تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

المواطنون العرب في الداخل ونظام الوصاية

2007-04-19

يصعب تفسير شدة حملة التحريض الأخيرة على المواطنين العرب في الداخل، وعلى تيارهم الوطني بشكل خاص، بفتح التحقيق ضد نائب عربي في البرلمان بتهم أمنية. ولا شك أن المؤسسة الصهيونية بيسارها ويمينها تصفي حسابا طويلا مع أفكار طرحت ووصلت مؤخرا حد التفتح بألف لون وزهرة، وشكلت اقتراح مشروع فعلي للجماهير العربية. ولا يوجد مشروع يمكن تسميته مشروع شامل للجماهير العربية تتميز به سوى: أولا، ان الدولة لكي تكون ديمقراطية ولكي تتحقق فيها المساواة يجب ان تكون لجميع مواطنيها، وهذا يعني ان المساواة والديمقراطية إذا طرحت بشكل مثابر وصحيح لا يصح ان تكون اندماجية في الصهيونية او على هوامشها، بل مناقضة منافية لها. وثانيا، أنه في هذه البلاد تعيش قوميتان واحدة منهما هي قومية الأصلانيين، وأن العرب الذين بقوا هم جزء من القومية الأصلانية. هذا إضافة لحل القضية الفلسطينية حلا عادلا. وهم يعلمون أن هذا المشروع لم يعد حزبيا بل اصبح إرث كل شاب وفتاة عربية يرفضان التخلي عن عروبتهم وعن المساواة الكاملة، ويرفضون نظام الوصاية الاستعماري الطابع.
 

ويصادف المواطن العريي عشرات الأنواع من الوصاية لا يكاد يدركها لكثرتها، نذكر منها ثلاثة فقط: 1. وصاية على الحقوق: يعتبر كل حق للعرب في هذه البلاد منحة ومنة من الدولة اليهودية توجب التسبيح بحمدها وتهليل الفرق في مستوى المعيشة والحقوق السياسية بين المواطنين العرب داخل الخط الأخضر وفي قطاع غزة مثلا، أو ان توجب التعبير عن امتنانهم لضمان حق الكلام وحرية الرأي قياسا بالدول العربية، وعلى تمتعهم بديمقراطية إسرائيل في مقابل فقدانها في العالم العربي.

والحقيقة أن هذه الوصاية قد انطلت على البعض في الداخل ممن تذوتوا فكرة التفاخر المشوه بإسرائيلية غير قائمة إلا في خيالهم. أما المشاهد العربي المطلوب منه تذوت الهزيمة، فيرى عربا من الداخل يعبرون عن رأيهم بحرية في التلفزيون فيحسدهم على هذه النعمة، ويرى رئيسا إسرائيليا يحاكم فيحسدنا على هذه النعمة. فقد اخذوا الوطن كله ومنحوا الناس حرية الكلام.
 

ولا شك أن هذا الموقف يتضمن محوا للتاريخ بمعنى التعامل مع إسرائيل كدولة كانت دائما هنا، وهاجرت اليها اقلية عربية باحثة عن حياة افضل. وهذا يعني ان هذه الأقلية يجب ان تكون موالية لإسرائيل، وطنها الجديد الذي هاجرت إليه، مقارنة الحياة فيها ببلدان الأصل. يسقط هنا طبعا الوعي التاريخي بأن هذه الديمقراطية هي ديمقراطية قامت على خرائب شعب، وهي تعيد انتاج ذاتها كديمقراطية داخل حدود جماعة وهوية استيطانية، وأنه يتم التسامح مع العرب في إطار هذه الحدود فقط. وعند حصول اي تحد لهذه الحدود تسقط الديمقراطية الإسرائيلية في الامتحان، إن كان ذلك بإطلاق النار على متظاهرين عرب أو بنزع حصانة نائب ومحاكمته ، وأخيرا في الجوقة الإعلامية المنسقة التي تخرج دفعة واحدة مثل قبيلة بدائية تقرع طبول الحرب.
 

لماذا نتحدى هذه الحدود ونحاول توسيعها باستمرار؟ لوم لا نقنع بالعيش في مستوى الحياة الإسرائيلي ضمن هذه الحدود، وكمواطنين من الدرجة الثانية فهذا على كل حال أكثر من خبزنا كفاف يومنا؟ والحقيقة أنه في هذه الأثناء تتحول القرى والمدن العربية الى جيتوات واحياء فقر ، ونظام التأمينات الاجتماعية الإسرائيلي يحمي الفقراء من الجوع ولكنه يكرس فقرهم، كما أنه من ناحية أخرى وخلافا لآفاق التطور العربي فإن الأفق في إسرائيل مسدود تماما أمام المثقفين العرب والطبقات الوسطى العربية والبرجوازية وغيرها. 
 

لا مجال للتطور في الحدود التي تضعها إسرائيل. ولذلك يجب توسيعها باستمرار. وحتى دون ذاكرة تاريخية ليس صحيحا ما يقوله بعض المعتدلين العرب الذين يلوموننا على أننا لا نكتفي بدور قوة احتياط لمعسكر السلام الإسرائيلي، وأن على العرب في إسرائيل ان يشكروا ويسبحوا بحمد الواقع الإسرائيلي وأن يفرحوا به. إنهم يبررون اعترافهم ليس فقط بإسرائيل بل ايضا بطابعها الصهيوني، ويبررون أيضا التنازل عن حق العودة لكي تحافظ على هذا الطابع، ومن وجهة نظرهم يجب أن يقتصر دور عرب الداخل على تأييد هذا المسعى. ولذلك يرى بعض العرب أن "العربي الجيد" بنظر المؤسسة الصهيونية هو العربي الجيد فعلا، اي المريح لهم أيضا في هذه المرحلة.

وصاية على علاقة العرب مع هويتهم العربية: لا تكتفي إسرائيل بوجود عملاء او أصحاب مصالح مرتبطين مباشرة بها وبسياستها، بل تحاول أن تفرض حدودا بين المواطن العربي العاي وبين بقية العرب بحيث لا يصح له التضامن مع أعدائها، وكأنه أعداءها هم أعداؤه. والعدو في مرحلة هو الشعب الفلسطيني او لبنان او سوريا أو المملكة العربية السعودية. ويرفض الوعي التاريخي ان تجعل إسرائيل من المنطقة العربية عدوا لعرب الداخل. ولكن حتى بدون وعي تاريخي يسأل السؤال: كيف يمكن الوقوف مع المعتدي وعدم التعاطف مع ضحية العدوان؟ طبعا تفضل إسرائيل ان يشكل مواطنوها العرب جسر سلام مع العرب، ولكنه يجب أن يكون رأس جسر لإسرائيل وليس للعرب. في هذه الحالة تصبح العلاقة مع العرب محمودة لأنها تسخر كأداة تطبيع في خدمة إسرائيل. اما العلاقة الطبيعية الراغبة في التواصل مع المجتمعات والدول العربية من اجل الحفاظ على الهوية الوطنية والقومية فهي مرفوضة ويتم التحريض عليها لانها تشب على طوق الوصاية.
 

لقد حرضت إسرائيل ضد اي محاولة عربية محلية جدية لنسج علاقات مع العرب خارج نظام الوصاية. وكان دائما عملاء ومخبرو إسرائيل العرب من سياسيين وغير سياسيين، على رأس حملات التحريض ضد هذا النوع من العلاقات مع العرب الذي لا يدخل ضمن نظام الوصاية فيهدد مكانتهم ودورهم ايضا في إسرائيل. ومنعت إسرائيل وحرمت وسنت القوانين لكي تمنع تواصلنا. وقد بلغت الوصاية بها انها باتت تترجم كل علاقة مع العرب تخرج عن إطار الوصاية إلى علاقة أمنية. وهذا كما يبدو سهم أخير في الجعبة التي استنزفت الأدوات الدستورية. هذه الرمية الأخيرة والخطيرة والتي تتكشف فيها الأنياب يجب الا تخيف الوطنيين، اذ من الصعب استخدامها بكثافة، ومن الواضح انها تستخدم حاليا في حالة فردية يعتبرونها حاليا خطيرة سياسيا بشكل خاص، و أفضل طريقة لإحباطها هي الا يسمح لها أن تؤثر على الموقف. فتعليم الناس درسا بشخص لا يعني ان يتصرف كل الناس بموجب ذلك، وإلا يكونوا قد نجحوا في تلقين الناس درسا فعلا.
 

الوصاية الأخلاقية: وهي أخطر أنواع الوصاية لأنها تفرض تفوقا أخلاقيا للصهيونية و"اليشوف" على العرب، الذين لا ينتظرون فقط الرضى من اليسار الصهيوني ومنحهم علامة "العربي المعتدل" أو "الجيد" او "المتطور" او "العقلاني" "الذي لا يبدو حتى عربيا"، بل يخشون اشد الخشية ويصابون بالهلع من الهجوم الكاسح اذا تم على شكل جوقة تحريض صهيونية. إن أخطر ما يمكن أن يحصل للمستعمَر هو ان يجمع بالطبل ويجزر بالعصا من قبل المستعمِر، او ان يضيع عقلة من تريبت الإعلام الإسرائيلي على كتفه أو ان يفقد شجاعته من التحريض عليه وإدانته كما فعل المستعمرون في الماضي ضد كل من لم يعحبهم من قيادات المستعمَرين في العالم الثالث كله. 
 

ليست إسرائيل ديكتاتورية، بل هي ديمقراطية يهودية، وكيان استعماري في كل ما يتعلق بسلوكها مع العرب، بما في ذلك مواطنيها الذين تواجدوا على الأرض بعد ان انتهت حرب عام 1948، أي ما تبقى من الأغلبية العربية في هذه البلاد.
 

يستمد هؤلاء حقهم بالوجود على الأرض من وجودهم الفعلي عليها جيلا بعد جيل، وبهذا المعنى، يضاف إليه البعد الثقافي والديني والقومي وغيره، هذا هو وطنهم. والمقصود أن وطنهم ليس إسرائيل، بل البلد الذي قامت على أنقاضه دولة إسرائيل. ولذلك فإن وطنيتهم لكي لا تكون مشوهة هي وطنية فلسطينية وليس إسرائيلية. 
 

ولكن التناقض يكمن في أن حق الوجود على الأرض بموجب قانون المحتل يستمد من كونهم مواطنين في الدولة التي احتلت أرضهم وليس كأبناء الوطن الذي تم احتلاله. هكذا تقلب السياقات التاريخية رأسا على عقب. ويصبح المواطن بحاجة أن يثبت بالأوراق الإسرائيلية حقه بالوجود في هذه البلاد. من شهادة الولادة وحتى بطاقة الهوية والجواز، وأن يحمل بعضها في جيبه دائما خشية المباغتة البوليسية، ولتمييزه عن سكان المناطق المحتلة عام 1967 الذين يمنع وجودهم في هذا الجزء من الوطن دون تصريح.
 

بدون جنسية إسرائيلية أو "بطاقة هوية" إسرائيلية يسمح للعربي في أفضل الحالات أن يبقى سائحا مدة ثلاثة أشهر في وطنه، وذلك في حالة حصوله على تأشيرة دخول. وهي تأشيرة يسعى للحصول عليها الكثير من فلسطينيي الضفة والقطاع المتواجدين في الخارج، وقسم منهم يعاد من المطار بعد حصوله عليها، فحتى الجواز الأجنبي لا يسعفه أن يتحول إلى سائح "عادي" في بلده على الأقل.
 

لقد تحولت المواطنة في كيان استعماري إلى أداة تهجير، إلا إذا لعب الفلسطيني اللعبة على ملعب هذا الكيان وبموجب قوانينه لتنجح أقلية فقط في البقاء على الأرض كما يسمح التوازن الديموغرافي، والمحاكم إسرائيلية، وكذلك القانون. عليك أن تثبت له ولذاتك أنك "إسرائيلي"، أي أن تتشوه، وذلك لكي تبقى في فلسطين. أما ان تعود إلى فلسطين، فهذا غير وارد طبعا. وهذا يفترض أن تقاومه الحركة الوطنية، فالوجود العربي الفلسطيني على الأرض وحقوقنا لا تشتق من هذه "الإسرائيلية". كل هذا يهون مقابل مشاعر الرضى والاكتفاء التي ترتسم على وجوههم عندما يشعرون أن هويتهم أو جوازهم أو إقامتهم مرغوبة من قبل العربي. إنها عملية تضليل وخداع فريدة ونادرة لا مثيل لها في التاريخ الحديث: احتلوا البلد وطردوا السكان ثم منع من تبقى من الإقامة في البلد دون بطاقة هوية إسرائيلية أو دون جنسية، ثم يتظاهرون بالدهشة من جاذبية الجنسية الإسرائيلية للناس ورغبتهم بإقامة دائمة في إسرائيل، ويتظاهر بعض الإسرائيليين أنهم يفهمون من هذا كله أن حياة العرب فيها رائعة إلى درجة التشبث بها. وكأن هذا هو الدافع. ولا شك أن قسما من الناس نسي فعلا هذا السياق الاستعماري المقلوب للتمسك ببطاقة الهوية أو جواز السفر، وراح يفتخر به.
 

لسان حال التفكير اليميني الجديد في إسرائيل يقول: انس حقك في هذه البلاد كفلسطيني، وحقك أصلا ليس إيديولوجيا ناجما عن كون الدولة قامت من أجلك، كما في حالة المواطن اليهودي، فالمواطنة الإسرائيلية لا ترتبط بشخصك كيهودي، ولا تلازمك كصفة من صفاتك، إنما منحت لك هبة لكونك إسرائيلي ب"صدفة" أو "مفارقة" وجودك هنا عند "قيام الدولة"، أي أن علاقتك بالدولة هي الأساس. وهي علاقة قائمة على الولاء أو الخيانة. أن يخون الفلسطيني إسرائيل. هل هذه جملة مفيدة؟ هذا ما يحاولون فرضه الآن. وهذا ما يجب تفويته عليهم.