأمم المتحدة والفاتيكان ومؤسسات أخرى بدعم الإرهاب الفلسطيني (!) لقد أجهضت الأمم نظرية عدم منح الارهاب المحفزات والدوفع بواسطة نظرية اخرى وهي ان سبب الارهاب هو الاذلال والاحتلال".

 

يتجاهل الليبرالي الاميركي الاحتلال والاذلال كسبب وكدافع وكخلفية. من اجل اخذ الاحتلال في الاعتبار لا يحتاج المرء الى ان يعيش في غزة, ولا أن يعرف عن كثب معنى تحويل بلد مكتظ بالسكان الى معسكر تحيطه ابراج مراقبة الى درجة فقدان الطفولة والصبا والحياة ومعنى الحياة, فقدان الانسان وليس حقوق الانسان فحسب, وفقدان البيئة وليس جودة البيئة, الى حد تحييد القيم الجمالية والالوان وغلبة الرمادي والعودة الى الحجاب, بدون إذن من شيراك, فحالة الاختناق هي الحالة العادية. ليس الانسان بحاجة الى ان يعيش هناك, والمطلوب لغرض الادراك او الاحساس هو فقط ان يتخلى عن بعض "الشوتسباه".

 

ويتابع الان ديرشوفتس قائلاً: "لدينا عقوبات دولية على كوبا والعراق. كل شخص في الأمة يجب أن يتحمل المسؤولية عن أفعال قادتها, ان تكون جزءاً من الجماعة يعني ان تتعرض للمحاسبة... الضربة الاستباقية المانعة هي وسيلة اولية اخرى لتخفيف لعنة الارهاب. ورغم ممارسة اسرائيل لها بشكل عام, إلا ان الضربة الاستباقية تقع خارج حكم القانون. يضع الارهابيون الديموقراطيات في دوامة مأسوية عندما يختبئون بين المدنيين, ولو لم تكن تلك ديموقراطيات لتم قصف هذه الشعوب". يقول ايضاً على نفس واحد وفي المحاضرة العجيبة نفسها: "لدينا مشروع مشترك بين الولايات المتحدة واسرائيل وعلى المحامين ان يقودوه, ان نقترح قواعد جديدة للقانون الدولي. على الاسرائيليين ان يحترموا حكم القانون داخل الديموقراطية المسماة اسرائيل, كما على الاميركان ان يلتزموه في الولايات المتحدة, لكن التزامكم الاخلاقي بإطاعة القانون الدولي هو التزام طوعي. فلستم مُمَثَلين ولا مشاركين في صنع هذه القوانين. يعيش القانون الدولي او يموت بمصداقيته, وليس بواسطة ديموقراطية أقرته. انني اقترح اجراء تغيير في حكم القانون. على الديموقراطية ألا تبرر أفعالها فقط لكي تظهر كيف تحول قانون حقوق الانسان الى سلاح لالحاق الضرر بالانسان... انتم مختبر هذه العملية, وانتم تساهمون فيها بشكل عظيم, لا تسمحوا للعالم بأن يروّعكم او يدفعكم الى الايمان بأن ما تقومون به هو خرق لحقوق الانسان...".

 

ويستمع الاسرائيليون بغبطة ورضا بالغين, فقد كانوا يعرفون هذه الامور ويمارسونها, ولكن يسرهم التظاهر بأنهم يسمعونها للمرة الاولى ومن بروفسور ليبرالي من هارفرد, كأنهم يقتنعون بها الآن بعدما تخرجت ممارساتهم من هارفرد. ويحب الاسرائيليون ان يبدأوا الجملة التبريرية بالتشبيه التالي "حتى في الولايات المتحدة هنالك اعتقال اداري"... او "حتى في ديموقراطية عظيمة مثل اميركا يستخدم التعذيب"... وكأن اسرائيل تحتاج الى من يشجعها على تجاهل القانون الدولي والارادة الدولية اتاها استاذ جامعي, ظاهرة كلامية حقيقية, نجم سجال وكلام ومقارعة, لا ليشجع فقط, بل هو يدعو اسرائيل ان تكون مختبراً للقانون الدولي الجديد الذي يحرر الديموقراطيات من الالتزام بقوانين تقيد ايديها في حربها ضد الارهاب. سلوك اسرائيل يصبح هو القانون الدولي. هل صادفتم تواضعاً اكثر وضاعة؟ والمصيبة ان الاستاذ الجامعي يتحدث بحماس وغرور من تنتظر القوات الاميركية والاسرائيلية اذناً منه لكي ترتكب جرائم وكأن الضباط يحملون محاضرته معهم مثل كراسة تعليمات فيقرأون البند الخاص بكل قانون دولي قبل الدوس عليه. انهم يرتكبون الجرائم, وكل ما يقوم حضرته به هو تبريرها اخلاقياً واشغال الضمير بمنطق ليبرالية محامي حقوق مدنية سابق.

 

كان الواقعيون السياسيون في الماضي يبررون الجرائم بعبارة "في الحرب كما في الحرب" دونما "شوتسباه", ودون ادعاء للبرالية. اما اللبرالي الجديد فيقول في مكافحة الارهاب كما في الارهاب. والحقيقة ان هذا المنطق الشكلي القانوني الذي يعتبر الالتزام بالقانون الدولي امراً طوعياً لا يستطيع ان يقصر الطوعية على الدول الديموقراطية, ولا بد ان يعترف به للدول غير الديموقراطية ايضاً, ما دام حكم القانون الدولي على المستوى العالمي ليس حُكمَ سيادة. ولكن في حالة الدول التي لا تعجب الاستاذ يأتي دور القوة ليردع هؤلاء الذين لا يلتزمون ويتم ردعهم بالقوة وليس لأنهم خرقوا القانون بل لأنهم "ضدنا".

 

الانتقائية في الالتزام والالزام بالقانون الدولي تبعاً لمن لديه القوة على التحرر من الالتزام وعلى إلزام الآخرين في آن هي في الواقع إستبدال القانون الدولي بشريعة الغاب.

 

التعاسة والاحتلال والحرمان والفاقة والعوز لا تبرر العنف المسمى ارهاباً في هذه الحالة. حسناً, لكنها حتى لا تشرحه بمنطق ديرشوفيتس المنحل تماماً من أي روادع. قد تعني الديموقراطية داخل الولايات المتحدة تبرئه نجم رياضة ومجتمع ثري يعرف الجميع بما فيه محاموه أنه قتل, ويبرأ المتهم ليس لعدم توفر الأدلة ولا لثبوت البراءة, بل بسبب عدم ثبات التهمة لوجود "شك معقول". أما خارج الولايات المتحدة فإن قصف الفقراء تحت الاحتلال مباح حتى لو كانوا أبرياء لأن بينهم "مذنب". وحالة الاحتلال كارهاب, كحالة قمع يومي موجه ضد المدنيين فلا تتمتع بالتجاهل فحسب بل وقد تتحول الى حق كأن الاحتلال هو رد فعل على الإرهاب وليس العكس. وطالما ان الدولة المستعمِرة ديموقراطية فلها الحق ان تصنع القانون الدولي ان تصممه في سلوكها" سلوكها هو القانون الدولي وسلوكها مبرر لأنها ديموقراطية.

 

في العام 1991 اصدر ديرشوفيتس كتاب Chutzpah. وهي كلمة عبرية لا تعني الا الوقاحة بالعربية. كلمة عبرية تتحول بالايديش الى صفة محببة, كلمة تحبب لوصف الثقة المبالغ بها بالنفس وتأكيد الذات الى درجة اختزال الآخر الى مجرد موضوع لتلقي التهكم او الوقاحة, او حتى الكذب والنظر في العينين في آن معاً. وفي قاموس ليو روستن للإيديش Joys of Yiddish (من العام 1968) يقول المؤلف محاولاً تصوير معنى الكلمة العجيبة: يمكن تعريف المتمتع بهذه الصفة Chuzpanik بأنه "الشخص الذي يصرخ طالباً النجدة فيما هو يوسعك ضرباً".

 

عرَّفت الصهيونية ذاتها بأنها حالة نفي المنفى, وتتضمن حالة نفي المنفى ايضاً نفي اخلاقيات وتأدب ابن الاقلية في المنفى, يهودي الشتات, التي عبرت في نظرها عن ضعف ومسايرة "الامم" او "الاغيار". وما الصهيونية اخلاقياً إلا تأكيد للذات واعتداد بالنفس ومظاهرة قوة وتخلص من عقد الاقلية ومنها التأدب والتلطف. وما نفي التأدب الا اعتزاز بقلة الأدب. لقد مرّت مرحلة كان فيها الليبرالي اليهودي الاميركي جزءاً لا يتجزأ من حركة الاقليات المضطهدة في اميركا. ولكن جزءاً كبيراً من الليبراليين اليهود قد تأسرل بنفي المنفى نتيجة لانتقاله من موقع الأقلية الى موقع المؤسسة والنخبة الحاكمة, ولأنه بعلاقته العاطفية غير العقلانية مع اسرائيل التي ينصرها ظالمة او مظلومة وجد نفسه في صف تيار القوى المحافظة الجديدة في اميركا. وهي القوى الليبرالية في قضايا الاحوال الشخصية, واليمينية في القضايا القومية العامة, بما في ذلك قضايا الحرب والسلم. من "الشك المعقول" الى شريعة الغاب في مناطق نفوذ الامبراطورية التي باتت هذه القوى الليبرالية نخبتها المتمتعة بالوقاحة اللازمة للدفاع عنها.