لم تسمّ الأحزاب الاشتراكية الأولى نفسها بإسم الاشتراكية الديمقراطية جزافاً – بل كان ذلك تمسكا بالمعنى الأصلي للديموقراطية كحكم غالبية الشعب. والإشتراكية التي توهمت بإمكانية الإستغناء عن دمقرطة الحياة السياسية بحجة أن الدولة بمجملها أداة قمع لطبقة ضد طبقة وأن الهدف هو إنحلال الدولة بما فيها النظام الديمقراطي المرتبط تاريخياً بوصول البرجوازية إلى السلطة لم تحل الدولة، وهي من الناحية الأخرى لم تنظمها تنظيماً ديمقراطياً يقي من تعسفها كأداة قمع ما دامت قائمة.
وبذلك أقامت حكماً ديكتاتورياً حوّل الدولة إلى أداة تنظيم قمعي شاملة لكافة نواحي الحياة (توتاليتارية) بما فيها علاقات التبادل الإجتماعي والإقتصادي التي كان السوق الرأسمالي قد فصلها عن الدولة. وبقدر ما غيبت الدولة في النظرية بقدر ما طغت أهميتها في الواقع إلى درجة الشمولية. من سخرية التاريخ أن الحركة التي نظرت لزوال الدولة جعلت الدولة كلية القدرة.
ليست الإشتراكية بنظر اليسار الديموقراطي ملكية الدولة على وسائل الإنتاج، ولم تكن كذلك في يوم من الأيام، بل هي محاولات متطورة ومتغيرة باستمرار ذات بعد فكري وأخلاقي وسياسي لتنظيم المجتمع بشكل أكثر عدالة وأكثر مساواة وأكثر ديمقراطية. وقد تضمن هذا التوق للعدالة الإجتماعية في مراحل فكرية محددة نقمة عارمة على الملكية الخاصة باعتبارها أساس البلاء وأساس فساد المجتمع والأفراد تعود جذورها إلى مصلحين اجتماعيين منذ القرون الوسطى. وقد انتقل إعتبار الملكية الخاصة الخطيئة الأولى وأساس الإستغلال إلى الفكر الإشتراكي الحديث، الذي اقترح فيما اقترح الملكية العامة على وسائل الإنتاج بشكل خاص كأساس لتصفية الصراع بين الطبقات في المجتمع وكمقدمة لزوال الملكية الخاصة بشكل طبيعي. ثم جرى بنقلة فكرية وسياسية أحدثتها الثورة الإشتراكية في دولة غير متطورة رأسماليا تفسير الملكية العامة على أنها ملكية الدولة حتى لو كانت دولة غير ديموقراطية.
ولكن من بديهيات الفكر الاشتراكي التي نسيت أنه إذا كانت الملكية العامة على وسائل الإنتاج تعني ملكية الدولة فمن الواضح والبديهي أن تكون ملكية دولة ديمقراطية، أولاً لأن هذا الشكل من الحكم هو من الانجازات التاريخية التي تحققت ويعتبر الغاؤها موقفاً رجعياً، وثانياً لأن حكم العمال كان يعني في حينه حكم الأغلبية الساحقة من المجتمع. ولا يعني على الإطلاق حكم حزب، ولو كان حزباً ثورياً. ولم يخطر ببال أحد من مؤسسي هذا التيار أن تعتبر ملكية الدولة على وسائل الإنتاج تطبيقاً للإشتراكية وللعدالة الإجتماعية خاصة إذا كانت الدولة ديكتاتورية ومتخلفة ولم تمر على الإطلاق بمرحلة الديمقراطية السياسية.
ويحق لنا أن ندعي أن اليسار الأوروبي بشكل عام، ومنذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان أشد المدافعين عن توسيع الديمقراطية وحق الاقتراع العام وحرية الصحافة وغيرها، وأن العدالة الإجتماعية بالنسبة له هي تأسيس إقتصادي للمساواة وللحرية وليصبح بالإمكان بناء شخصية الإنسان الحر لتتطور مواهبه وطاقاته وتنطلق شخصيته بعد أن تحرر من وظيفة قطعة الغيار في آلة الإنتاج الرأسمالي، أو وظيفة المستهلك الذي تصمم شخصيته قوانين السوق الإستهلاكي الرأسمالي. بالنسبة لليسار الديموقراطي، لا تنفصل الديمقراطية السياسية عن الديمقراطية الإجتماعية. وقد تحجج اليسار غير الديموقراطي (ليس يسارا بتعريف الكاتب لليسار) بهذه المقولة لكي يمتنع عن تمييز الديموقراطية عن الديكتاتورية في النظام الرأسمالي مما أدى إلى تحالفات مشينة في بداية المرحة النازية. لا يرى اليسار الديموقراطي فرقاً شاسعا بين الديمقراطية والديكتاتورية في النظام الرأسمالي ذاته فحسب، بل هو يعتبر الديمقراطية نظاماً أفضل وأرقى من الديكتاتورية بمقياس تحرر الإنسان وحقوقه.
لقد أدت الثورات الصناعية المتتالية من الأتمتة إلى التقنية العليا وولوج العلوم الأكترونية الدقيقة والعلوم البيولوجية والوراثية في عمليات الإنتاج، أدى هذا كله إلى تغير سريع في علاقات الإنتاج والملكية السائدة كان أولها توقف فرز واستقطاب المجتمع إلى طبقتين: العمال والرأسماليين، ونشوء طبقات وسطى جديدة واسعة تعتمد على توسع متواتر لقطاع الخدمات ، وعلى توسع قطاعات إستهلاكية جديدة مثل صناعة أوقات الفراغ، ونشوء مهن مستقلة جديدة، كما تعتمد على ازدياد هائل في أعداد المتعلمين والفنيين والمهندسين ونشوء المهن الإدارية بمختلف أشكالها.
وقد عبر اليسار الديموقراطي عن نفسه في هذه الثورة المستمرة منذ بداية النصف الثاني للقرن العشرين بوسائل عديدة منها، النضالات النقابية التي نجحت في تحسين شروط عمل العاملين والتأمينات الاجتماعية وتحديد ساعات العمل والتأمين الصحي وغيرها، ولكنها لم تنجح كنضالات ضد البطالة في وقف إستثمار التفدم العلمي والتكنولوحي في عملية الإنتاج أو في وقف عملية إندثار صناعات كاملة تنتمي إلى الرأسمالية المبكرة. وقد تم عمليا تصدير هذه الصناعات إلى اقتصاديات الأيدي العاملة الرخيصة، فتحول الصراع القديم بين اليسار واليمين إلى صراع ذي طابع عالمي، يندرج ضمن الصراع ضد إسقاطات عملية العولمة.
كما عبر اليسار عن نفسه من خلال الحركة الطلابية والثورة الثقافية في الستينيات والحركات النسوية القوية التي تلتها وفي التضامن مع حركات التحرر الوطني ومناهضة السياسات الإمبريالية والحروب التي أنجبتها والديكتاتوريات التي اعتمدت عليها في العالم الثالث.
كذلك عبر اليسار عن نفسه بالإصرار على تحرير قطاعات اجتماعية معينة من قوانين السوق بالنضال من أجل إخضاعها لأهداف إجتماعية سامية ولو على حساب التنافس وقوانين السوق. وباعتقادنا فإن هذه الجبهة هي إحدى أهم الجبهات التي يعبر فيها اليسار عن ذاته. فمبدأ المساواة هو مبدأ سام لا تنتجه السوق عفويا, ويجب أن يتم فرضه على قوانين السوق، بالملكية العامة عندما يلزم، وبسياسة ضرائبية تهدف إلى إعادة توزيع الثروة عندما لا تصلح الملكية العامة بل تتحول إلى احتكار مسيء لمصالح غالبية الناس. ويطرح اليسار تحرير صحة الناس وطفولتهم وشيخوختهم من منافسة قوانين السوق بحيث يشرف عليها المجتمع بواسطة أجهزة رسمية وشبه رسمية خاضعة للمحاسبة والمساءلة، ويفترض أن يناضل اليسار لتحرير النفوس الإنسانية من المنافسة غير المنضبطة لصناعات التسلية والترفيه ووسائل الإعلام الخاصة، وذلك بإيجاد صيغة متوازنة بين حماية الناس وبين الحق في حرية التعبير.
يناضل اليسار من أجل إخضاع كافة المؤسسات الحكومية للمراقبة والمساءلة، بما فيها تلك الأجهزة التي كانت تضع ذاتها فوق المحاسبة بالاعتماد على ديماجوجيا وطنية أو بالإعتماد على شبح تهديد أمن الدولة أو وحدة الأمة وغير ذلك.
ويسعى اليسار إلى تنظيم الناس في مبادرات ذاتية وفي إدارات ذاتية ديموقراطية فيما يتعلق بأحيائهم وبيئتهم وأماكن عملهم، كما يسعى لتوسيع حصة وصلاحية هذه الإدارة الذاتية على حساب الجهاز البيروقراطي للدولة خاصة فيما يتعلق بدفاع الناس عن سلامة المتجمع والبيئة أمام دافع الربح غير الملجوم عند الشركات الكبرى، أو أمام تجاوزات أجهزة الدولة. ولكن اليسار من ناحية أخرى يحارب إستغلال هذه المبادرات لصالح ترسيخ ومأسسة النزعة المحافظة، التقليدية والمنغلقة التي قد يسهل إيقاع الفئات شعبية بشباكها. إذ قد تستغل هذه النزعة للإدارة الذاتية من أجل التقوقع ومحاربة الحداثة أو محاربة تشريعات تقدمية قد تقوم بها الدولة خاصةً لتعزيز الحريات الفردية أو مساواة الرجل بالمرأة. وقد يكون المجتمع في بعض الحالات خاضعاً لسيطرة قوى أكثر محافظة من القوى التي تسن القوانين في الدولة ويحاول بالتالي محاربة قوانين متنورة أو ديمقراطية أو علمانية.
توجد لدى اليسار نزعة فطرية سليمة تجعله دائماً مع الشعب ومع الجماهير، ولكن اليسار، كما نفهمه، لا يعتبر "موقف الجماهير" أو المزاج الجماهيري هو المقياس الوحيد للموقف السليم والتقدمي. ولذلك، ورغم صعوبة الأمر، يفترض أن يضع اليسار خطاً فاصلاً بين الشعبية والشعبوية ويعتمد التوعية والتنوير والإرتباط بمصالح الناس والجماهير الواسعة وليس مخاطبة غرائز ومشاعر الجماهير الواسعة في خطابه، وبذلك يختلف عن اليمين الشعبوي الذي قد ينجح أحيانا في التعبير عن مشاعر الجماهير أو تجييشها أكثر من اليسار ولكن إمتحان الفرق بين اليسار واليمين هو في التعبير عن مصالح الناس.
ينطلق اليسار، كما نفهمه، من إفتراض أن الحرية تحقق جوهر الإنسان، وتصبح بالتالي شرطاً لتطور قدراته ومواهبه ولتحقيق الطاقة الكامنة فيه. فقط اليسار الرومانسي يقف ضد التقدم والتطور. ولذلك فإن النضال ضد العولمة لا يستهدف تعميم الحاجات ولا تعميم التكنولوجيا وإنما يستهدف تكريس نفس العولمة للعجز عن تلبية الحاجات التي تخلقها وتعممها، وذلك بإنتاج أشكال جديدة من هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات، والتوزيع غير المتساوي للثروة، وتكريس حالة الدول المدينة والمدانة.
في الدولة الديكتاتورية يطالب اليسار بالديمقراطية السياسية كضرورة من ضرورات العدالة الإجتماعية وكشكل من أشكال الدولة أفضل وأكثر تقدماً من الشكل الديكتاتوري. ولكن اليسار لا يعتبر الديمقراطية مجرد اختيار الرئيس أو السلطة عبر الأغلبية في انتخابات عامة تجري تحت رقابة الأمم المتحدة أو دول أجنبية. وإنما وظيفة اليسار ومهمته التاريخية أن يبحث عن القوى الاجتماعية ذات المصلحة بنيويا بالنظام الديمقراطي وبقيام المؤسسات المدنية القادرة على مأسسة الديمقراطية في المجتمع. ليست الديمقراطية بالنسبة لليسار مجرد تعددية سياسية قد تتحول في بعض الدول إلى تعددية أقوامية (إثنية) أو طائفية تعيد إنتاج النظام التقليدي، بل هي ضمانات ممأسسة ومتفق عليها من قبل كل الفئات الشرعية الفاعلة سياسيا لحقوق المواطن السياسية والإجتماعية ولسيادة القانون واستقلال القضاء وحق محاسبة ومساءلة السلطة السياسية وحق المواطن بحرية إختيار العقيدة الدينية وحرية ممارسة أو عدم ممارسة الشعائر الدينية. الديمقراطية هي مجموعة ضمانات ممأسسة لعملية تداول السلطة دورياً وسلميا إذا ما رأت أغلبية السكان ذلك في الانتخابات، والديمقراطية هي مجموعة ضمانات ممأسسة لحقوق الأقلية.
لقد وجدت أزمة اليسار أكثر تعبيراتها وضوحاً بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. ولكنها تعود إلى ما قبل ذلك، إلى مرحلة نشوء النظام الرأسمالي المتطور القادر على تكييف نفسه مع تطور قوى الإنتاج. وازدادت حدة مع تغيّر البنية الطبقية لهذا النظام باتساع الطبقة الوسطى ونشوء فئة الإداريين والتكنوقراطيين الواسعة. ثم اتخذت بعداً جديداً مع نشوء الدول المستقلة في العالم الثالث وتنازل رأس المال العالمي بالنضال وبغيره عن الإستعمار السياسي المباشر، إذ تفككت حركة التضامن مع نضال المستعمرات التي غالباً ما قادها اليسار في القرن العشرين، وبعداً آخر مع إزدياد مطالب الطبقات الوسطى الجديدة بإصلاح تعامل النظام الرأسمالي مع قضايا ظروف العمل والبيئة والتأمينات الاجتماعية وزيادة الحريات السياسية والفردية وتوسيع حيز الإنسان الخاص مقابل حيز الدولة. في غمار هذه الأزمة نشأت نزعتان غيبيتيان لدى قوى اليسار المأزومة التي لا تجد لها خصوصية سياسية واجتماعية بعد أن فقدت القاعدة الإجتماعية الطبقية والسياسية الحزبية التي تستند إليها:
1. في العالم الثالث إنزلق قسم من اليسار إلى التمسك بتعابير ومصطلحات معادية للتطور والتقدم باتت شعارات أصولية محلويّة تناهض الحداثة. وبحث هذا الجزء من "اليسار سابقاً" عن قواسم مشتركة مع الأصولية في العداء للغرب وللعولمة، متجاهلا، بل ومتسترا على حقيقة، أن هذا العداء مدفوع بمنطلقات مختلفة. وفي سبيل هذه القواسم المشتركة تم تأجيل قضايا الديمقراطية والعدالة الإجتماعية كما تم تحييد النضال من أجل عقلنة وعلمنة العلاقات السياسية والإجتماعية في بلده. لقد بات هذا اليسار خاضعاً للهيمنة الثقافية للأصولية التي نجحت بدورها في "تديين" ثم تبني جزء من خطابه السياسي التقليدي، خاصةً ذلك المعادي للغرب وللديمقراطية باعتبارها شكل حكم البرجوازية. واشترك هذا اليسار مع الأصولية في عدم القدرة على استيعاب تطورات الحداثة وآثارها المشوهة على مجتمعات العالم الثالث.
2. وقد إنزلق قسم آخر من اليسار إلى التخلي الكامل عن قيم اليسار وخطابه خاصة تلك التي تؤكد على العدالة الإجتماعية والمساواة وتحول إلى إستيراد "وصفة الديموقراطية" العلاجية على صينية أو على دبابة، لا كعملية دمقرطة نضالية سياسية واجتماعية ضمن المجتمع المعطى، بل كمقولات جاهزة، تردد كنوع من التقليعة السياسية دون مضمون سياسي واجتماعي، ودون تأثير حقيقي على المجتمع والسياسة. ولكن هذه النزعة أدت إلى مراجعة فكرية نقدية ضرورية لموقف أحزاب اليسار من الديموقراطية. وعندما انزلقت هذه المراجعة النقدية إلى معاداة الحزبية والحزبيين، وإلى معاداة عملية بناء المؤسسات، وأدارت ظهرها لمجتمعها في جمعيات نخبوية غير ديمقراطية في العادة لا علاقة لها بالواقع السياسي القائم ولا بصراعاته باتت هذه المراجعة النخبوية في الواقع معادية للديمقراطية، بل ومجهضة لعملية التحول الديمقراطي بتقديمها صورة وهمية عن الديموقراطية عديمة العلاقة بالقوى الإجتماعية والسياسية الفاعلة في المعركة من أجل الديمقراطية.
لم يكن بوسع واقع اليسار، هذا المتمسك بأصولية المصطلحات والنصوص وذلك المتخلي عنها وعن القيم اليسارية معها، أن ينجب أي فكر يساري ديموقراطي خلاق قادر على تحديد تحدّيات المرحلة وأشكال مواجهتها سياسياً على الطريق من أجل سعادة الإنسان وحريته في أوطاننا. وباعتقادنا فإن صياغة هذا الفكر غير ممكنة دون الربط بين قيم اليسار: المساواة، العدالة الإجتماعية، الحرية، قيم التنور الاجتماعي والتقدم وعقلنة وأنسنة العلاقات الاجتماعية والسياسية وبين الديمقراطية كنظام حكم والقضية القومية – فالديموقراطية والعدالة الاجتماعية هي أصدق الطرق للتعبير عن إرادة الأمة ولا يكتمل مبدأ حق تقرير المصير دونهما. كما أن الحديث عن وحدة الأمة بغياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية هو خداع. والثقافة السياسية اليسارية والديمقراطية غير قادرة على التغلغل والإرتباط بقضايا الناس وحياتهم وثقافتهم دون عمل سياسي ودون الإرتكاز إلى الإنتماء للشعب وللناس ودون معالجة قضايا الناس وأسباب معاناتهم الحياتية اليومية في الدول القائمة.