نُشر بالأمس خبر صدور تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيماوية الذي حمّل النظام السوري مباشرة المسؤولية عن قصف بلدة اللطامنة في ريف حماة بغاز السيرين والكلور. الجديد هو الإشارة المباشرة إلى الطرف المسؤول. نشر التقرير في أجواء الوباء العالمي، فبدا مثل جنازات زمن كورونا بدون مشيعيين. ولكنه تقرير موثق باسم منظمة دولية. لا يقلل نشره في هذا الوقت من فظاعة الجريمة مثقال ذرة، ولا يقلل من اهتمام ما يدعى المجتمع الدولي، لأنه أدار ظهره له أصلا قبل الوباء. فلا يتهمن أحد الوباء بالتستر على الجرائم ضد الإنسانية.
خواطر:
أ. 1. التباعد الاجتماعي مصطلح جديد المقصود منه الحفاظ على مسافة بين أجسام البشر لتجنب نقل العدوى، ولا أدري لماذا لا يقال التباعد الجسدي أو الشخصي. لماذا الاجتماعي؟ على كل حال راج المصطلح وانقضى الأمر. والمسافة بين البشر أمر محمود حتى في غير زمن الأوبئة، فاللمس الزائد والاحتكاك الفائض يتضمنان نوعا من فرض الذات على الآخر واختراق خصوصيته. وحتى في المدن المزدحمة لا يعتاد البعض على إكراهات الملامسة الجسدية في الازدحام في الحافلات أو عندما يعلقون وسط حشود، ويعانون منها، ويستغربون اعتياد من حولهم عليها، ويحاولون أن يتجردوا من أجسادهم، أن ينفصلوا عنها شعوريا فيما يتعرضون للانتهاك من كل اتجاه.
2. تنفر المجتمعات التي تحترم خصوصية الفرد من الملامسة الجسدية حتى لو كانت للتعبير عن التقدير أو الود. وقد أصبح الإفراط في التقرب الجسدي عند بعض الشباب من عناصر التمرد على برود الأهل. ففي هذه المجتمعات يكاد "الحفاظ على المسافة" يتحكم بمجمل السلوك حتى صار رديفا للتهذيب، وكأن التهذيب يعني أخذ مسافة، كما تحول بالتدريج إلى مسافة شعورية، أي برود اجتماعي.
3. يستحيل الحفاظ على المسافة اللازمة للحفاظ على خصوصية الجسد والحفاظ في الوقت ذاته على التعبير عن مشاعر الود والصداقة وعدم كبت تعبيراتها الجسدية، إذا كان المرء مضطرا للانشغال طوال اليوم في الحرب دفاعا عن كل سنتمتر من خصوصيته، وذلك على جبهات مختلفة، قد لا يكون اختراقها باللمس فقط، بل أيضا بالضجيج من طرف المهاجمين على جبهة الأذن، الذين يريدون فرض أذواقهم الموسيقية عليها، أو بالتدخل الاجتماعي في حياة العائلات، والتدخل العائلي في خيارات الأفراد البالغين، وغيرها وغيرها. هنا يصح استخدام مصطلح التباعد الاجتماعي فعلا ضد الحشرية الاجتماعية والفضول وفرض الأذواق وغيرها.
ب. 1. يمضي كثيرون هذه الأيام الوقت بالتسلي بمسألة "قيادة العالم" والنظام الدولي بعد كورونا. وغالبا ما يقومون بذلك انطباعيا على خلفية تعامل الدول مع الوباء. ولهذا خطر لي طرح أفكار تخفف من الانطباعية بحيث يمكنهم أن يتسلوا بالموضوع ذاته في عزلتهم، إذا أصروا، لكن بحيث يكون الانشغال أقرب من الواقع.
2. حتى إذا نحينا طبيعة النظام وجاذبية نمط الحياة جانبا، لا يقاس الدور القيادي لدولة كبرى بحجم الاقتصاد بمعنى مجمل الناتج القومي فقط، وإنما أيضا بالقدرة العسكرية (التي يمكن تمويلها من دون إرهاق الميزانية، إذا كان الاقتصاد ضخما، وأذا تحولت الصناعات العسكرية إلى محفز للنمو والإنتاج) والاستعداد لتمويل الدور السياسي القيادي عبر المعونات للدول وتمويل المنظمات الدولية وغيرها، وأيضا بالقدرة على الابتكار في تطوير قوى الإنتاج، ودور العلم في عملية الإنتاج، ومعدلات التنمية البشرية. السؤال لا يتعلق بحجم الاقتصاد فقط، بل بمكوناته أيضا. فثمة فرق بين الاعتماد على الصناعات التقليدية المستفيدة في التصدير بتوفر الأيدي العاملة الرخيصة، والمعتمدة على تكنولوجيات مستوردة، وبين الدول التي تقود عملية تطوير قوى الإنتاج ولا سيما في مجالات التكنولوجيات المتطورة والعلم عموما.
3. لا شك أن أزمة الوباء الحالي ذكرت دولا كثيرة بمضار نقل جميع الصناعات التقليدية إلى دول تتوفر فيها أيدي عاملة رخيصة، وتفضيل استيراد هذه السلع على صناعتها لأن الاستيراد أقل كلفة. فاضطرارها إلى استيراد كمامات وأجهزة تنفس وغيرها بيّن لها ضرورة الاحتفاظ بصناعات تقليدية استراتيجية ولو بثمن وضع الحواجز الجمركية، ما قد يصب الماء مستقبلا على طواحين أمثال ترامب المعادين للتجارة العالمية. والحقيقة أنه ثمة سبب ثان لمثل هذه الخطوة يتمثل في إحداث توازن اقتصادي بين الصناعات التقليدية وال"هاي تيك" في الدول الرأسمالية المتطورة، وهو أن اقتصاد ال"هاي تيك"، كما تثبت الأرقام، يزيد من تركيز الثروة ومن توسيع الفجوة الطبقية. أما السبب الثالث فمتعلق بانتشار الشعبوية القومية في أوساط العمال، سيما وأن تصدير الصناعات يضغط على الأجور في الصناعة القائمة، إضافة إلى المس بالكبرياء القومي بالإجهاز على صناعات وطنية. هذه أمور قد تتغير بعد الأزمة. وتدرك دول شرق آسيا ذلك وتظهر تعاونا فائقا في تصدير السلع الخفيفة مثل الأقنعة والمعدات والأجهزة الطبية تعزيزا للعولمة، وحتى لا يبدو الاضطرار إلى الاستيراد عبئا على المستهلك.
4. سوف يشهد العالم كما يبدو تغيرات اجتماعية واقتصادية بنيوية، ولكن الاتجاه إلى عالم متعدد الأقطاب لن يتغير.