عزمي بشارة
يصعب الحديث في الفضاء العربي بموضوعية عن تعاظم الدور التركي السياسي في المنطقة، وعن التطور المشهود في الموقف التركي لصالح القضايا العربية، وعن أداء تركي يستحق أكثر من ثناء. ومصدر الصعوبة أنه منذ أكثر من عام تحولت تركيا إلى متنفس لإحباطات المجتمعات العربية، وإلى مشجب مريح تعلق عليها الأمنيات، وليس الآمال فحسب. ومرد هذا إلى أسباب من بينها غياب الدولة العربية الفاعلة القائدة التي تمثل القضايا العربية على المستوى الدولي وفي مواجهة إسرائيل.
كذلك بروز حاجة لدى من نصبوا أنفسهم ممثلين عن هويات (أو عن انتماءات مستجدة ومتحولة إلى هويات) إلى دور "دولة سنيّة" (وكلها مصطلحات عربية راهنة لا علاقة لها بالواقع ولا بالتاريخ) في مقابل دور إيران المؤيد للمقاومة والقضية الفلسطينية، خاصة إزاء فراغ خلّفه غياب مصر والسعودية أو دور محرج تقومان به في قضايا الأمة (وهو محرج إذا نظر إليها كـ"دول سنيّة"، وهو مصطلح مغلوط مرة أخرى) خاصة إبان الحرب على لبنان من العام 2006 والحرب على غزة والموقف من حصارها. كانت هنالك حاجة لدولة يمكن تقديمها كدولة مسلمة وسنيّة وتلعب دورا مشرّفا في هذه القضايا.
ومن هنا يُضخَّم دور تركيا إلى دولة عثمانية جديدة، أو حتى خلافة تقود الإسلام والمسلمين، كما يُضخَّم العداء التركي لإسرائيل إلى درجة أن البعض تساءل هل تهاجم تركيا إسرائيل بالسلاح بعد الهجوم على أسطول الحرية. ويجري التعامل مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من خلال صورة البطل المخلص للأمة القائمة في الأذهان... فـ"صلاح الدين لم يكن عربيا" على رأي من يجادل. وكأنه كانت هنالك قوميات ودول قومية حديثة في عصر الناصر صلاح الدين.
ومن ناحية أخرى فإن أصحاب الموقف المؤيد للتسوية دون تحفظ، والذين تحوّلوا إلى مساعد تنفيذي للدور الأميركي، ولا يحلمون إلا بدور الـ"صاحب" أو المرافق المحلي للبطل الأميركي (موفد المخابرات البطل أو الصحفي أو المغامر المستكشِف في فيلم هوليوودي) يصابون بالإحراج تحديدا من مواقف تركيا الجريئة المنحازة للقضايا العربية والمعبَّر عنها مؤخرا. ويرغبون في تحجيمها، أو التقليل من شأنها. خاصة إزاء الأداء التركي الرصين والمجتمع مع الاحترام الذاتي، وخاصة أنه يترجم حالا على المستوى الشعبي إلى كرامة تركية مقابل ذل رسمي عربي.
ويجري التشكيك بالموقف التركي بواسطة السخرية، وهي سلاح يفتك بصاحبه، خاصة إذا كانت تعبيرا عن مرارة أو حتى "غيرة شخصية" (لا أشك بوجودها لدى بعض الحكام العرب إلا إذا نسينا أن الحكام بشر ودنيويون جدا). كما يجري التشكيك بوصف هذه المواقف مجرد تعبير عن مصلحة تركية، وكأنها لا تحمل جديدا سوى الرغبة التركية بالزعامة ولعب دور قيادي.
يثبت هذا الموقف المتبرم من الأداء التركي أن اعتراض هذه القوى العربية على المقاومة لم يكن في يوم من الأيام نابعا من كونها تؤيد الكفاح السلمي المدني، بل لأنها وضعت نفسها في موقع سياسي يعادي أي موقف كفاحي. واعتراض أصحاب هذه المواقف على القوى العربية المؤيدة للمقاومة ليس ناجما عن كونهم يؤيدون الديمقراطية وينفرون من الاستبداد، ولا حتى عن كونهم يؤيدون الواقعية ويرفضون السياسات المغامرة. فتركيا دولة ديمقراطية بمقاييس منطقتنا بالتأكيد. ونحن نجازف بالذهاب حد القول إنه حين تتحقق الديمقراطية في الدول العربية فسوف يصعب أن تبدو أفضل من التركية، وسوف يشقّ عليها أن تكون أكثر علمانية من تركيا الحالية.
وخلافا لما يحلم به بعض المثقفين العرب سوف يلعب الدين في أحزابها الديمقراطية، إذا نشأت وخاضت تحدي الحكم، دورا لا يقل أهمية عن دوره في حزب العدالة والتنمية. وهو بالمناسبة ليس حزبا دينيا ولا إسلاميا بموجب تعريفه لذاته. وهذا التعريف الذاتي ليس "تقية"، كما يدعي (بتحبب!!) بعض الأخوة الإسلاميين الذي يحملّون الحزب بعضا من أمنياتهم. فحزب العدالة والتنمية هو حزب إسلامي إذا أخذنا رؤيته للإسلام كهوية ثقافية حضارية يريدها لبلاده كي تستعيد توازنها وتحقق طاقاتها الكامنة. وتركيا هي أيضا دولة حليف للولايات المتحدة، وعضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو). والواقعة الأخيرة، واقعة الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية المدعوم من تركيا، والتي أدت إلى التصعيد، هي عبارة عن عدوان إسرائيلي على نضال سلمي مدني كلاسيكي، وليس على عملية مسلحة.
كنا نعرف الجواب على هذه الحيرة. فنقّاد المقاومة عربيا غالبا ما يتشدقون بالديمقراطية سياسيا، ولكنهم في الواقع ليسوا ديمقراطيين. ويتشدقون بالنضال السلمي، ولكن النضال السلمي الفعلي يحرجهم، والواقع أنهم ضد أي نضال، بما في ذلك الخروج في مظاهرة حقيقية (أقصد مظاهرة وليس "نزهة" مصور للعلاقات العامة) أو انتفاضة شعبية ضد إسرائيل. وإلا لكانت تعممت نماذج قرى بلعين ونعلين النضالية بين مروجي التسوية. مؤيدو التسوية المناهضون لمقاومة الاحتلال ينفرون أيضا من أي خلاف مع الولايات المتحدة حتى لو جاء من موقع الحليف، فالنموذج الذي يريدونه هو التبعية الكاملة. كنا نعرف ذلك. ولكن الأحداث تعود لتؤكده.
باختصار لدينا أمة بلا قيادة، تسقط إحباطاتها وخيباتها وأمانيها على الدور التركي، وقيادات عربية رسمية لا علاقة لها بمنطق الدول. وتشكّك بأي دولة تتصرف كدولة أو تقدم نموذجا مختلفا لطريقة ومنطق الأسر الحاكمة في التعامل مع القضايا.
يترك هذا الوضع القائم على مستوى التعامل مع الرأي العام العربي تحديدا، مجالا ضيقا للتحليل العلمي للدور التركي. ومع ذلك سوف نحاول في هذا الطرح القصير تحليلا عقلانيا للدور التركي الحالي في سياق الصراع العربي الإسرائيلي.
خلفية تاريخية
في العالم 1949 كانت تركيا أول دولة ذات غالبية مسلمة تعترف بإسرائيل. ووصل بها خيار التحالف مع الغرب أن أرسلت بضع وحداتها إلى كوريا رمزيا إلى جانب الولايات المتحدة (التي حاربت بعلم الأمم المتحدة في حينه)، كما كان واضحا أنها جزء من التحالفات المحيطة بالعرب والمعادية لحركتهم القومية... وقد نشطت دول المحيط هذه، باكستان وإيران وتركيا في إقامة حلف السنتو في الخمسينات. وتحولت فعلا إلى قوى متعاونة مع إسرائيل (ربما لا ينطبق هذا التعميم على باكستان، ولكنه انطبق على إثيوبيا على التخوم الجنوبية الغربية للأمة).
وقد شملت العلاقات تعاونا ثقافيا واقتصاديا وعسكريا. وما زالت هنالك في شرق تركيا نقاط مراقبة وتنصت مخابراتية إسرائيلية على إيران حتى يومنا (حسب الصحف الإسرائيلية)... وقد كانت العلاقات التركية السورية متوترة دائما على خلفية الصراع التاريخي على بلاد الشام، وباحتلال وضم إقليم الإسكندرونة من قبل تركيا، وبالموقف التركي من الوحدة السورية المصرية وتهديدات تركيا المستمرة لسوريا، ودعم سوريا لحزب العمال الديمقراطي الكردستاني الذي انتهى بتهديدات تركية عسكرية مؤثرة في نهاية فترة حكم الرئيس حافظ الأسد. كما أدى التدخل التركي المتكرر في شمال العراق في ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، وبناء السدود على دجلة والفرات إلى توترات مع العراق وسوريا في التسعينات.
ومؤخرا نشر بالتفصيل أن الطائرات الإسرائيلية، التي قصفت موقع دير الزور السوري في سبتمبر/ أيلول 2007 بادعاء أنه تجري فيه محاولة إقامة مفاعل نووي، قد حلّقت عبر الأجواء التركية، وما ذلك إلا من بقايا العلاقة العسكرية التركية الإسرائيلية التي توّجها اتفاق التعاون الإستراتيجي من العام 1996. وأشك في هذه الحالة أن يكون الجيش التركي قد أعلم السياسيين من حزب العدالة والتنمية، بإتاحته استخدام الأجواء التركية للطائرات الإسرائيلية، هذا إذا كان قد سمح بذلك فعلا.
عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بعد فشل تجربة الرفاه وأعاد تعريف ذاته، كان أول امتحان له هو احتماء حكومته بأغلبيتها البرلمانية من طلب الولايات المتحدة عام 2003 استخدام الأراضي التركية للهجوم على العراق. لقد تمكن من رفض هذا الطلب الأميركي محتميا بإجراء ديمقراطي حقيقي وقواعد شعبية فعلية.
هذا السلوك الجديد لحليف مشرقي للولايات المتحدة سوف يشكل عينة تمثيلية عن سلوكه السياسي، إنه يستخدم الديمقراطية كتعبير عن الإرادة السيادية لرفض التبعية للولايات المتحدة. وربما كان ذلك أهم ما يجدر بالرأي العام العربي الاستفادة منه في هذه التجربة التركية المشرقية الرائدة.
تدهور العلاقة التركية الإسرائيلية
بعد الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية الذي نُظِّم بقيادة جمعيات أهلية تركية وبدعم من القوى الإسلامية من قواعد حزبي السعادة والعدالة والتنمية في تركيا واستشهاد 9 من النشطاء الأتراك على السفينة مرمرة، شهدت المنطقة والعالم على مستوى مجلس الأمن تسارعا في تدهور العلاقة التركية الإسرائيلية. ولا شك أن هذا التصعيد قد واصل تفاقم أزمة تشوب العلاقة بين الطرفين. ومن هنا تسربت إلى التحليلات العربية نزعة لقراءة هذا التدهور كخط متصاعد ومستمر منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002. وغالبا ما تعدد الوقائع التالية في هذه القراءة:
1. تصريحات أردوغان منذ بداية فترته الثانية والتي تكرر ربط تطوير العلاقة التركية مع إسرائيل بمدى إحراز تقدم في عملية السلام. وتعليقا على هذا الدليل الذي يُجلَب لإثبات كون التدهور قديما نقول "صحيح أن هذه التصريحات أغضبت إسرائيل. ولكنها أتت في سياق البحث عن دور تركي سياسي يتلاءم مع إدراك تركيا لدورها الجديد بوجود حزب العدالة والتنمية في الحكم، وهو دور يتطلب موقفا أكثر توازنا بين العرب وإسرائيل بدل الانحياز للموقف الإسرائيلي، والتسليم بأن عملية السلام هي احتكار أميركي".
2. تطوّر العلاقات التركية السورية بشكل لافت. وقد تحوّل الدور من محاولة تركية فعلية للوساطة. وهو ما شجعته إسرائيل والولايات المتحدة بتمكين تركيا من لعبه رغبة منها بوجود قائد معتدل ذي مصداقية للعالم الإسلامي، ولإبعاد سوريا عن إيران. ولكن دور تركيا فُهِم على أنه ينحاز بالتدريج إلى الموقف السوري، وفي الوقت ذاته لا ينجح، وربما في الواقع لا يرغب بإبعاد سوريا عن إيران.
3. استقبال مجموعة من قيادات حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعد فوزها بالانتخابات التشريعية وتشكيل (الحكومة الفلسطينية) في عام 2006. وهو استقبال لم تعقبه اجتماعات على أعلى مستوى، وتوقفت الدعوات منذ أحداث غزة وانهيار حكومة الوحدة الوطنية. وكان واضحا أنه بالاتصال مع حماس استثمرت تركيا رمزيا وجود حزب ذي طابع إسلامي على الأقل في الحكم. وراهنت على إمكانية أن تلعب دور الوسيط في المستقبل. فهي حاولت علنا إقناع الغرب وحماس في الوقت ذاته بضرورة إشراك ومشاركة حماس في ما يسمى بعملية السلام.
4. واقعة الصدام بين أردوغان والرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في نهاية يناير/ كانون الثاني 2010 حين حاول الأخير تبرير العدوان الإسرائيلي على غزة أمام رئيس حكومة تركي شعر بالإهانة والخداع لأن رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت زاره في أنقرة في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2008 قبل يوم واحد من العدوان على غزة دون أن يطلعه على الأمر، وقد شعر أنه طعن في ظهره لأنه الوسيط المتورط في عملية تفاوض جارية مع سوريا، إذ لا بد أن يفشلها هذا العدوان. هذه الواقعة مهمة طبعا ليس بحد ذاتها بل لأنها أول مؤشر على حصول تحوّل حقيقي. فمنذ العدوان الإسرائيلي على غزة تطورت ديناميكية سلبية في العلاقات بين الطرفين. ولا نعتقد أن هذه الديناميكية كانت خيارا تركيا واعيا منذ البداية. لم يكن هذا تطورا حتميا للأمور، بل كانت له علاقة مباشرة بالغطرسة الإسرائيلية، وبعدم قدرة قباطنة الكيان الصهيوني على فهم ما يجري في دولة حقيقية من جدلية بين القواعد الشعبية لحزب حقيقي، وبين قيادة الحزب من جهة، وتطور العلاقة مع العالم العربي من جهة أخرى.
من هنا استمرت إسرائيل في نهجها عبر ما تعرّض له السفير التركي لديها حين استدعاه نائب وزير الخارجية إلى مبنى الوزارة، حيث تعامل معه بطريقة مسيئة وخارجة عن الأعراف الدبلوماسية. كانت هذه حماقة ناجمة عن الغرور وفرصة جديدة لأردوغان ليس فقط لتمثيل الخيار الإسلامي الشرقي على مستوى هوية تركيا، بل أيضا الكبرياء القومي التركي، ما وسع قاعدته الشعبية وأدى لإحراج أحزاب اليمين العلمانية التركية المؤيدة لعلاقة أوثق مع إسرائيل... لقد اضطرت جميعها أن تدين السلوك الإسرائيلي من منطلق كرامة تركيا.
وبعد الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية ألقى أردوغان خطابا في مجلس الشعب التركي اعتبر فيه الجريمة الإسرائيلية وقتل تسعة من الأتراك كـ "عمل دنيء وغير مقبول" وأن عليها دفع ثمن ذلك، كما اعتبر رئيس تركيا عبد الله غل أن العلاقات التركية الإسرائيلية لن تعود إلى ما كانت عليه قبل هذا الاعتداء. واستدعت تركيا سفيرها من إسرائيل، وألغت مناورات عسكرية كان من المقرر إجراؤها.
ومن الجدير ذكره أن لسحب السفير التركي من تل أبيب سوابق. ففي عام 1982 سحبت تركيا سفيرها احتجاجا على الحرب على لبنان، وقد احتاج الأمر عشر سنوات لإعادته. لقد حصل تدهور جدي في العلاقات. وارتفعت النبرة الرسمية التركية الناقدة لإسرائيل، ورافقتها عملية تعبئة للرأي العام التركي قامت بها قواعد الحزب.
قراءة التدهور في العلاقات كأنه تعبير عن خيار أيديولوجي سابق ومعد سلفا ويبحث عن فرص للتصعيد هو برأينا تعبير عن فهم أيديولوجي عربي محمّل بالأمنيات، أو ما أسميه "خطاب التمني". وفيما عدا تجاهلهم سياقات الأحداث المنفردة (التي حاولنا وضع الوقائع أعلاه في إطارها، في محاولة لفهم الوقائع التي تكرر خارج السياق كإثبات لموقف أيديولوجي وليس فرضية بحثية) فإن أصحاب هذه القراءة للموقف التركي كأنه استعادة لأمجاد الإمبراطورية العثمانية يتجاهلون وقائع أخرى حدثت منذ تولي العدالة والتنمية الحكم بجدارة وكفاءة في تركيا. وهي وقائع تؤكد نظرية ازدياد أهمية ووزن تركيا، وتنامي الوعي السياسي لهذه الأهمية في عهد العدالة والتنمية. كما تؤكد برأينا أنه في البداية رغب حزب العدالة والتنمية في ترتيب العلاقات مع إسرائيل لا تخريبها. فنظرية تصفير المشاكل مع الجيران، التي جاء بها وزير الخارجية الحالي أحمد داوود أوغلو لتمكين تركيا من تظهير طاقتها وإمكانياتها الحقيقية، تشمل فيما تشمل أرمينيا واليونان وسوريا وإسرائيل، ودول آسيا الوسطى طبعا.
لقد رغبت تركيا العدالة والتنمية بتطوير العلاقات مع إسرائيل ومع العالم العربي لتتمكن من لعب دور سياسي يتلاءم مع حجمها ومع تمثيلها لخيار سياسي شعبي. وهذا الخيار السياسي الشعبي يتضمن رغبة بمواقف سيادية تركية غير تابعة لأميركا، وغاضبة على أوروبا، وليست في جيب إسرائيل فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والعلاقة مع العرب.
لقد تضاعف حجم التبادل التجاري مع إسرائيل في عهد أردوغان، كما وقعت العديد من اتفاقيات التعاون العسكري والاقتصادي بين الطرفين. ولكن التبادل التجاري مع العرب تضاعف عدة مرات أيضا.
وبحسب مركز الإحصاءات التركي، فإن حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل والعرب هو على الشكل الآتي:
السنة إسرائيل الدول العربية
2002 1.33 مليار 5 مليارات
2008 1.9 مليار 37 مليارا
2009 2.58 مليار 30 مليارا
ويوجد حاليا 200 شركة عربية في تركيا يبلغ حجم استثماراتها في تركيا 6.2 مليارات دولار.
في صيف عام 2005 استضافت تركيا أول اتصالات علنية رسمية بين باكستان وإسرائيل. (وزير الخارجية الباكستاني خورشيد قصوري مع وزير الخارجية سيلفان شالوم). لقد رتب أردوغان الموضوع شخصيا بناء على طلب حاكم باكستان في حينه الجنرال برويز مشرف بعد أن وفّر الانسحاب الإسرائيلي من غزة حجة لمشرف للقيام بذلك.
وفي بداية العهد الثاني للعدالة والتنمية، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2007، ألقى شمعون بيريز خطابا بالعبرية في البرلمان التركي، هو أول خطاب لرئيس إسرائيلي أمام برلمان دولة ذات غالبية مسلمة.
ومع تجديد المفاوضات بين سوريا وإسرائيل بوساطة تركية في إسطنبول في العام 2008 بدا أن تركيا تستثمر علاقاتها مع الجميع بمنتهى الذكاء للعب دور سياسي وسيط وعظيم الأهمية. وقد برز وزن تركيا الجديد في اختيار الرئيس الأميركي باراك أوباما برلمانها منصة لإلقاء خطاب يوم السادس من أبريل/ نيسان 2009، ما أثار حفيظة النظام في مصر طبعا. وقد تجلى له فجأة أن الدور التركي الأكثر استقلالية عن أميركا يحظى باحترام أميركي أكبر. كما أنه من الأكثر منطقية أن يلقي الرئيس الأميركي كلمته في برلمان دولة إسلامية يسود فيها نموذج ديمقراطي برلماني كما يعرفه الغرب. وبعد شهرين خاطب أوباما العالم الإسلامي، حسب الصورة التي رغبت الدعاية الأميركية إنتاجها للخطاب، من القاهرة في يونيو/ حزيران 2009.
معنى تزايد حدة الموقف التركي من إسرائيل
لا شك أن الهجوم الإسرائيلي على غزة بعد أقل من يوم من زيارة أولمرت إلى تركيا قد شكَّل نقطة تحول. وقد سبقها توثق في العلاقات السورية التركية أيضا.
ومع انهيار سياسة المحافظين الجدد في المنطقة وأزمة عكاكيز النظام الأميركي العربية تجلت مساحة واسعة فارغة للعب دور أقوى على الساحة العربية ما تطلب أخذ مسافة أبعد من إسرائيل، وما أدى إلى حساسية الدول العربية التي لا ترغب بقواعد لعبة جديدة يفرضها مشارك جديد قوي ويحظى باحترام الولايات المتحدة ويحظى بشعبية في الشارع العربي والإسلامي. إضافة إلى ذلك فقد وقع ما كانت تخشاه تركيا، وهو تنامي الدور الذي يلعبه إقليم كردستان شبه المستقل في العراق، ما وسَّع من مساحة الهموم المشتركة مع إيران وسوريا، فهذه الدول تخشى من دور كردي فيها تتحكم فيه عوامل دولية، خاصة وأن إسرائيل تدعم بشكل واضح أحزابا كردية تعمل في إيران، كما أن هنالك شبكة علاقات واسعة لإسرائيل وأجهزتها الأمنية في إقليم كردستان العراق.
ولكن العامل الرئيسي برأينا والذي لم يفهمه الإسرائيليون أن حزب العدالة والتنمية هو ليس فقط حزبا بالمعنى الحديث للكلمة، لديه قواعده ورأيه العام الخاص به من ضمن الرأي العام التركي، بل هو الحزب التركي الأكثر قربا لمفهوم الحزب والأكثر اعتمادا على رأيه العام من بين الأحزاب التركية الحاكمة جميعا. فهو ما زال غير قادر على الاعتماد على مصادر قوة متجذرة في جهاز الدولة. ومازال جهاز الدولة مسرح صراع بالنسبة له حيث يواصل مكافحة الفساد منذ قدَّم كل من مسعود يلماظ وطانسو تشيلر للمحاكمة بتهم الفساد، وحيث يواصل مجابهته الفريدة والتدريجية مع الجهاز العسكري ومع جهاز القضاء حامي حمى النظام الأتاتوركي، والذي يعترض على قوانين تسنّها غالبيته البرلمانية،. ويتراوح موقف الجهازين من وجود العدالة والتنمية في السلطة بين التحفظ والعداء.
والحزب مضطر أكثر من أي حزب آخر للاعتماد على الرأي العام وعلى قوته في المجتمع المدني بالمعنى التقليدي للكلمة، أي بمعنى اقتصاد السوق والمجتمع الذي يعيد إنتاج نفسه خارج علاقات القسر الدولتية.
لقد بدأ خيار الانفتاح على الشرق من قبل نظام السوق التركي في الثمانينات، ولكنه ترسّخ في فترة تورغوت أوزال الذي مثّل طموح رأس المال التركي للاستثمار والتوسع بشكل براغماتي إلى درجة محاولة التخفف من الأيديولوجيات بما فيها العلمانية المغالية. وقد فاز حزب أوزال، "حزب الوطن" بأغلبية الأصوات عام 1987، وقد شمل ليبراليين وقوميين وعلمانيين وإسلاميين. وكانت تلك هي المرحلة التي سبقت الأزمة التي أدت إلى تحالف أربكان (حزب الرفاه) مع تشيلر، ثم قبول تشيلر بعد أزمة الفساد التي لاحقتها بأربكان رئيسا للحكومة. وبعدها قام الجيش بحل البرلمان. وفي العام 1994 فاز الحزب بـ19% من الأصوات في الانتخابات المحلية بما في ذلك رئاسة بلدية إسطنبول. وعرف حينها الشاب رجب طيب أردوغان. الذي تابع الرهان بعد منع حزب الرفاه، وإقامة العدالة والتنمية وانتخابه رئيسا للحكومة عام 2002. وقد وطّد حكمه طيلة العقد الأول من هذا القرن. لقد حققت سياسة الحزب الاقتصادية إنجازات كبرى على مستوى النمو ومكافحة التضخم وارتفاع دخل الفرد وعلى مستوى جباية الضرائب ما مكّنه من اتباع سياسة اجتماعية في دعم الفئات الفقيرة في تركيا. وفي عهده تحول الاقتصاد التركي من اقتصاد فاشل إلى اقتصاد متطور (الثالث بعد الصين والهند في نسب النمو) وتغلب على التضخم المريع، وجرت مكافحة الفساد بمثابرة وتم تقليص الديون للخارج وارتفعت قيمة الليرة التركية مقابل الدولار.
الدخل القومي التركي
السنة القيمة – مليار دولار
2000 265 384
2001 196 736
2002 230 494
2003 304 901
2004 390 387
2005 481 497
2006 526 429
2007 658 786
2008 742 094
2009 617 611
لقد أكسبت النجاحات الاقتصادية الحزب حلفاء جددا على مستوى الطبقات التي غالبا ما دعمت الأحزاب العلمانية المتشددة، خاصة لقدرته على الجمع بين توسيع الحريات المدنية وارتفاع مستوى المعيشة والنمو الاقتصادي بشكل عام واتباع سياسة سلمية منفتحة داخليا تشمل الاهتمام بالمناطق الكردية، والسماح للأكراد باستخدام لغتهم لغرض احتوائهم وعزل العنف السياسي.
ولكن بالإضافة إلى هذه المنجزات علينا أن نرى أن القاعدة الاجتماعية للحزب هي أيضا صاحبة خيار على مستوى الهوية، هوية تركيا.
وقد شكلت سياسة الحزب حالة توفيقية من قبول قواعد اللعبة التي وضعت في عهد أتاتورك والمتعلقة بالوطنية التركية، وفصل الدين عن الدولة أو تحييد الدولة دينيا من جهة وبين خيار شرقي إسلامي على مستوى الهوية التركية. وهو خيار متعايش مع الحريات المدنية ويحترمها، ومتعايش مع علمانية النظام. وتظهر الاستطلاعات موقفا حادا من السياسات الأميركية مع تمسك بالديمقراطية، وغالبية تؤيد السماح بالحجاب في الجامعات، ولكن نفس هذه الغالبية تؤيد استمرار تحييد الدولة في الشأن الديني، ولا تتحسس من السفور. ولا شك أن تعبيراتِ تَمَيُّزِه لا بد أن تظهر على مستوى الهوية الشرقية الإسلامية لتركيا. خاصة بعد اتضاح حقيقة الموقف الأوروبي من ضم تركيا إلى الاتحاد.
وهكذا نرى أن غالبية خلافات تركيا الأخيرة مع إسرائيل بدأت على مستوى الرأي العام في قواعد الحزب الاجتماعية، إن كان ذلك على مستوى التضامن مع غزة أثناء الحرب، أو الغضب الشعبي على كيفية تعامل إسرائيل مع السفير التركي، وأخيرا المبادرات الأهلية لتسيير سفن كسر الحصار.
لم تصبح خيارات حزب العدالة والتنمية الداخلية والخارجية خيارات دولة بعد. فهي ما زالت خيارات حزب سياسي في الحكم. أي لم تصبح من القضايا المسلم بها من قبل جهاز الدولة. وكمثال على خيارات الدولة، فإن المسلمات التي يعمل على أساسها الحزب الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة والمتعلقة بالأمن القومي الأميركي والنظام الرأسمالي والليبرالية السياسية هي خيارات دولة. وكذلك التسليم من قبل كافة الأحزاب التركية بما فيها حزب العدالة والتنمية بعلمانية الدولة، هي دليل على أن العلمانية هي خيار دولة، ويسعى حزب العدالة والتنمية إلى تخفيف حدتها، بنجاح برأينا حتى الآن... أما الإضافة التي يجلبها حزب العدالة لناحية أن تولي تركيا وجهها شرقا، وأن تعمل كدولة وطنية مستقلة الإرادة في القضايا الإقليمية بما فيها العراق وفلسطين وإيران، فما زالت خيارات حزب حاكم. ولم تصبح بعد خيار الدولة. ومن الواضح أن فئات اجتماعية أوسع أصبحت قادرة على تقبلها، وأن جهاز الدولة نفسه يتغيّر تدريجيا لصالحها كلما طالت مدة الحزب في الحكم. ولنتخيل كيف سيبدو الجيش وجهاز القضاء بعد فترة أخرى أو اثنتين من حكم الحزب.
من هنا فإن السياسة الخارجية التركية بما في ذلك تجاه العرب وقضية فلسطين ترتكز على موقف الأكثرية في بلد ديمقراطي. وهذا يعني:
أ. مصداقية الموقف التركي المنطلق من تصور لمصلحة تركيا وهويتها على قاعدة رأي عام وقواعد شعبية فاعلة في انتخابات مقبلة كما فعلت في انتخابات سابقة. ولا بد أن يقنعها الحزب الحاكم أن مواقفه تتلاءم ليس فقط مع برنامجه الذي انتخب على أساسه، بل أيضا مع مصالحها ومع مصالح تركيا العليا.
ب. تولد موقف تركي معارض لهذه المواقف ناجم إما عن التنافس الحزبي وإما عن اختلاف تعريف هوية ومصالح تركيا، أو عن كليهما.
ج. اضطرار الحزب للتوفيق بين موقفه وقدرة الدولة على الاستيعاب وأيضا قدرة الرأي العام التركي والعملية الديمقراطية على استيعاب الموقف، فهما من مصادر قوة الحزب الرئيسية. وهو في النهاية حزب سياسي في دولة وطنية. وهو لا يحاول أن يتحول إلى حزب قائد يستند إلى توافقات بين عرقيات وطوائف في إمبراطورية، ولا أن يكون حزبا قائدا في العالم العربي. وهو يمثّل الرأي العام التركي ويسعى لأن تصبح خياراته الرئيسية خيارات دولة، خيارات إجماع، كما قَبِل هو قواعد لعبة الدولة الديمقراطية العلمانية وانتخب على أساسها.
عود على بدء
ونختم من حيث بدأنا. الأصل في العلاقة العربية التركية من الزاوية العربية هو ليس ما تريده تركيا، فهذا أمر يمكن ارتكاب أخطاء طفيفة بشأنه لو استمع المرء للمسؤولين الأتراك مع بعض المعلومات التاريخية ومع إعمال العقل قليلا. فهنالك دولة تركيا، لها مواقف ومصالح، ويجري فيها صراع واضح المعالم. ولكن المشكلة في معرفة ماذا يريد العرب. إذا لا توجد دولة عربية ولا كيان سياسي عربي موحد يعبر عن إرادة عربية أو حتى عن خلافات وصراع عربي واضح المعالم، وهنالك كمية من الخيبات والإحباطات تشوش الرؤية العربية لحقيقة الموقف التركي أيضا.
وبرأينا سوف يلحق هذا الأمر الضرر ليس فقط بالعرب بل أيضا بقضية تقدم وتطوير الموقف التركي. وهنالك أصلا مشكلة تواجه تركيا حتى عندما ترغب برفع سقف مطالبها ونبرة خطابها بشأن حصار غزة، أن دولا عربية تعارض ذلك، وكأنها تطلب من تركيا أن لا تكلف نفسها عناء التدخل وأن تكف عنهم تدخلها لصالح العرب. وطبعا لا يستبعد المرء بناء على التجربة أن تشكو بعض الدول العربية الموقف التركي للمعلم الأميركي لأنه يحرجها أمام شعوبها.
وتستجد ثانيا مشكلة أخرى مع من يريد أن يزعِّم تركيا عربيا. وهذا مخالف لرغبتها. لا ترغب تركيا أن تقود محور ممانعة ومقاومة، والتعامل معها على هذا الأساس يخلق لحزب العدالة والتنمية مشكلة فعلية في مواجهة الأحزاب الأخرى وجهاز الدولة، ويسهِّل عليها اتهامه أنه يبعد الدولة عن أجنداتها، وأنه يجر دولة وطنية لأن تكون عربية أكثر مما يريد بعض العرب أن يكونوا.
وثالثا وأخيرا، تبرز مشكلة مع من يقلِّد دور تركيا فيتراجع بذلك في حين تقدمت هي، نموذج الخلاف التركي الإسرائيلي بما فيه صراع المجتمع التركي بالطرق السلمية ضد إسرائيل، هو خلاف وصراع يليقان بدولة في حالة سلام مع إسرائيل. وهو مؤثر لأنه يدور في هذا الإطار. هذه خصوصيته. أما إذا اتبعت هذه اللغة وهذا الأسلوب دول وحركات هي في حالة حرب مع إسرائيل، أو هكذا يفترض أن تكون، فإنه لن يؤثر. فوسائل تأثير حركات (المقاومة والدول) في حالة الحرب هي وسائل مختلفة تماما، وعليها أن تمارسها، أو تصبر إلى أن تمارسها. أما تقليد الخطاب والأسلوب التركيين فيعتبر تراجعا بالنسبة لها، وسوف يقودها في النهاية إلى تراجعات حتى على مستوى الخطاب.
لا بد من رؤية أهمية التحالف مع تركيا، مع فهم خصوصيتها. ولكن التحالف لا يعني أن نفرض على تركيا فهمنا وتصورنا لها، بل أن نتركها تدير صراعاتها كما ترى، وأن نقدم المشورة حين تطلب منا وأن نعبر عن كلمة تقدير وعرفان حتى حين لا يطلب ذلك.