افتتحت الثورتان التونسية والمصرية عصراً عربياً جديداً يتاح فيه الجمع بين الحرية والحقوق وبين السيادة والمواطنة. لن تستهين الأنظمة بشعوبها بعد اليوم. وسوف تجد نفسها مضطرة أن تختار بين الإصلاح الشامل، وبين رحيل النظام. وعلى مستوى القوى السياسية والانقسامات الإيديولوجية سوف يتغير كل شيء. ستفقد الانقسامات السابقة معناها. فقد تضاءل وزن النقاشات الفكرية بين التيارات الإيديولوجية السابقة. لم يتمكن أي منها من خوض التحدي. وصعدت ظاهرة القوى الاجتماعية الجديدة الرافضة للظلم والمتمسكة بالقيم. وسوف تنشأ تعددية جديدة. وسوف يتقدم فيها الصفوف ذلك الفكر القادر على الجمع بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والهوية العربية من دون التنكر للحضارة الإسلامية.
بعد عقود من تراكم الشعور الشعبي بالقهر، انتفض الشعب المصري أخيراً ضد النظام الحاكم. لقد ربطت غالبية الشعب ما تتعرض له بطبيعة النظام الحاكم. وأصبح النظام عنوان المرارة من التعسف في أقسام الشرطة، ومن الفساد في المعاملات الرسمية، ومن الشعور بالفاقة في ظل الإثراء بواسطة الفساد، والمال والجاه الناجم عن التقرب من ذوي السلطان والشوكة.
لقد رُبط كل هذا أخيراً بنظام الحكم السائد، تجلى ذلك بالنقمة والنكتة الشعبية على حد سواء، كما تجلى في السخرية والقصائد والأغاني، وفي الاكتئاب وعدم الارتياح الشامل الذي لاحظه كل من زار مصر في السنوات الأخيرة. وبلغ الأمر حد أزمة الهوية، إذ مس النظام بالكبرياء المصري وفهم المصريين لذاتهم ولدورهم. وللتعويض عن ذلك كان على النظام أن يؤجج وطنية مصرية على شكل عصبية فارغة مجوفة غير مستندة إلى المصلحة الوطنية ولا إلى افتخار الناس بإنجازات اقتصادية أو علمية أو سياسية، عصبية جوفاء غاضبة يسهل التحكم بها لتتحول إلى غضب ضد الآخر، أو إلى مجرد ولاء للنظام وتعصب ضد منتقدي الرئيس كأنهم ينتقدون البلد. واستغلت حتى لعبة كرة القدم لهذا الغرض. ومثل بقية الأنظمة العربية نشر هذا النظام المرتكز إلى استبدال الكفاءة بمراءاة ذوي السلطة والنفوذ حتى في ميادين الثقافة، والمهنية بالقرابة والقربى، والإنتاج بالإستهلاك، كما نشر أخلاقيات الكذب والرياء في التعامل مع الدولة والنفاق في التعامل بين المرؤوسين ورؤسائهم، والفظاظة في التعامل مع النقد... حتى تحول كل مسؤول إلى فرعون في التعامل مع من هم تحت أمرته وإلى عبد في التعامل مع آمريه، كما نشر عنفاً شارعياً على مستوى التعاملات بين البشر يتحول بسهولة إلى طائفية وغيرها، كمسارب لتفريغ نقمة ومرارة الناس من نظام سياسي اجتماعي مجحف شحَنَ النفوسَ وحقَنَها بالعنفِ.
ربما كانت ثورة تونس المجيدة هي السبابة التي ضغطت على الزناد، وربما بلغ السيل الزبى على أية حال. وربما كان الشباب المصري الواعي والمثقف الذي يمثل نقيض الثقافة التي نشرها النظام هو السبابة وهو الزناد. إنه الشباب المتواضع والمهذب والمنفتح على العالم والرافض للفساد وعدم الكفاءة، والنافر من الظلم والبلطجة السياسية والتهريج الإعلامي. لقد دعى هذا الشباب للإنتفاض يوم 25 كانون الثاني/يناير بعد "بروفات" عديدة قبل ثورة تونس، كان أهمها إضراب 6 نيسان/أبريل الذي دُعي إليه في المدونات تضامناً مع عمال المحلة، والمحاولات المستمرة لنقل معاناة المواطنين عبر الإنترنت من الكاميرات التي يحملها الشباب على هواتفهم، و"حركة كفاية" التي كسرت حاجز الخوف واجترحت ظاهرة التظاهر ضد التجديد والتوريث، واستمرت بالتظاهر فترة طويلة في مرحلة الركود، والاعتصامات المستمرة أمام نقابة الصحفيين، وتجاوز بعض الصحفيين المصريين حاجز الخوف في توجيه نقدهم لما كان يعتبر محرماً على النقد مثل الرئيس وعائلته.
وكانت النفوس محتقنة جاهزة لاستقبال النداء، وكانت العقول مقتنعة تنتظر الفعل والممارسة. فوقعت دعوة الشباب يوم 25 كانون الثاني/يناير وقوع صاعقة في السهوب الجافة بعد صيف طويل. لم يكن واضحاً حين خرجت الجموع هل يوم الغضب هو يوم احتجاج أم ثورة سياسية جامعة. جاء هذا اليوم بعد أسابيع معدودة من ثورة سياسية شاملة في تونس قامت في ظروف شبيهة، أي تولدت عن حركة احتجاج غير مخططة. فتولد فوراً الوعي أن المصريين يتظاهرون ليس ضد خطوة محددة قام بها النظام، ولا للتعبير عن تضامن مع ضحية بعينها، بل ضد النظام بشكل عام. لكن الثورة المصرية اختصرت الطريق من العيني إلى العام، إذ بدأت بالشأن العام مباشرة.
لقد انطلق أهالي ناحية سيدي بوزيد في تونس احتجاجاً على ما يتعرضون له من بطالة ومهانة بعد أن أشعل شاب نفسه احتجاجاً، ثم انتشر الاحتجاج بالتدريج وتحول عبر تفاعله مع ظروف الناس ووعيهم بظروفهم إلى ثورة شاملة سعت إلى تغيير نظام الحكم. ونستطيع الجزم أن هذا لم يكن هدف المواطنين الأصلي في ناحية سيدي بوزيد. ولكن وضع الناس، بما فيه وعيهم، كان مهيّئاً لذلك. أما في مصر فقد كان يوم الغضب عاماً منذ اللحظة الأولى، لم يكن مطلبياً موجهاً ضد البطالة أو أو أ, لرفع الأجور أو احتجاجاً على رفع الأسعار، بل كان الغضب عاماً ضد كل ما يعانيه الشعب المصري في العقود الأخيرة، ويُعتَبَر النظام سبباً له.
أما في العنوان فقد رُبط هذا الأمر بالرئيس وعائلة الرئيس كما يحصل في أي نظام استبدادي. فرمز النظام الديكاتوري هو الحاكم. وكانت مسألة التوريث مؤشراً قوياً لسلوك النظام أنه يملك البلد، ولا يحكمها فحسب. وشكّل التوريث موضوع التندر والنقمة في أحاديث الشارع المصري في الأعوام الأخيرة، كما استحوذ توريث المنصب من الرئيس لابنه على أحاديث هذا الشارع. لا غرابة إذاً أن يتركز الاحتجاج بشعار إسقاط الرئيس ومنع التوريث.
هذا لا يعني طبعاً أن هدف الشعب المصري هو الإتيان بدكتاتور جديد أو استبدال الرئيس برئيس مخابراتي ليعيش الشعب ثلاثين عاماً أخرى في ظل نفس نظام الحكم. يحتاج المرء الى خيال من نوع ملتوٍ لكي يتخيل أن عنوان رحيل الرئيس يعني الاكتفاء برحيله شخصيا. وكل من حاول أو يحاول أن يلخص مطلب المتظاهرين بذهاب الرئيس، إنما يسعى إلى احتواء الثورة أو إجهاضها والإلتفاف عليها بالإبقاء على نظام الحكم كما هو. وفعلاً، لو كان الهدف التخلص من الرئيس المريض والمتقدم في السن لكان بالإمكان انتظار وفاته، أو انتظار انتهاء مرحلته بعد ستة أشهر مادام تعهد بعدم الترشح مرة أخرى. وكما قال رئيس الحكومة المعين الجديد يوم 3 شباط/فبراير على "محطة الـ بي. بي. سي.(BBC) العربية" إن "عدم الترشح في هذه الحالة يعني الرحيل وكفى".
الإصلاح والثورة والرئيس ونائب الرئيس
يشوب طرح رحيل الرئيس كأنه يعني مسألة نقل الصلاحيات إلى نائب الرئيس، وكأن هذا النقل للصلاحيات هو تلبية لمطلب الثورة، استخفافٌ بعقول الناس واستهانةٌ بتضحياتهم لا يصنع الناس ثورة نادرة في تاريخ العرب والإقليم بهذا الاتساع والشمول، وبهذا الزخم الشعبي، وبهذا الكم من التضحيات (واسمحوا لي أيضاً أن أقول بهذا الجمال) لكي يسلم الرئيس السلطة لنائب الرئيس. فالرئيس يسلم السلطة لنائبه في حالة فقدان قواه العقلية أو الجسدية، أو في حالة الوفاة، أو في حالة صراع قوى وانقلاب داخل النظام. أما اختزال العمل الثوري إلى مطلب تولي نائب الرئيس مهام الرئيس فقد يعني نوعاً من دعم جناح ضد آخر داخل نظام الحكم نفسه.
يقوم نظام الحكم، أي نظام حكم، بإصلاح نفسه إذا لم يعد قادراً على الحكم بنفس الأساليب. والنظام الذي يُدرك ذلك يستبق الثورات الاجتماعية الشاملة ضده بإصلاح ذاته. وفي كثير من الحالات يشمل الإصلاح انفتاحاً على فئات اجتماعية يستوعبها نظام الحكم، وقد يتجنب بذلك مخاطر الإطاحة به بشكل كامل. أما في حالة مصر فيبدو أن النظام لم يستنتج الحاجة إلى إصلاح، بل فوَّتها عن سبق الإصرار في عدة مناسبات. بل وقد ازداد غروراً وتبجحاً وتدهورت حالته عبر السنين، وانعزل الحاكم عن شعبه في شرم الشيخ، وازداد خطابه استهانة بالنقد، وأمعن في ممارساته الأمنية ضد خصومة. ووصلت الدعاية الإعلامية الفارغة حد العبث غير المتقن الإخراج. (كما جرى في مونتاج صورة الزعماء المعروفة في الأهرام، حين بدا مبارك يتقدم الرؤساء الذين يصغرونه سناً بثلاثين عاماً لكي تُظهره "صحيفة الأهرام" شاباً) وكما ظهر من خطابه وخطاب بعض المثقفين إبان الحرب على غزة، وفي تبرير عدم معاقبة مرتكبي فظائع فساد في قطاع البناء وفي قطاع المواصلات أدت إلى مقتل آلاف المصريين في حريق العبارة وحريق القطار وغيرها.
إن التوجه القاضي باعتبار الثورة احتجاجاً له مطالب، وأن هذه المطالب سوف تُلبّى بمجرد ظهور الرئيس أو نائبه ليعدوا المتظاهرين بقبول بنود الدستور 76 و77، وعدم ترشيح الرئيس لدورة رئاسة إضافية، والتعهد بعدم ترشيح ابنه هي ليست تعبيراً عن تشخيص خاطئ لماهية الثورة فحسب، بل يرجح أنها كاذبة عن قصد وترصد. لأن السلوك برمته يشي برفض المطالب. ومن يريد الإصلاح يُفترض أن يقوم به قبل تفجر الثورة. فالثورة ليست مطلباً موجهاً له بل هي حركة ضده. وليس مطلوباً منه أن يستجيب لمطالب الثورة بل مطلوب منه أن يستنتج أن عليه أن يرحل لأنه غير قادر على البقاء.
من المثير للاستغراب أن يظهر نائب رئيس الجمهورية المُعين كنتيجة من نتائج هذه الثورة ويشكر الشباب" لأنه من دونهم لما حصل هذا الإصلاح، أي لأنه من دونهم لما عُيِّنَ نائباً للرئيس، هذا لو قصد أن يشكرهم على تعينه نائباً للرئيس. ولكنه لم يقصد ذلك بل حاول أن يخدع الثورة وأن يلتف حولها. فمن يشكر لا يمكن أن يحاصر من يشكرهم في الوقت ذاته، وأن يطلق عليهم الزعران والمجرمين، وأن يعتقل الصحفيين لكي لا يُغطوا نشاطهم وأن يحرض على وسائل الإعلام التي ترفع صوتهم، بل وأن يتهمهم بالعمالة لقوى أجنبية.
ليس هنالك شك أن النظام غير صادق في استجابته لما يسميه "مطالب الشباب". فهو قادر على تنفيذ قسم كبير منها الآن لو كان صادقاً: مثلاً أن يرفع حالة الطوارئ الآن، ومثلاً أن يُعلن أن انتخابات مجلس الشعب غير الشرعية الآن، وأن يوقف ملاحقة الصحفيين الآن. ولكنه يقدم الدليل تلو الدليل على أنه غير صادق في قبولها الآن، فما بالك بتنفيذها بعد حين إذا اقتنع الشعب المصري بالمناشدات وفض الثورة، وعاد إلى المنازل؟ ما الذي سيدفع النظام حينها إلى تنفيذ ما رفض سابقاً قبولَه حتى شفوياً، وهو الذي اعترف على لسان نائب الرئيس المعين أنه لولا الثورة لما فكر أصلاً بقبول المطالب نظرياً؟ فهل سينفذ وعوده عملياً في غياب الثورة من الشارع، أم ستبدأ حملة تحريض على "شبكات الجواسيس" و"العملاء" و"المخربين" و"مثيري الشغب"، خاصة بعد أن يثبِّت النظامُ نفسَه، ويستعيد علاقاتِه الدولية معتمداً على براغماتية الغرب بقبول حلفائه القائمين كما هم في غياب الثورة؟ ألم يقبل الغرب النظام المصري كما هو قبل الثورة؟ ألم تتحرك في عروقه دماء حقوق الإنسان والديمقراطية فقط بعد أن نشبت الثورة المدنية؟ لا بدّ من الافتراض أنه سيعود لقبوله والتحالف معه إذا نجح في فض الثورة. لا يجوز إذا العودة الى الحياة الطبيعية إلا بعد تنفيذ المطالب. فالوعود في ظل الثورة لا تعني شيئاً في غيابها. وقد ينتقل النظام إلى الهجوم على الثوار وفتح معسكرات الاعتقال لهم إذا سمح له بالاستمرار وفضت الثورة لأنه وعد.
هذا كله مفهوم لكن ما هو غير مفهوم هو أن يروج مثقفون يعتبرون أنفسهم نقديين (أو كانوا نقديين في إطار الوضع القائم) لمثل هذا المزاج السياسي الذي يعتبر الثورة مأزقاً، ويرى أن مصر في مأزق، وفي الثورة أزمة يحتاج إلى حل. ثم يروجون أن في جعبتهم حلولاً تتلخص في نقل صلاحيات الرئيس إلى نائبه بشكل "سلس" كما يقولون، وفي "تهدئة" الشارع ثم التفاوض مع نائب الرئيس على مطالب الثورة. هذا لا يليق بمثقفين نقديين بل بـطاقم استشاري "Think Tank" يعرض على النظام سيناريوهات مختلفة لكيفية الخروج من المأزق.
والترويج لرئيس مخابرات النظام الذي أصبح نائباً للرئيس بأنه "نظيف" و"محترم"هو أمر غريب إلى حد الاستهجان، خاصة مع علم المروّجين بدوره المحلي والإقليمي في تثبيت النظام طيلة عقود، ومع علمهم بأنه ليس مجرد موظف في خدمة "الديكتاتور"، كما كان محمد الغنوشي في خدمة زين العابدين بن علي مثلاً، بل أحد أركان الدكتاتورية "المُأَدلجين" كما تجلى في علاقاته الخاصة مع إسرائيل والولايات المتحدة في الأزمات التي مرت بها المنطقة في العراق وفلسطين ولبنان وغيرها.
ولن نعلق هنا كيف ولماذا يقرر مجموعة من المثقفين أن يسموا أنفسهم "لجنة حكماء"، وما المقصود بـ"الحكماء"، ومقارنة بمن؟ يتضمن هذا افتراضاً غير مقبول في مراحل الثورات أن الجماهير الثائرة هوجاء وأن النظام متشدد وأنهم هم الحكماء. كما يتضمن تهرباً غير حكيم على الإطلاق (أو ربما يكون "حكيماً" ولكنه مكشوف وغير ذكي) من اتخاذ موقف والبقاء على الحياد في هذه المرحلة.
تحتاج الثورة إلى مثقفين يبلورون ويصيغون أهدافها ويشرحون خططها الإستراتيجية، ولا تحتاج إلى مثقفين يستغلونها في ترتيب علاقاتهم مع نظام قائم يفترضون دوامَه، أو لنصرة جناح على جناح داخل النظام.
ولا شك أن جناح الأمن داخل النظام قد انتصر على جناح "الحزب الوطني"، وأن جناح الأمن في داخل النظام سيضحي ببعض رموزه من داخل الحزب الوطني لكي يظهر وكأنه جاد في محاربة الفساد، فيمنع تنقلهم ويقوم بمصادرة أموالهم ليبدو وكأنه يلبي ما يسميه "مطلب الشارع" أو "مطالب الشباب". لا يستبعد عن هؤلاء حتى الغدر بأصدقائهم لكي يبدوا كمن يقومون بعملية محاربة للفساد، والحقيقة أنهم جزء من الفساد.
من المثقفين والسياسيين المصريين الذين انتقدوا كيفية إدارة النظام لشؤون البلاد أو لم يجدوا لأنفسهم موطئ قدم في داخله أو كانوا نقاداً له بحق وبإخلاص، ولكنهم اعتادوا على سقف معين للنقد هو سقف النظام القائم. هؤلاء جميعاً لا يمكنهم استيعاب ماذا تعني مجازفة الخروج لتغيير النظام. في مثل هذه الحالة يلتزم هؤلاء الصمت ويجلسون في منازلهم بانتظار النتائج أو ينتقلون لأحد المعسكرات. أما أن يحاولوا تأطير الثورة في إطار هذه العقلية التي تعتبر الاجتماع بعمر سليمان إنجازاً مقارنة بالاجتماع بمباحث أمن الدولة، فهو أمر غير مقبول ويجب أن ينتقدهم المثقفون على ذلك.
كانت الثورة المصرية عفوية، وانضمت إليها القوى السياسية ذات الحيثية الشعبية بشكل طبيعي. وهي الآن في طريقها نحو الهدف ولم أسمع في تاريخ الثورات كلها عن ثورة أخرجت هذا الكم من المتظاهرين ضد النظام في عدة مدن بشكل متزامن. لم تعد هذه الثورة بحاجة إلى أدلة بأنها شعبية، لكنها بحاجة إلى تصميم وإستراتيجية للوصول إلى الهدف. فالنظام المصري يقاوم مصيره المحتوم بوسائل عديدة من ضمنها ترويج الأكاذيب والتخويف من الفوضى وادعائه قبول مطالب المحتجين حين يلزم، وادعائه أنهم جواسيس حين يلزم، وقمعهم حين يمكنه ذلك.
ويخطئ من يعتقد أن المسألة مسألة عناد شخص، أو أنها مسألة شخصية. ليس الموضوع طباع مبارك العنيدة ولا معاندته. وأستطيع أن أخاطر بالقول أنه لم يعد يحكم مصر، وأن من يحكم مصر فعلياً الآن هم عمر سليمان ورئيس الحكومة المُعين الجديد أحمد شفيق، وأنهما يحاولان تثبيت نفسيهما في النخب الحاكمة وداخل الدولة كرموز لنظام الحكم. ليس الموضوع عناد شخص وطباعه الشخصية بل أنها زمرة حاكمة تحاول الدفاع عن نفسها وعن مصالحها وأن تُنقذ نفسها في الصراع. إنه صراع سياسي وليس شخصي.
يُحسَم هذا الصراع عندما يعرف هذا النظام أنه إما أن تستمر الثورة حتى تتحول تدريجياً بطبيعة الأمور إلى حالات من الصراع العنيف، أو عندما يقبل بعملية نقل للسلطة عبر مرحلة انتقالية والشروع بعملية تفاوض على كيفية تطبيق الشروط. ويمكن أن يجري التفاض على كيفية تطبيق المرحلة الانتقالية لرحيل النظام مع أي كان.
ليس الموضوع شخصياً، بل يكمن في اعتراف الحكام بأنه لا بدّ من نقل السلطة سلمياً، وأن هذه العملية تحتاج إلى مرحلة انتقالية، وأن التفاوض معهم يتم فقط على آليات المرحلة الانتقالية. هذا تفاوض وليس حواراً. إنه تفاوض على نقل السلطة عبر آلية موثوقة. ولا يستطيع النظام نفسه أن يدير المرحلة الانتقالية. هذا صراع يحتاج إلى تصميم وإستراتيجية وإلى فهم لطبيعة هذا الصراع.
دخل النظام المصري في طور العزلة الدولية الكاملة. ويجب تعميق هذه العزلة لأنه يُضعف النظام ويُضعف ارتباط أصحاب المصالح به، ولتعميق عزلته لا بدّ من الإستمرار ولا بدّ من الوضوح دولياً أن الثورة هي المنتصر، وقد يحصل ارتباك في ذلك إذا سُمِح للنظام بالتقاط أنفاسه. لقد أدركت الولايات المتحدة وأوروبا أنه من الأفضل لها أن تتخلى عن رموز وشخصيات خاسرة في النظام على أن تخسر النظام برمته وأن تعادي الشعوب العربية كافة، وهو ما لم تدركه في حالات إيران وتونس.
يجب التمييز بين أعمال احتجاجية يعقبها تفاوض على مطالب في إطار النظام القائم وبين ثورة لتغيير النظام. الثورة لتغيير النظام ليست مجرد احتجاجات تتوقف في ظل النظام، بل هي سلسلة من الأفعال المستمرة طالما بقي النظام قائماً. وهذا يعني منع تحول الثورة إلى فعل بعينه، اعتصام مثلاً أو مظاهرة. ولا بدّ من الانتقال إلى شكل آخر غير متوقع حيث يُربك النظام بكافة تفرعاته. وقد يعتاد النظام على مجرد اعتصام في ميدان التحرير إذا لم يكن هذا الاعتصام مركزاً لقيادة الثورة خارجه. بالإضافة إلى الاعتصام يمكن أن يتم التظاهر في كل مكان، وأن تندلع الثورة في مصنع وفي صحيفة وفي وسيلة إعلام. تكون الثورة شاملة، إذا شملت كافة فئات المجتمع فيثور الطلاب في الجامعات، ويتمرد الصحفيون في وسائل الإعلام ضد الإملاء عليهم، ويثور العمال في مصانعهم. ليس مطلوب أن يقوم هذا دفعة واحدة بل أن يجتاح القطاعات والمجالات كافة، حتى يقود بعد وقت إلى انتقال جماعات المصالح ومؤسسات الدولة، وأهمها الجيش إلى الطرف المنتصر. وما من شك أن العديد منهم ينضمون كأفراد لهذه الثورة. ولكن في مرحلة ما ينتقل هذا التفاعل الكمي المحسوب بأعداد البشر إلى نقلة نوعية تشمل مؤسسات القضاء والجيش. ولكن الجيش لن يختار ذلك إلا إذا وصل إلى قناعة نتيجة تفاعلات دولية ومحلية، أو إذا وصل إلى مرحلة يُخيّره فيها الثوار عبر أفعالهم بين مصادمتهم وبين الانتقال إلى صفهم. وهذا أمر تصلح له المظاهرات المليونية المتحركة نحو مؤسسات الدولة والتي يصعب على الجيش أن يُطلق النار عليها ويضطر إلى التصالح معها. وهذا لا يتم إذا اعتقد الناس أنهم يقنعون الجيش بمجرد الإكثار من مديحه.
لقد أخرجت الثورة المصرية من الشعب أفضل ما فيه، وأظهرت صورة من التمدن والتنوع والحوار والتواضع غير مألوفة في الحياة السياسية المصرية في ظل النظام. فمنذ زمن بعيد لا يذكره الكثيرون لم يسمع الناس خطيب يوم الجمعة يتحدث عن ملايين المصريين والمصريات، أو يتحدث عن أخلاق الإسلام والمسيحية، ولم يروا هذا الكم من الرجال والنساء المحجبات وغير المحجبات دون ظواهر التحرش، والملايين تُنشد سوية وتسير في مظاهرات منظمة من دون فوضى.
هذه الأنظمة المستبدة تخرج أسوأ ما في مجتمعات العرب عن تعصب وطائفية وجريمة في ظلها. وقد رأينا عينات من سائبة "البلطجية" التي أطلقها النظام أو رجالاته ضد المتظاهرين، فظهر وجوه النظام المتخلف والبدائي في مقابل الشعب المتحضر، وذلك خلافاً لما يروج هو عن شعبه في الغرب الذي يحتاج برأيه إلى حكم الاستبداد لأنه متخلف.
أما حين يخرج الشعب ضدها فكأنه يمر بعملية تطهر من أوساخ وقذارات ثقافة هذه الأنظمة الاستبدادية. لم يبق إنسان مصري أو عربي إلا وانفعل وأبدى انفعاله من مظاهر الزهو والفرح التي رافقت مظاهرات يوم الثلاثاء (1 شباط/فبراير) أو يوم الجمعة (4 شباط/فبراير)، في مقابل وحشية وتخلف ما فعله النظام يومي الأربعاء والخميس (2 و3 شباط/فبراير).
لقد عاد الشعب إلى ذاته وعادت مصر متصالحة مع ذاتها، ويبدو أن العرب في المرحلة الحالية إنما يتصالحون مع ذاتهم عندما يخرجون ضد الأنظمة الاستبدادية الحاكمة.