تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

تبادل الأسرى مع اسرائيل انجاز ايجابي في الظروف العربية الصعبة... لكنه لا يغيرها

2004-01-29

لا توجد قيمة إنسانية أسمى من الحرية, ووعي الحاجة الى الحرية اقتراب من جوهر الانسانية. وإذا حُشر المرء وراء جدران السجن مجرداً حتى من السيطرة على حركته المكانية البسيطة ومن السيادة على جسده, فإنه لا بد من ان يكتشف أنه لا توجد أيضاً ممارسة انسانية تستحق الذكر من دون ممارسة الحرية. هكذا نفرح لأربعمئة أسير فلسطيني وثلاثة وعشرين أسيراً لبنانياً وخمسة سوريين وثلاثة مغاربة وثلاثة سودانيين وليبي واحد, ومن الطبيعي أن نتعاطف مع حسرة أو صمود أولئك الذين بقوا في السجن أسرى حال قمع دولة لشعب آخر.

 

ولا شك في ان صفقة تبادل الأسرى الحالية في الظروف الدولية والاقليمية المعطاة تشكل إنجازاً للمقاومة اللبنانية ولحزب الله. فالظرف الدولي ظرف ضغط على الحزب وتحريض ضده وتضييق لهامش حركته الى درجة التسريب وتكرار التسريب حول نية أميركية لضربه, كما تكرر بعض الصحف الاسرائيلية خلال الأسبوع. هو انجاز, إذاً, لكنه انجاز لا ينسجم ضمن الصورة السياسية العامة. من هنا أهميته من ناحية, ومن هنا خطورة الانجرار خلف الحماسة الزائدة من ناحية أخرى. وهذا لا ينطبق على الفرح بحرية السجناء وتحريرهم, فليكن الفرح جارفاً بعد الحرمان.

 

تثبت الصفقة امكان تحقيق انجازات حتى في الظروف الدولية والاقليمية السيئة الحالية, اذا توافرت الشروط الذاتية اللازمة, ومنها الحكمة والتصميم, والمرونة عندما تلزم والصلابة حين يتطلب الأمر. لكن الخطورة تكمن في الحماسة الزائدة والانجراف في الاعتقاد ان هذا الانتصار هو القاعدة حالياً, وأنه يغير طبيعة موازين القوى في المرحلة الراهنة, فهو لا يصل الى هذه الدرجة. وهذا الحكم ليس تقليلاً من أهميته, بل ادراكاً لطبيعة المرحلة وموازين القوى في المنطقة والعالم. تبادل الأسرى في ظروف الضغط والتحريض على حزب الله واثارة الانطباع انه منزو ومنطو في ركن من اللبنانية, مثال على امكان العمل بنجاح وتحقيق انجازات في ظروف صعبة, لكنه لا يغير هذه الظروف الصعبة.

 

ولا شك في ان محاولة اسرائيل الفصل بين أسرى دول عربية تربطها بها علاقات سلام وبين صفقة مع حزب الله هي دليل الى ادراك اسرائيل خطورة لم يفقدها وتهديداً لم يعدمه حزب الله بعد, على رغم كل شيء. ومن هنا ضرورة محاربة هذا النهج بنظر اسرائيل وتقوية النهج البديل عربياً.

 

لكنها بهذا المنطق اعتبرت السلطة الفلسطينية كياناً معادياً اذا وافقت ان تتضمن صفقة مع حزب لبناني اسرى فلسطينيين من المقيمين في اراضي السلطة الفلسطينية. وهي بدل ان تمنح هذه السلطة انجازاً سياسياً أمام الشعب الفلسطيني بتحرير اسراها عبر التفاوض معها خلال السنوات الأخيرة, بما في ذلك في اطار خريطة الطريق, وبما في ذلك ضمن علاقات مع تلك القيادة الفلسطينية التي خنقتها الى درجة الاستقالة لشدة احتضانها, قد منحت هذا الانجاز لحزب الله الذي يمثل نهجاً نقيضاً لنهج التسوية. يضرب الكثير من الاسرائيليين كفاً بكف: لو اعطي هذا الانجاز فلسطينياً لحكومة محمود عباس لكانت النتيجة واحدة مع تقوية التيار المعاكس لنهج حزب الله في الرأي العام العربي.

 

هل تعمل اسرائيل بتعنتها ضد مصلحتها وتشجع من يستخدم القوة ضدها ويخطف جنودها؟

 

أولاً, هنالك معسكر اسرائيلي كامل يدعي ذلك, والصحف الاسرائيلية تعج بالتعليقات التي تنحو هذا المنحى في نقد التبادل الذي تم. وكان شارون سيستخدم ادعاءات أكثر حدة لو كان في المعارضة. ولكن يخطئ من يبحث عن أعقاب نهج سياسي او ايديولوجي كامل ومتكامل في مثل هذه الصفقات أو يعتبرها تعبيراً عن سياسة عامة. يستطيع شمعون بيريز أن يدعي أن الاتفاق هو "انجاز انساني وخسارة سياسية". ماذا يعني هذا الكلام بالضبط؟ مجرد صياغات وتخاريج. وفي وسع موشي قصاب رئيس الدولة ان يرفض اطلاق سراح أسرى "أيديهم ملطخة بالدماء", لكنه يؤكد في الوقت ذاته أن هذه القاعدة لا تشمل اطلاق سراح أسرى في مقابل الملاح المفقود رون آراد. يشكل الاخير اذاً حالاً خاصة لا تعبر عن نهج. عمّ تعبر اذاً؟ عن تحوله الى رمز في الحياة السياسية الداخلية الاسرائيلية. والسياسيون خائرو القوى أمام الرموز ولا يستطيعون الا تملقها علناً. وفي الواقع ان الموضوع برمته مرتبط بالرأي العام والتعامل مع الذات والهوية في اوساط الرأي العام وليس مرتبطاً بنهج مثابر.

 

والاسطورة الاسرائيلية ذات العلاقة: "لا نترك جرحى في ارض المعركة", ومنشأها, مثل اساطير عسكرية وقواعد سلوكية كثيرة أخرى, عند شارون ثم الوحدة 101 التي رباها شارون على هذه العقيدة المستخلصة من سيرته الذاتية, ومنها اشتق الاعتبار الآخر وهو ان على الجندي الاسرائيلي أن يقاتل وهو يعلم ان هنالك من يهتم بمصيره الفردي اذا أُسر.

 

تحولت هذه العقيدة الى "أسطورة" تندرج ضمن مركبات الهوية العسكرية الاسرائيلية. والاخيرة طاغية على المجتمع جاثمة على وعيه الجمعي بسبب كون الخدمة بوتقة صهر تكاد لا تستثني احداً. ولكن الايمان بالأسطورة شيء وتملق السياسيين لها أمر آخر. فالأسطورة تخلق ايضاً الانتهازية الكامنة في ضرورة محاباتها وتقديسها بوعي ومن دون ورع الى درجة تتحكم بسلوك السياسيين حتى من دون منطق سياسي واضح للخارج احياناً.

 

يشكو الساسة الاسرائيليون من هشاشة رأيهم العام الضاغط من أجل مبادلة أسير إسرائيلي بأربعمئة فلسطيني, كما يحذرون من الاغراء الكامن في هذه القاعدة لخطف جنود اسرائيليين والمبادلة بهم, لكنهم في الوقت ذاته يتباهون بقيمة الانسان في اسرائيل وبمدى اهتمام المجتمع والدولة بمصير الابناء في الاسر, أو حتى بمصير الجثث التي يجب ان تدفن بموجب "المراسيم اليهودية على ارض الوطن". وقد حررت اسرائيل من سجن الخيام في 25 حزيران (يونيو) 1998, 50 أسيراً في مقابل جثة جندي اسرائيلي. ويوم 21 تموز (يوليو) 1996 بادلت 123 جثة من شهداء المقاومة وأجبرت جيش لبنان الجنوبي على تحرير 45 معتقلاً في مقابل 21 معتقلاً من جيش لبنان الجنوبي لدى حزب الله وجثتي جنديين اسرائيليين كانتا في حوزته. وصفقات التبادل الأخرى, 20 أيار (مايو) 1985 المسماة "صفقة جبريل" معروفة ومشهورة وساهمت في تفجير الانتفاضة الاولى, وكذلك 24 تشرين الأول (اكتوبر) 1983 حين حررت اسرائيل 4500 اسير من سجن انصار في لبنان يضاف إليهم 100 اسير امني من الداخل في مقابل ستة جنود. "ارقام" تبدو اليوم متواضعة مقارنة بتلك "الارقام", لكن "ارقام" اليوم انجاز في الظرف الحالي.

 

ولا شك في ان هنالك فارقاً بين اسير الحرب الاسرائيلي القادم المتجاوز للحدود ضمن جيوش معتدية, وبين اسرى الشعب الواقع تحت الاحتلال او المعتدى عليه. وقد تشمل موجات الاعتقال في صفوف الشعب الواقع تحت الاحتلال اعتقالات ادارية قمعية من دون ان تكون للمعتقلين علاقة بالمقاومة, ناهيك عن الفارق بين الاحتلال ومقاومة الاحتلال.

 

وسيزعج الاعلام الاسرائيلي ألحنان تيننباوم وعائلته فترة طويلة بسبب الثمن الباهظ الذي كلف المجتمع الاسرائيلي استرداده, ناهيك عن الشك بدوافع تورطه في ايدي حزب الله. فالى جانب الاعجاب الذاتي والتفاخر بمكانة الانسان في مجتمعه والناجم ليس فقط عن قيم ليبرالية بل عن احتضان العائلة, العشيرة لإبنها, تنقلب هذه المشاعر الى نقمة وغضب ضد الفرد الذي كلف القبيلة هذا الثمن كأنه عبء عليها. انهما وجهان للعملة القبلية نفسها. وسيحدث السيد مصطفى الديراني العالم طويلاً عن وجه القبيلة الآخر الموجه نحو الآخر, وجهها الوحشي والبربري الذي خبره على جسده عندما كان تحت التعذيب بلا رحمة.

 

ولكن, لا بد من ملاحظة الانسجام القائم بين الرأي العام وبين الدولة ان كان ذلك في التفاخر بقيمة الانسان, والمقصود ليس الانسان بل العضو في القبيلة, وان كان ذلك في التبرم من الثمن الذي دفع لإنقاذه. في الاقتصاد غير السياسي فقط تتطابق القيمة مع الثمن. اما الافتخار بالقيمة والنفور من الثمن, فهما زوج لا ينفصل في الحياة السياسية الحديثة.

 

لا شك في أن هنالك من يطالب باستعادة السجين, الأسير في هذه الدولة. ولا شك في ان هنالك دولة تتجاوب مع الضغط وتبدو كأنها لا تبخل بجهد او نشاط ديبلوماسي, وهي تثير قضايا مواطنين مفقودين في بداية الحديث مع أي رئيس او مسؤول اجنبي, الى ان يضيق الاجانب ذرعاً بإلحاحهم. لكن المسؤول الاسرائيلي يريد ان يرضى عنه رأيه العام, لا ان يثير اعجاب مسؤول اجنبي ولا صحيفة اجنبية. ومن الصعب القول ان المسؤول العربي يبدأ او ينهي نقاشه مع مسؤولين اجانب بذكر معتقليه او مفقوديه لدى اسرائيل.

 

وفي حال لبنان الاستثنائية حيث ينسجم الرأي العام مع الدولة في انتظار المفقودين نتيجة للاجماع القائم على حق المقاومة, يجد الاسرى احضاناً حميمة في انتظارهم, تبقى اقل من الاهتمام الاعلامي, ولا ينتظرهم على الأقل تحقيق جديد. ولكن, هنالك حالات عربية لم تسأل عن معتقليها, ليس فقط لم تسأل بل عندما حان وقت اطلاق سراحهم رفضت الدولة استقبالهم. لماذا؟ هل الفارق ثقافي؟ لا شك في ان المواطن غير المرغوب فيه قد خرج الى عملية ضد اسرائيل, من دون أخذ رأي حكومته بل بتناقض معها, وهذه ليست حال اسرائيل وأسراها, فهم اسرى جيش يقاتل بأمر. لكن حال تيننباوم شبيهة بالحال العربية, على ذمة اسرائيل. صحيح انه لم يخرج الى عملية عسكرية بل بدافع الاثراء الشخصي, لكنه على أي حال لم يخرج بتكليف. هذا ما تدعيه اسرائيل باصرار بل ترشح اشاعات سلبية مجتمعياً عن نوع دوافع تيننباوم للذهاب الى لبنان. لكنه مواطن, وهو مواطن اسير في دولة "معادية", والمواطنة تحكم الاهتمام به على رغم الموقف منه. المواطنة فوق الخلاف, وفوق العقاب, وفوق الغضب ورغبة الدولة بالثأر. وسلوك الدولة هذا هو تعبير عن بناء أمة المواطنين وعن الشعور أن هنالك قاسماً مشتركاً بين الأفراد يتجاوز خلافاتهم ألا وهو المواطنة في الدولة, والوطنية المؤسسة عليها.

 

هذه معانٍ تتوافر ايضاً بين سطور التبادل. وتبادل الاسرى انجاز, والحرية فرح, ونتمنى ان يكون الفرح بشرى تزف لأسرى الحرية المناضلين ضد الاحتلال والذين بقوا في السجون الاسرائيلية. كنا نتمنى بالطبع لو شملت الصفقة عرباً من الداخل يقضون منذ سنوات احكاماً مؤبدة بتهم امنية تشمل العضوية في تنظيمات لا يقيم أي منها داخل الخط الأخضر. لكننا واثقون من ان اسرائيل استثنتهم وليس حزب الله. في هذه الحال الدولة التي يعتقدون أنهم مواطنون فيها تتعامل معهم كحالات جنائية من دون مزايا وحقوق السجن الجنائي المواطن, وكسجناء أمنيين من دون ان تفاوض في شأنهم مع أحد, فهي لا تقبل ان يفاوض بإسمهم طرف خارجي لأنهم مواطنون في اسرائيل من دون أن يعاملوا كمواطنين. في الماضي وافقت اسرائيل على التفاوض في شأنهم في "صفقة جبريل" كما يسمونها بلغتهم, لكنها تصبح أكثر فأكثر تصلباً في شأنهم. ويبدو ان اسرائيل دولة جميع مواطنيها عندما يتعلق الأمر باحتكار حق معاقبة المواطن, لكنها دولة جزء من مواطنيها عندما يتعلق الأمر بالحقوق.