تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الشعاراتية الفارغة" كشعار فارغ

2007-04-02

نشأ جيل بأكمله، عربيا، على مقت الخطاب الأجوف الذي كانت تشارك فيه الأنظمة التقليدية المحافظة والراديكالية الثورية على حد سواء في مرحلة بداية الصراع مع الصهيونية وإسرائيل. وجاء نفور هذا الجيل من هذا الخطاب نتيجة لاعتباره صدمة الهزيمة المروعة من عام 1967 إهانة شخصية لكل ما آمن به، وأصبح لبعضهم مشكلة شخصية مع إسرائيل تعتمل فيها مسائل معقدة مثل الكرامة والهوية وقيم الحداثة والفجوة الحضارية. وقد طرحت الهزيمة أسئلة من نوع الأسئلة التاريخية للنهضة العربية، ولكن لقاء عوامل مثل الدولة العربية وصراعها على البقاء وتشرذم الوعي العربي إلى ولاءات لأنظمة وعداء لأخرى، بدل الانقسام على هذه القضايا، وخلط القومية كإيديولوجية تبريرية مع القومية كواقع ضروري غيَّب الأسئلة الجدية. 
 

وما زال الوطن العربي برمته يراوح في المرحلة التي أفرزتها هذه الهزيمة. وقد انقسم المثقفون بشكل صحي بين الدعوة الى النقد الذاتي وبين العويل والندب، وبين حركات الإحياء المختلفة، والصراعات بين العودة الى الأصول ونقد قصور وعدم اكتمال التحديث.
 

ودون أن يصيغ انطباعته هذه بالضرورة فقد تداعت الى ذهن ابن المرحلة من عبارة "الشعارات الفارغة" معاني مثل: الفجوة بين القول والفعل، ورفع التوقعات فوق مستوى الإمكانيات، والتعبئة قبل الجهوزية، والتقليل من إمكانيات الخصم والاستخفاف بميزان القوى الفعلي، ناهيك عن الفجوة بين تقديم الذات وصياغتها على مستوى الخطاب وبين والواقع الذاتي ليس فقط من ناحية الإمكانيات بل ايضا من ناحية تحديث وتنظيم الدولة والمجتمع عربيا.
 

وطبعا دون ان تتغير الإمكانيات الفعلية جاءت مرحلة الوصفات العلاجية مرة على شكل عودة الخلافة وأخرى كنقد للدين، ومرة بطرح ضرورة تعميق التحالف مع الولايات المتحدة أو مع الاتحاد السوفييتي...وكان يثبت في كل مرة أن معيقات أعمق من نوع طبيعة الدولة ذاتها، وطبيعة العلاقة بين عملية بناء الأمة وتأبيد الطائفة والعشيرة كوحدة اجتماعية سياسية، ومعوقات بنيونية أخرى تجهض أي وصفة علاجية أو تمتصها وتحتويها. وإذا لم ننطلق منها في حوارنا الثقافي، حتى لو تم ذلك من مواقعنا المختلفة فيصعب ان تتجاوز الطروحات الشعارات، وذلك حتى لو لم تكن شعارات فارغة جوفاء بالمعنى المشروح أعلاه، فنحن لا نتحدث هنا عن أبواق الأنظمة بل عن مثقفين بالحد الأدنى من النزاهة. وحتى لو توفر الإخلاص وضاقت الفجوة بين الكلام والعمل، يبقى الفرق بين العمل والكلام من جهة والواقع من جهة أخرى ماثلا يحولها الى شعارات في الواقع الموضوعي.
 

وفي كل مرة تذكِّرُنا الأزمات الكبرى بالفشل البنيوي الرئيسي مرة في الجزائر وأخرى في العراق وثالثة في لبنان وغيرها بالعطب البنيوي الكبير الذي بدون التطرق إليه لا تصح لا تحالفات ولا وصفات علاجية من نوع الديمقراطية أو الاستبداد المتنور أو غيرها، ولا يصح حتى حوار جدي بيننا مع وضد الديمقراطية، مع وضد التحالف مع أميركا.
 

على هذه القاعدة المتحركة باستمرار نقف جميعا محافطين بالكاد على التوازن، لا فرق بين مثقف وآخر ممن يريدون تشخيص الصورة الشاملة. كلنا نصطدم إن شئنا أم أبينا باستحالة الدولة وبناء الأمة على البنية العشائرية والطائفية، وبالتالي استحالة قيام المعادلة الاقتصادية الاجتماعية ثم السياسية في وحدة وصراع: دولة – مجتمع مدني. وكلنا نقف إن شئنا أم أبينا على قاعدة إجهاض استعماري سافر ومبكر لإمكانية بناء الامة العربية بتقسيمها الى أقطار، وتحول التعددية الى انفراط عقد المجتمع الى تعددية عشائرية... وتحول السياسة الى نقيضها اي الى سياسات هويات وشائجية بدائية. 
 

وبعضنا ينكر هذا العطب في البنية بالطبع.
 

ولكنه لعمرك لغز بكل تأكيد كيف يتحول المثقفون في هذا السياق، الذي بالكاد نحافظ على توازننا فيه، إلى مثقفي "اعتدال" ومثقفي "تطرف". 
 

لا شك أنه في هذا الواقع المعقد الذي يفترض ان يجتمع على نقده والتحاور بشأنه المثقفون المتنورون لا يفترض أن يجر التقسيم الأميركي المريح للأنظمة كـ"معتدلة" و"متطرفة" انقساما بين المثقفين. ولكن من يتساءل يتناسى وجود مثقفي أنظمة. نقول ذلك مع الأسف الشديد على الطاقات المتبددة على هذا الانقسام.
 

ولا يصعب ان نعثر في هذا الاستقطاب المستحدث بين مثقفين معتدلين وآخرين متطرفين على مثقفين علمانيين لبراليين في نمط حياتهم الشخصي واليومي، ينظِّرون لـ"أنظمة اعتدال" ليس فيها من "الاعتدال" إلا التحالف مع أميركا. فلا هي معتدلة في ممارسة وثقافة حقوق الانسان والمواطن، ولا في قضايا الحريات السياسية والمرأة وغيرها. 
 

كان هذا معروفا ويمكن رفضه والتسامح معه في الوقت ذاته، لأنهم كانوا عموما يؤيدون ويمتدحون أنظمة في سياق واحد هو موقفها من أميركا والغرب وضرورات التسوية مع إسرائيل. وبهذا المعنى فقد تذوَّت هؤلاء تماما التقسيم الأميركي للاعتدال والتطرف بشكل يصل حد اعتبار من يحالف السياسة الاميركية معتدلا ومن يعاديها متطرفا. ويصعب عليهم تخيل العكس اي يصعب أن يفكروا بـ"معتدل" بمفاهيمهم يعادي سياسات الولايات المتحدة، أو على "متطرف" يؤيدها. هذه بالطبع ليست اصطلاحات علمية، ولا هي تقسيمات خاضعة لأدنى متطلبات عقلانية العلوم الاجتماعية، ومع ذلك يتبعها مثقفون متنورون أحيانا، ويقسمون العالم العربي بموجبها حاليا بعد خطاب لجورج بوش مثلا.
 

وننتقل إلى درجة أعلى من التسامح فنقول انه طالما حوفظ على هذه التعريفات خارجية وغير ذات صلة بالوضع الداخلي في كل بلد بقي الأمر مفهوما، خاصة إذا عمل المثقف الداعية في صحيفة أو مجلة أو مؤسسة ممولة من أنظمة بعينها. حال مثقفي "التطرف" في إعالة عوائلهم كحال مثقفي الاعتدال. ولكن لا يجوز التسامح مع مديح حكمة الأنظمة داخليا ايضا، أو التسامح مع التودد بكلمات لا تخلو من الإطراء لدهائها الداخلي أو لعشائريتها وميكافليتها وغيرها من الاطراءات. 
 

ولكن عموما اقتصر الموقف على الدفاع عن الموقف التسووي باي ثمن، واتهام الرفض العربي وليس إسرائيل باستمرار القضية الفلسطينية، وعن الموقف المتحالف مع أميركا بصفته براغماتية ثبتت نجاعتها مع انهيار المعسكر الاشتراكي.
 

ولكن منذ الحرب الأميركية على العراق انتقل هؤلاء الى الهجوم على المثقفين الآخرين المعادين للحرب الأميركية على العراق، باعتبارهم يمثلون ثقافة "الشعارات الجوفاء"، و"شعاراتية" وغير ذلك.
 

والحقيقة أنه كما كانت بعض من شعارات الأنظمة الثورية والتقليدية ومثقفيها بعد الاستقلال والنكبة شعارت جوفاء، فإن "الاعتدال" بمعناه الحالي لا يقل تجوفا لانه لا يحتوي على اي مضمون معتدل. إنه أجوف أي فارغ من المضمون، إلا إذا اعتبرنا التحالف مع أميركا مضمونا كافيا لملء مفهوم الاعتدال. 
 

وهنالك ايضا فرق هائل بين ممارسة المثقف اللبرالي الشخصية وبين دعمه لأنظمة تتبنى لبرالية اقتصادية متوحشة وموقفا معاديا للبرالية والحريات السياسية، أي ان الفجوة بين الشعار والممارسة الشخصية قائم أيضا، أما بالنسبة للتسوية والسلام والبرغماتية، فهنالك مبالغة متكررة غير مدروسة في خلق التوقعات من إسرائيل، وقد أنجبت هذه الثقافة السياسية حلا لدولة العراق ودموية سياسية ومجتمعية تفوق دموية أي نظام عربي، وانحلالا للقضية الفلسطينية إلى تسويات غير عادلة لا تستحق كلمة تسويات وغيرها الكثير من الهزائم والاخفاقات. أي ان الحديث عن تسوية وبراغماتية هو كلام. وقد تحول الى صناعة كلام ومؤتمرات وتحويل القضية الفلسطينية الى علاقات عامة... ولم يكن بوسع الأنظمة المتهمة بالشعاراتية، تهمة يسعد الكاتب ان ينضم الى توجيهها لها، أن تمول وأن تدعم هذا الكم من صناعة الكلام وأن تستقطب هذا الكم من المعتاشين منه حتى في أوج صوتيتها.
 

لم يقم اي من هؤلاء بنقد ذاتي أو الاعتذار عن مواقفه الداعية لشن الحرب على العراق. لقد صمتوا فترة، وبعضهم ما زال صامتا، وبعضهم اتهم المجتمع العراقي او كل من اعتبره مسؤولا عن إفشال رهانه. وبعد تحول المجزرة اليومية في العراق الى روتين حصل العكس. بدل الاعتذار انتقلوا الى الهجوم. فهم يشنون هجوما على كل من يتجرأ على نقد "النجاح العربي" الكبير في الرياض حاليا، او ينتقد صمت قمة بأكملها عما يجري في مقديشو او ينتقد التمسك العربي التوسلي بمبادرة سلام لا بد ان يتحول الى إرضاء إسرائيل بتعديلها بمنطق الاستجداء والإرضاء... إذ لا يمكن ان يقود منهج الاستجداء لغير ذلك، ويهاجمون كل من يشكك بالموقف الاحتفالي من نتائج القمة.
 

يطلقون شتيمة "شعاراتية فارغة"، والواقع ان هذه العبارة باتت كما بينا تمثل شعارا فارغا يحمل كل مواصفات الشعار الفارغ المفصلة أعلاه كما انطبعت في أذهاننا المصدومة في تلك الفترة..