تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الصهيونية والمدن المختلطة

2006-01-15

عزمي بشارة

كانت هذه مدن فلسطين الساحلية، يافا واللد والرملة وعكا وحيفا. على شواطئها غسلت فلسطين شعرها، وفي بياراتها أنتجت البرتقال ذهب محاصيلها وزينة مزروعاتها، وفي كنفها شيدت بداية مشروعها الحضاري وهويتها العربية الفلسطينية، ومن موانئها تفاعلت مع بيروت واسكندرية، ومع حوض المتوسط وأوروبا.

 

حتى بناياتها السكنية كانت تحفا معمارية ميزت عصر النهضة العربية من حي المالكي في دمشق الى كورنيش اسكندرية وزمالك القاهرة. في النكبة هدمت مجتمعات مدن فلسطين. في اللد تم تهجير السكان بعد واحدة من أشرس المذابح الصهيونية ضد العرب، مذبحة مسجد دهمش. واستولى المستوطنون الصهاينة على أبنيتها وشوارعها وبقي في بعضها أحياء عربية سرعان ما تحولت الى "غيتوات" فقر تجتذب هجرة سكان أكثر فقرا إليها من محيطها. واستولى المحتلون على محالها التجارية. وعلى بناياتها سطت مؤسسات وشركات صهيونية من "رشوت هبتواح" الى "عميدار" لتؤجرها في بعض الحالات لأصحابها أنفسهم. وفي تحفها المعمارية استوطن من لم يتعب في بنائها في عملية سطو مسلح. وصودرت اوقافها. وفي بنايات اخرى سكن الهدم والاهمال.

 

في بعضها نجت بقايا طبقة وسطى حافظت ببطولة على مدارس عربية وعلى اجيال تتكلم لغة الضاد العربية. وسميت في عرف إسرائيل مدنا مختلطة. وتواصل فيها الصراع لحشر العرب داخل "غيتوات" او للاستيلاء على مساكنهم بعد منعهم من ترميمها في بعض الحالات التي أرادوها أحياء سياحية متوسطية "انتيكية" الطابع ولكن دون عرب، على نمط "سوهو". وصارع العرب فيها الحفاظ على هويتهم. واشغل فيها العرب بانتخابات بلدية بعد اخرى، وكان الغرض دائما هو تلبية مصلحة فردية يفترض ان تلبى دون عمالة، أو اتقاء شر رئيس البلدية القادم، الذي سيحاول اثبات صهيونيته بتجاهل قضايا العرب او بتوسيع الاحياء اليهودية وتطويرها او بتحميل العرب وزر الجريمة والمخدرات وهكذا. ومؤخرا برزت نخبة عربية جديدة تخوض الانتخابات البلدية في ما يسمى المدن المختلطة من أجل الحفاظ على مجتمع عربي متطور، ومن أجل تنظيمه دون "غيتو" وتنظيم أحواله التعليمية والاجتماعية. ولا شك ان الحفاظ على صحة وسلامة المجتمعات العربية فيما يسمى المدن المختلطة من أنبل وأعدل المعارك الوطنية والمدنية التي يخوضها هذا الجزء الحي من الشعب الفلسطيني والأمة العربية.

 

ويتواصل هدم البيوت بشكل مكثف في مدينة اللد وغيرها من "المدن المختلطة". وكان شارون وغيره قد حذروا من "استيلاء" العرب على المدينة فهي الأقرب لتكون محطة الهجرة العربية من النقب، وقد عادت سياسة هدم البيوت بكثافة غير مسبوقة في مرحلة شارون. وهذا هو "انجازه" البارز الوحيد للمجتمع العربي في الداخل في فترة حكمه. وكان في ذلك تأكيد صريح على ثوابت الصهيونية بتكثيف الاستيطان في الداخل وتهويد المناطق ذات الأغلبية العربية وحشر العرب في النقب و"المدن المختلطة" في غيتوات فقر، والعودة الى الاستخدام الكثيف لمفاهيم الخطر الديموغرافي داخل حدود 67 أيضا. وتنتشر الجريمة بشكل غير مسبوق في مدينة يافا وتتحفظ الشرطة من ملاحقتها طالما حصرت داخل الأحياء العربية، وكانت الشرطة قد باشرت مقاومة الجريمة بشكل محدود في اللد بعد أن قتل مواطنون يهود جراء تبادل إطلاق النار العشوائي في بعض أحيائها.

 

وعقد في عكا، يوم الأحد الماضي، مؤتمر تحت عنوان: الغالبية اليهودية في عكا - يجب المحافظة عليها"، لبحث شتى الطرق لضمان أكثرية يهودية ثابتة في المدينة.. وقد جاء هذا المؤتمر بمبادرة منتدى جديد لتعزيز الوجود اليهودي في المدينة المختلطة يقف على رأسه عضو البلدية، مولي كوهين، من قائمة الرئيس شمعون لنكري.. وكوهين هذا على قناعة بأن تعزيز الوجود اليهودي، وخاصة بواسطة جلب عائلات الى المدينة من أوساط التيار الديني القومي، من شأنه أن يسهم في تعزيز أواصر العلاقات بين العرب واليهود!! (جائزة المليون لمن يشرح هذه الجملة!!). وقال كوهين إن المدينة شهدت في الآونة الأخيرة اختلالا في التوازن الديموغرافي حيث اجتاحت المدينة موجات من "القادمين العرب"، (القادمون العرب هو مصطلح جديد نقترح على وزارة المعارف ادخاله ضمن المائة مصطلح للطلاب العرب)، من القرى المجاورة، هي عائلات مستورة بغالبيتها، فيما تركتها عائلات يهودية قوية اقتصاديا، ما أدى بالتالي الى انخفاض اسعار البيوت الى الحضيض حيث أن سعر البيت في مركز المدينة تدنى حتى 30 ألف دولار، كما ادعى أحد المواطنين..

 

وقد حصلت عكا، قبل نحو ست سنوات، على تخفيضات ضرائبية بقانون سنه الكنيست، وسمعت في حينه تعابير وحجج عنصرية وتهديدات انه اذا لم توافق الكنيست على التخفيضات "فلن يبقى في المدينة إلا العرب"!! ولكن الأمر لم يساعد في وقف الهجرة اليهودية من المدينة وحلول العائلات العربية محل اليهود في أكثر من حيّ واحد في المدينة الجديدة، حتى أن هناك أحياء باتت عربية خالصة والعياذ بالله، كما قال كوهين .. وعليه، فإنه يرى في اجتذاب عائلات يهودية قومية دينية الحل الوحيد الذي يلجم "تعريب" عكا ويضمن أكثريتها اليهودية.. فهو يعتقد أن "تعزيز الوجود اليهودي بعائلات متدينة سيؤدي الى وضع يعيش فيه الطرفان العربي واليهودي كل في منطقته جنبا الى جنب دون تشويش"..

 

الملفت هنا هو استخدام دوافع اليهود المتدينين الصهاينة لغرض التشجيع على الهجرة اليهودية والسكن في عكا. وهذه نفس الخامة البشرية التي يتم بواسطتها الاستيطان في الضفة الغربية. ويفترض تشجيع هذه الفئة الاجتماعية السياسية ان ظروف السكن الصعبة وفي منطقة عربية على وجه الخصوص تحتاج الى ناس مدفوعين بدافع ايديولوجي طلائعي غير مادي من نوعية دوافع مستوطني الضفة الغربية وقطاع غزة. وهؤلاء بدافعهم الايديولوجي الصهيوني العنصري سوف يتحولون إلى مادة متفجرة طبعا. فهم يصلحون للاستيطان المدفوع بالعداء للعرب، ولكنهم لا يصلحون للعيش المشترك في مدينة واحدة. وهذا يعني أن العرب في هذه البلاد يجدون أنفسهم في مواجهة استيراد العقلية الاستيطانية من الضفة الغربية والمناطق المحتلة الأخرى إلى داخل الخط الأخضر.

 

ولتذكيرك عزيزي القارئ أن المسالة موضوع إجماع فإن، لنكري، المفترض انه رئيس بلدية لجميع السكان كان من بين حضور هذا المؤتمر، وقد جاء من بلدية عكا إلى صحيفة هآرتس أن "رئيس البلدية يؤيد جميع الفعاليات التي من شأنها تطوير المدينة واجتذاب عائلات قوية تسهم في الرقي بالمدينة".

 

لا يوجد دولة أخرى في العالم يتم فيها بهذه السهولة وبهذا الهدوء استخدام مثل هذه اللغة العنصرية في وصف مواطنين لا لسبب إلا لأنهم ولدوا عربا، ويتم فيها اعتبار تفضيل وجود فئة على أخرى وأكثرية على أخرى ولو في مدينة واحدة من مدنها أمرا طبيعيا يسود حوله إجماع. ولا شك انه في أي دولة أخرى كان سيثور نقاش حتى على شرعية عقد مثل هذا المؤتمر.

 

ولا شك ان المؤتمرات التي تعقد في الخفاء تفوق عددا وصراحة تلك التي تعقد علنا. وغالبا ما تعقد مراكز الأبحاث ومؤسسات الأمن القومي ندوات ومؤتمرات لا يصل صداها الى الإعلام تبحث فيها أوضاع العرب وأنماط سلوكهم السياسي ووضع التعليم العربي ونسب الولادة عند العرب ويحضرها عرب لا يرسلون أخبارا وبيانات إلى وسائل الإعلام العربية خلافا لعادتهم. بالمجمل لا يتوقف التخطيط الصهيوني ضد العرب ولا حتى ساعة واحدة. وهذا يعني ان تنظيم العرب على أساس وطني وقومي وإقامة مؤسسات لهم حتى في المدن المختلطة تفضح وتقاوم هو قضية وجودية من حيث الأهمية.

 

ومن يمنح صوته لأي حزب صهيوني هو كمن يقول نعم لهذه المخططات، وكمن يعجب بالعنصرية ضد قومه وضد نفسه. ورفض الأحزاب الصهيونية لا يعني فقط لا للاحتلال بل يعني أيضا لا للعنصرية ونعم للحفاظ على المجتمع العربي وحمايته.