عزمي بشارة
حين اتخذ القرار للتصرف في جنيف كما تصرفت سلطة أوسلو كان من أقدم عليه على علم أنه يدق المسمار الأخير في نعش التضامن الدولي بمعناه المألوف. لقد تعرض التضامن الدولي لإرباك الأسئلة التي أثارها اتفاق مثل أوسلو، في اتفاق مع المحتل قبل التوصل حل. فهل النضال مستمر لأن الاحتلال مستمر، أم أن المفاوضات تعني أن الأمر بات منوطا بـ"اتفاق الطرفين"؟ ثم أعادت الانتفاضة الثانية للتضامن بعض الحياة. ولكن الانشقاق الفلسطيني وسلوك سلطة أوسلو تجاه حرب غزة عاد يربكه.
رغم هذا كله حشدت كافة المؤسسات والحركات الشعبية ونصف الشعبية المتضامنة بقضها وقضيضها وشراذمها ما تبقى من نَفَس لتجنيد التضامن مع الشعب الفلسطيني رغم الانشقاق في صفوفه، وكان تقرير غولدستون حصيلة التضامن الشعبي المدني الضاغط والتحركات الدولية. فمن سوف يتضامن بعد يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول المشؤوم في جنيف، وكيف سيتضامن، ولماذا؟
من اتخذ القرار تصرف كمن ليس بحاجة للتضامن بل كأنه جزء من النظام الدولي. والتضامن يحرجه أصلا. فمن يعتقد أنه في صف واحد مع البيت الأبيض، أو أنه من "خش البيت الأبيض" كما يخيل له لا يبغي تضامنا، والمتضامنون بالنسبة له أقرب للخصوم منهم للأصدقاء خاصة حين يتضامنون مع قطاع غزة مثلا. في حين يقف هو في جانب الحصار على القطاع لإفشال خصم سياسي فلسطيني له. لقد ودَّع هؤلاء حركة التحرر قبل التحرر. باي باي يا حركة التحرر. كانت هذه الأمور واضحة لمن يريد أن يرى، ولكن مسلك جنيف كان أبلغ تعبير عن هذا الفراق بين النخبة السياسية الفلسطينية ومنطق التحرر والتضامن بشكل يفرض نفسه حتى على من لا يريد أن يرى.
الدولة الفلسطينية وحق العودة كنموذج: تضيع الصورة الشاملة ويضيع الجوهر في تفاصيل التحركات السياسية وتفاصيل التسوية التي تسيطر على الخبر. وهذا بالضبط ما يجب أن يتجاوزه الإعلام المسؤول الذي يتوخى الموضوعية، لا أن يساهم فيه.
تتميز المرحلة الراهنة على الساحة الدولية بمجموعة تحركات سياسية في مرحلة أوباما تهدف إلى تحريك عملية السلام أكثر مما تهدف إلى السلام العادل ذاته. مع تحفظ أن مؤتمرا قد يعقد بعد أشهر ثلاثة، بحسب مسؤولين عرب، يعيد "أمجاد" كامب ديفد الثانية، ولكن بدون ياسر عرفات الذي يرفض التنازل عن القدس، ومع نتنياهو الذي نعتمد على وطنيته الإسرائيلية كي يرفض المقترحات إياها، التي رفضها عرفات.
فهو يرفض حتى أقل منها. ولا تخرج الإدارة الأميركية الحالية في سلوكها عن القواعد التي أرستها الإدارات الأميركية السابقة بخصوص ما يسمى بـ"عملية السلام". ورغم أن هذه الإدارة هي نتاج فشل سياسات المحافظين الجدد، بما في ذلك التنازل عن خطاب تصدير الديمقراطية والاعتراف بالفشل في العراق، إلا أن وضع الدول العربية السياسي لم يمكّنها من استغلال ضعف هذه الإدارة في السياسة الخارجية. وهي -أي الدول العربية- وخاصة أقطاب ما يسمى بمحور الاعتدال، غير راغبة أصلا بخوض صراع بشأن فلسطين، بل تكتفي بالاحتفاء بتخلي هذه الإدارة عن خطاب نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومن هنا يصعب الفهم لماذا لا يُترجَم ضعف الإدارة الأميركية وتراجعها بصيغة ضغط عربي عليها. ويظهر أن بعض العرب قد ضغطوا عليها كي تتراجع عن فكرة تجميد الاستيطان وتركز جهودها على تجديد المفاوضات للحل الدائم. "ففي إطاره تحل قضية الاستيطان أصلا" كما يقولون.
وحتى في العراق، حيث موطن ضعف السياسات الأميركية في المنطقة، لم يتمكن النظام الرسمي العربي من ترجمة هذا الضعف السياسي الأميركي الناجم عن إنجازات المقاومة إلى سياسة عربية تجاه هذا البلد تضع الأجندات العربية والحرص العربي على عروبته على طاولة الولايات المتحدة وإيران وتركيا.
ومن هنا، وبينما ثرثر العرب بـ"خيال شرقي جامح" (بلغة المستشرقين) عن ضغط أميركي على إسرائيل، لم يخرج التحرك الأميركي عن الروتين المعروف. وقد تلخَّصت المفاوضات خلال زيارات ميتشل المكوكية عن أمرين الأول: طلب التطبيع مع إسرائيل على شكل مبادرات حسن نية عربيا، والثاني، الضغط على الدول العربية من أجل المساهمة في تمويل سلطة أوسلو، الممولة أوروبيا بشكل رئيسي، وذلك لتوريط الموقف العربي رسميا بالانحياز الكامل لها ضد سلطة غزة.
ويحاول أوباما بواسطة التحركات الأخيرة أن ينهي ما بدأه بوش وكلينتون في إقناع إسرائيل والعالم العربي بتحويل مشروع الدولة الفلسطينية إلى صفقة شاملة، أو "اتفاق رزمة". وهذا يعني قيام دولة فلسطينية في مقابل تنازل العرب عن قضية اللاجئين وحق العودة وعن الانسحاب الكامل إلى حدود 4 حزيران عام 1967، بما في ذلك شرقي القدس. وهذا لا يعني فقط التنازل عن قضية فلسطين بالمعنى التاريخي المعروف، بل يعني أيضا التنازل حتى عن سقف مبادرة السلام العربية.
أما إسرائيل فباتت تقبل بالمعادلة هذه منذ شارون، ولكنها تحاول أن تحصر الدولة العتيدة في أصغر مساحة ممكنة من الأرض، وبأقل سيادة ممكنة. وتقوم إسرائيل باستغلال تنازل السلطة الفلسطينية والنظام الرسمي العربي عن كافة أدوات إدارة الصراع، عدا المفاوضات ذاتها، لفرض "سلام الأمر الواقع" على الأرض، بما فيه تحويل ظروف معيشة السكان والحواجز وغيرها إلى الأمر الرئيسي، واستغلال مفهوم حل الدولتين لتمرير اعتراف عربي بيهودية إسرائيل، بما يتضمنه هذا الاعتراف من:
1- التنازل عن حق العودة.
2- الاعتراف بالصهيونية بأثر رجعي.
3- الاعتراف بإسرائيل ليس كأمر واقع، بل الاعتراف بحق إسرائيل التاريخي والأخلاقي، وعمليا الاعتراف بصوابية الموقف الإسرائيلي وخطأ الموقف العربي تاريخيا، وبأثر رجعي.
ولقد اختارت الولايات المتحدة إزاء ذلك أن تُظهِرَ تميّز الإدارة الجديدة بمطلب تجميد الاستيطان الموجه لإسرائيل. وتبعها العرب بمن فيهم الفلسطينيون، بطرح هذا المطلب. والحقيقة أن المراجعة لتاريخ بناء المستوطنات تثبت أن أغزر السنوات بناءً هي السنوات التي أعلن فيها التجميد. والحقيقة أن كل من يعرف إسرائيل وسياساتها يدرك أن سياسات "التخطيط والبناء" هي نشاط مركزي لدولة قامت على التخطيط والبناء. وهي تخطيط لأكثر من عشرين عاما مسبقا. وأن أي تجميد يستثني البناء المخطط له قبل التجميد يعني استمرار البناء لعشرين عاما أخرى.
ولكن الحكومة الإسرائيلية لم تتحمل حتى التجميد الشكلي، لأن الحكومة الإسرائيلية الحالية، خلافا لسابقتها، تستند إلى قوى ترى أن مجرد الإعلان عن تجميد الاستيطان -حتى لو كان إعلانا كاذبا- يتضمن تنازلا مبدئيا. فعلى إسرائيل برأي اليمين أن تعلن عن حقها الشرعي بالاستيطان، لا أن تخفيه أو تقوم به سرا. والواضح أن النقاش الذي جرى في إسرائيل لم يكن موضوعه هو التجميد (إذ لا تجميد) بل إعلان التجميد من عدمه. ومن هنا فإن دخول الإعلام العربي في هذه التفاصيل وتعويم المزاج السياسي العربي على هذه الموجة (موجة تجميد الاستيطان) هو أمر محزن وكارثي ويُنسِي الناس أن الاستيطان جار، وهو على أشده في القدس حاليا، وأن الحصار على غزة مستمر كاستمرار للحرب بوسائل أخرى.
ونعود إلى جوهر الطرح الذي ما زال تنفيذه يصطدم بالمطامع الإسرائيلية أعلاه. ونسأل السؤال التالي: ماذا بالنسبة لحق العودة؟
لا بد من التأكيد أولا على أن حق العودة لا ينبع حتى من قرار دولي، وأن الشعب الفلسطيني ومجمل الأمة العربية تتمسك به حتى دون قرار دولي، فما بالك والقرار الدولي قائم؟ لا يمكن تحقيق حق العودة من خلال تسوية مع إسرائيل، بل في إطار تراجع أو اندحار إسرائيلي، في سياق الصراع العربي الصهيوني. ولكن إذا تنازل العرب عن هذا الصراع سلفا، بل وحتى عن خطة للصراع، فهذا يعني التنازل عن حق العودة. وما ترْك حق العودة للفلسطينيين، كشأنٍ فلسطيني، إلا تنازل عنه. فحتى لو وُجِدَت منظمة التحرير كمنظمة مناضلة، وحتى لو كانت السلطة الفلسطينية "سلطة مقاتلة على أي منطقة تحرر" لا يمكنها تحقيق حق العودة في سياق تفاوضي مع إسرائيل، لأن الأخيرة باختصار وببساطة تعتبره نفيا لها.
ومن هنا نجد أن الكثير من العرب قد انتقل من خطاب تحقيق حق العودة في سياق الانتصار على إسرائيل، إلى مقولة رفض التوطين في سياق التسوية. وغالبا ما يعني رفض التوطين توطينا، و"لكن ليس عندنا"، أو "ليس في بلدنا" بالمنطق القُطْري أو الطائفي البغيض.
وهو في الواقع موقف عنصري يمس بالانتماء العربي الواحد مثله كمثل الطائفية وغيرها. فالكلام عن رفض التوطين في دول حققت السلام مع إسرائيل دون أن تضع حق العودة جزءا من اتفاق السلام، والحديث عن رفض التوطين في دول أخرى ترهن السلام باستعادة أراضيها التي احتلت عام 1967 وبعده، لا يعني حق العودة. فبأي معنى يتم التعبير عن رفض التوطين، ومن تطالب هذه الدول بحق العودة، إذا لم يكن شرطا في اتفاقياتها للسلام مع إسرائيل؟ هل يُترَك حق العودة لسلطة عباس-فياض. لقد تنازلت عنه الأخيرة منذ فترة طويلة، وحتى لو لم تتنازل عنه لا يمكنها فرضه في سياق علاقتها المتبادلة مع إسرائيل.
إن التنازل عن حق العودة كشرط للسلام مع إسرائيل في حالة دول وقعت اتفاقيات سلام، ودول أخرى لا تشترط توقيعه في المستقبل بممارسة هذا الحق، بل تريد توقيع سلام كهذا بناء على استرجاع أراضيها التي احتلت عام 1967، يجعل حق العودة مسألة عالقة بينها وبين الفلسطينيين المقيمين على أرضها، وليس بينها وبين إسرائيل، مما سيقود إلى تحريض عنصري لا أكثر ولا أقل... وهو ينسجم ضمن نشر العقلية الطائفية والجهوية والإقليمية والقبلية في إطار الثقافة السياسية للدولة العربية القطرية القائمة وأنظمتها وأسرها الحاكمة.
كيف تكون الدولة الفلسطينية صفقة شاملة أو اتفاق رزمة؟ هنا ندخل طبعا مجال الخيال الأميركي-العربي بغض النظر عن الموقف الإسرائيلي. ويذهب هذا الخيال الأميركي إلى أن واقعية العرب سوف تقودهم إلى قبول تبادل الأراضي دون عودة إلى حدود عام 1967، وأن قضية القدس تحتاج إلى "حلول إبداعية" للأماكن المقدسة دون انسحاب إسرائيلي من القدس العربية، وأن قضية اللاجئين تحل تلقائيا بوجود دولة فيتحولون من لاجئين إلى مغتربين، من تابعية هذه الدولة في دول أخرى فيحملون جوازات سفر دولتهم الفلسطينية. وطبعا بموجب هذا الخيال الواقعي يبقى الكثير من القضايا، ولكن وضعهم القانوني على الأقل يجد له حلا، وذلك دون عودة ودون توطين.
وهذا هو التحدي الحالي... وما جرى من مخاز في جنيف وفي نيويورك، يجري في خدمته كغاية تبرر الوسائل غير المسبوقة. هنالك من صار يعتبر نفسه جزءا لا يتجزأ من صلب النظام الدولي القائم. فهو لم يعد خارجه كما في حالة الكفاح المسلح، ولا على هامشه كما في حالة الانتفاضات وسلطة ما بعد أوسلو.
ومن هنا يتوقع هذا المغتبط بانتمائه إلى النظام الدولي أن ينجح مسعاه للدولة. وهنا مصدر الاستخفاف بما تعتبره حركات التحرر عادة في صلب خطابها، مثل تعبئة العالم ضد جرائم الاحتلال لتقييد يديه في المستقبل على الأقل مثلا. وهنا أيضا يكمن مصدر التخلي عن مجرد فكرة الصراع مع الدولة الاستعمارية.
فهؤلاء يعتبرون أنفسهم ندا افتراضيا للدولة الاستعمارية في خطاب الدولة، يتبنون مصطلحات الدول ولغتها الواقعية واستخفافها بالعدل والإنصاف والحقوق... لقد حلّوا على منطق الدول من آخره، فاستخفوا بجرائم الحرب وبذلك التصويت في جنيف. فسدوا ماليا، وينسقون أمنيا مع الاحتلال، وأقاموا كيانا قمعيا ميليشيّا، يمنع حتى التعبير "عن تضامن" الناس مع أنفسهم، ويشاركون بالحصار ضد شعبهم، وصاروا يتصرفون كجزء من النظام الدولي الذي يكذب بشأن جرائم الحرب. وكل هذا الانحلال في أوساط لا يمكنك أن تعظها لأنها كانت هناك. وتعتبر نفسها نضجت، وتعتبرك ساذجا. فهي تنتمي لجيل عرف حركة التحرر، وقد حل بها هذا الانحلال قبل أن تقود دولة. وهذا تميزها الذي لا ينافسها فيه أحد.