تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

خداع التاريخ وانهيار سايكس- بيكو

2007-11-23

عزمي بشارة

 

هل يتجلى خداع التاريخ الذي سمي سخرية القدر في حضارتنا بانهيار الدولة القطرية ليس على يد التيار الوحدوي العروبي أو الإسلامي بل بواسطة الجماعات العشائرية أو القبلية والطائفية الأهلية التي كانت في أساس ايديولوجية إقامتها في عصر الانتدابات الاستعمارية؟ يبدو أن الخداع أدهى من أن يتم تخيله. فهذه القوى غير قادرة على تهديم البنية بسواعد صغار السياسيين وبمعولها وحده. ومهما بلغ طموحهم القيادي بالتحرر من الايديولوجيات وتجييش قواعد شعبية خارج البرنامج والشعار السياسي وبرابطة الدم الرعوية، سواء كانت هذه عشائرية بالقرابة أم طائفية بالاستشهاد، تدفع بأصوات ثأر بدائية لا لتثأر فعلا، بل لتستغل لشرعنة زعامات تشحن الجمهور بهذه المشاعر والانتماءات وهي محمولة على أكفه المضرجة بالدماء.

 

ليست كل الدول صومالاً. فقد قامت دول ومؤسسات وجيوش ولديها مصلحة بالبقاء وربما حتى بالإصلاح. وهي إضافة إلى كل شيء شاهدة حية على نتائج كارثة العراق الوخيمة. ولم يعد بوسع هذه الجماعات المذكورة أعلاه أن تهدم كيان الدولة وحدها. ويكمن الخطر المحدق في تحالف محاور إقليمية مع بنى عضوية عصبوية محلية في كل دولة على حدة من دون اكتراث بثمن تحقيق أطماعها وطموحاتها السياسية الذي قد يبلغ تقويض إمكانية الانتماء الوطني والمواطنة لا أقل، وذلك باستثارة عداوات ومخاوف واستنطاق دماء تصرخ من أعماق الأرض منذ عصور الرعاة.

 

لقد كُسِّر العراق ومن عارض الحرب من العرب تم عملياً عزله بتواطؤ عربي مع الأميركيين. وتمكنت إيران أن تظهر بمظهر من يعارض الحرب علناً نتيجة لهذا الموقف العربي الذي لم ينجح في اخفائه حتى من رغب. ولا تذكِّر الشماتة التي أبدتها دول عربية في حينه بعد انهيار النظام تحت وطأة القصف من دون مقاومة ومن شكل صدام حسين عندما اعتقل، لا تذكر بصرخات الشرف التي سمعت أخيراً حرصاً على يوم العيد. لماذا؟ ما الذي جرى في هذه الأثناء فأدى إلى هذا التغيير؟ كل ما حصل هو أن المقاومة العراقية أثبتت جدارتها وصلابتها من جهة، ومن جهة أخرى قامت محاور واضحة. لقد تنافحوا شرفا وقرعوا الصدور بعد أن اتضحت استفادة إيران من حل الجيش وقانون مكافحة البعث الذي هتفوا له! ولكن حتى هنا لم يستنكروا الإعدام، بل استنكروا أنه نفذ يوم العيد، وهذا أسوأ من عدم الاستنكار. فهو يعني ليس فقط الموافقة على الإعدام بل واستغلاله طائفيا ضد خصوم لا علاقة لهم، لا بإسقاط النظام ولا بإعدام صدام حسين، بل يقفون في لبنان وفلسطين حيث تقف المقاومة العراقية في العراق وضد نفس الخصم.

 

وتم التشكيك بهوية العراق العربية مرات عدة، وعلى مفاصل ومفترقات عدة، أهمها الدستور، وكانوا يسخرون ممن يستنكر هذا الإنكار لهوية العراق العربية. ولم نسمع صوتاً رسمياً يدين هذه المحاولات ممن يندبون الآن استفادة إيران من تكسير العراق. وبدل أن يردوا الآن على الطائفية التي تستخدمها إيران، وتستخدم هي إيران وأميركا في خدمة مصالحها داخل العراق (والشق الأخير من بيكر وهاملتون) بقومية عربية، يردون بتذكية طائفية سنّية هي أبعد ما تكون عن روح السنة الذين لم يتصرفوا كطائفة تاريخاً وحاضراً.

 

ليس هنالك في أي بؤرة من بؤر الصراع الأخرى التي اشتعلت أو أشعلت في المنطقة العربية من سبب داخلي محلي موضوعي كاف للمواجهة. ففي لبنان مثلا لا تفرز الديناميكيات الداخلية اللبنانية بالعقل السياسي اللبناني وحده، وباللغة السياسية اللبنانية وحدها مواجهة أو صداما، ناهيك عن حرب أهلية. ولا يجرؤ أحد في لبنان لو ترك وحده يواجه القرار، أو يواجه مجتمعه ومصيره أن يدعي أنه راغب أو قادر على حسم الصراع على السلطة إقصائيا لصالحه. لا أحد يصدق ولا حتى نفسه أمام المرآة أنه قادر على الاستفراد بالسلطة. لا بنية المجتمع تسمح بذلك، ولا الدولة ولا بنيتها وتاريخها، ولا الاقتصاد، ولا الأمن الوطني اللبناني، وهو العنصر الأهم في هذه الحالة.

 

وتكفي حقيقة أن التجربة المكونة الأساسية للوعي الوطني اللبناني الحديث هي الحرب الأهلية الممتدة من أواسط السبعينات وحتى الطائف للتدليل على هذه الاستحالة في الوعي اللبناني. كانت الحرب الأهلية مغامرة الاستفراد والحسم ونتائجها، ومحاولة نقل لبنان إلى معسكر عالمي بعينه، ولم يعد هذا المعسكر قائما حاليا، وهي في مقابل ذلك وفي الجهة الأخرى نتيجة مغامرة انتزاع الأمن الوطني اللبناني من سياقاته الحضارية والقومية والتاريخية، وهي نتيجة عدم استيعاب توسع الوطن من متصرفية إلى دولة تعاني أزمة هوية أو هويات جماعية مثل غيرها من مخلفات سايكس بيكو... وغير ذلك الكثير مما ينكشف من الوعي السياسي اللبناني في كل قصيدة ومقال وثرثرة من مكونات الوعي واللاوعي والذاكرة الجماعية عن الحرب. والرادع الوطني ضد المواجهة ليس حمامة سلام وادعة حالمة، بل هذه الهوية اللبنانية العديمة الأوهام المتشكلة في أتون الحرب الأهلية الملطخة بالميليشيات وزعمائها والمضرجة بالشعارات التي فسدت أو نفذ مفعولها على جلود الناس.

 

وكما أنه لا توجد آلية كافية لتدفع إلى المواجهة، كذلك لا توجد آلية داخلية لمنعها وتجنبها. فديناميكية المواجهة هي الصراع بين محاور إقليمية. هذه الدينامكية باتت تفرض نفسها على لبنان فرضا، وما زال المجتمع اللبناني صامدا أمامها، ولكنه لن يستطيع وحده تطوير آلية وفاق ومصالحة، إذا لم تجد هذه المحاور مصلحة في حوار في ما بينها.

 

فحتى فترة وجيزة لم تتبن الحكومة اللبنانية الحالية ولا قادتها موقف نزع سلاح المقاومة، ولا الاستفراد بالحكم عمليا لنقل لبنان إلى الحظيرة الأميركية. ولا شك أن بعضهم ضمر ذلك، ولكنهم لم يصدقوا أن بمقدورهم الدفع نحوه قبل الظروف الاقليمية الجديدة.

 

كان ذلك قبل الحرب على لبنان. وتجسدت سياسة المحاور في عملية تحميل المسؤولية عن الحرب، وفي عملية تفسير نتائجها، إلى درجة الاستفادة منها في الصراع الداخلي. ثم استمرت في عملية مطردة من نقل مراكز القوة والسلطة إلى طرف واحد إضافة إلى القرار 1701، وإدراك قيادة المقاومة أنها سوف تستيقظ على لبنان آخر خلال أقل من عام إذا لم تتحرك، فخرجت تكسر الحصار ولم تخرج لتحاصِر. وهي لا تصر على الاستفراد بل تصر على المشاركة، وتتظاهر ضد الاستفراد. رفضت أن يعني التحالف مشاركة شكلية صورية وكـ «أقلية ديموقراطية» أبدية عند اتخاذ القرار في حكومة لها فضل في انتخابها، بل المشاركة الفعلية برأي له وزن، وحق الفيتو في القضايا المصيرية لها، خاصة الأمنية منها. المشكلة أن الطرف الآخر يريد الاستفراد، ليس لأنه قادر على ذلك، ولا لأنه راغب، بل لأن القوى الأكثر تطرفاً فيه التي لم يكن بإمكانها جرها وراءه في الماضي ترى أن المحور الذي ترتبط به يرفض حالياً أي حوار مع المحور المقابل، وهي لحظة مناسبة لتمرير الخطة تدريجيا. وقد أحبط الخروج إلى الشارع هذا التدريج، وأجبره أن يضع أوراقه على الطاولة مرة واحدة فيعرف كل ما يريد وما هي العواقب.

 

كيف يبرر من لا يستطيعون الحسم ومع ذلك يدفعون إليه هذا المسعى إذاً؟ لقد كانوا مقتنعين بإمكان تمرير المخطط تدريجاً ومن دون مواجهة، فعبر الإمساك بمقابض السلطة الرئيسية والتحالف مع القوة العسكرية والاقتصادية الأعظم في العالم بالإمكان تغيير مسار الأمور لصالحهم تدريجاً ومن دون مواجهة. بالإمكان في فلسطين مثلاً الانتقال من حصار إلى تغيير الحكومة بحيث يتضمن هذا التغيير الإمساك بمراكز القوة والسيطرة والتحكم بعملية صنع القرار عبر وزارات مثل الداخلية والخارجية والأمن. وهذه تضاف إلى الرئاسة التي تعترف بها الحكومة. عندما تضاف هذه الوزارات إلى الرئاسة والأجهزة والمال يصبح التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل في مفاوضات سرية مسألة وقت ويمكن عرضه لاستفتاء، وأفضل داعم للاستفتاء على تسوية غير عادلة هو الجوع والتجويع ثم تحسين الظروف تدريجاً، وترك البقية لخيال الناس للمقارنة بين مرحلة الحصار ومرحلة رفع الحصار.

 

ولا يبقى للموقف الآخر الذي حاز على أغلبية في الانتخابات إلا وقف هذه العملية، بعدم التعاون معها والإصرار على شروط الوحدة الوطنية ولذلك يمكن اتهامه بإحباط المسعى.

 

يدفع المحور الإقليمي الذي يشعر بحاجة ملحة حالياً لمسار تفاوضي بعد فشل الحرب على لبنان والفشل المدوي في العراق، ويلتقي مع حاجة مماثلة في إسرائيل باتجاه مواجهة لو ترك أمرها لغالبية الفلسطينيين وحدها لما رأت ضرورة أو سبباً كافياً لها. فإسرائيل لا تنتظر بعد المواجهة بهدايا العيد مثل القدس وحق العودة للاجئين «الشاطرين» الذين أشعلوها، وهي ليست ولن تصبح قريباً بابا نويل. هذا الإدراك وحده يكفي لنبذ المتطرفين داخليا المعتدلين خارجيا الدافعين للمواجهة داخليا وتسوية خارجيا، ولتشكيل حكومة وحدة وطنية تتحدى الحصار. وأصلاً الاعتراف المتبادل بين الحكومة والرئاسة يشكل توازناً ونوعاً من الوحدة. العجلة في الحسم من الشيطان وممن فرض سياسة محاور على مناطق بعينها بحيث تعلو على القواعد والقوانين التي تحكم حركتها وتطورها.

 

المصيبة هي في وقوع ما يمكن تفاديه. فالسياسة الأميركية بعد العراق لم تعد قادرة على فرض المواجهة على أحد، وباستطاعة هذا المحور الذي نشأ عشية الإعداد للحرب على العراق أن يفهم أميركا أن سياسة المحاور إذا لم تتوقف فسوف ينهار العراق ومعه النظام الإقليمي برمته الذي نشأ بعد سايكس بيكو ، وأن انفراط العقد سوف يأتي على كل شيء، وأنه حتى لو كان ذلك يطيب لإسرائيل وبعض أتباعها في واشنطن، فإنهم كعرب يعتقدون أنه مدمر.

 

الحل الوحيد هو تعاون هذه القوى بالتخلي عن هذه المحاور والعمل كدول إقليمية ذات شأن ومصلحة في العراق لتحقيق الاستقرار فيه بعد انسحاب أميركي. وهذا يتطلب تعاوناً وتفاهماً سعودياً سورياً إيرانياً، كما يتطلب تعاوناً مع تركيا. لقد تم دفع صدام حسين إلى حرب على إيران ثم تم التخلي عنه، فبقي من دون علاقات مع دول الخليج ومع إيران، وحافظت سورية على علاقة جيدة مع إيران ودول الخليج، ولذلك تمكنت من لعب دور وسيط مهدئ بينهم. وإيران يجب أن تطمئن العرب، أقصد الرأي العام العربي أنها تعترف بعروبة العراق، نعم عروبة العراق، وأن تتخلى عن السياسات الثأرية أو التواطؤ مع السياسات الثأرية فيه. وكان آخر هذه التجليات هذا الثأر البدائي المهين للأمة بإعدام رئيس دولة عربية بهذا الشكل وتحت حراب الاحتلال تسجيلاً وبثاً ونشراً، حتى شعر الإنسان العربي حتى الكاره لصدام حسين أنه مهان ومغتصب. ويمكن إحراج إيران وتقييدها فقط إذا كانت هنالك علاقة وحوار معها بهذا الشأن. وينطبق هذا الأمر على طمأنة أنظمة عربية لإيران بعدم وجود تآمر أو دفع عربي للولايات المتحدة لضرب إيران كما شهدنا جميعاً تشجيعاً عربياً لضرب العراق عشية الحرب عليه «بشرط التخلص من صدام حسين هذه المرة».

 

هذا النوع من إشعال المواجهات بين المحاور حرق الأصابع في العراق، وسيحرق ما تبقى من الأيدي في لبنان وفلسطين، ولن يبقي على شيء من الجسد في حالة المواجهة مع إيران. وسوف لا تنهار المحاور فحسب إزاء هذا التأجيج للصراع الطائفي في سياق مواجهة كهذه، بل نظام الدول القائم حالياً. هل فسدت حتى غريزة حب البقاء لدى هذا النظام العربي القائم؟

 

الحياة