تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الانسداد والارتداد وصناعة الخبر

2010-03-23

عزمي بشارة

في بعض البلدان أصبح الخبر الرئيسي هو الخبر الاقتصادي، أو المحلي، وحتى الرياضي في المواسم غير الانتخابية على الأقل. ولذلك يعرف المهتمون أسماء الوزراء من مجالات اختصاصهم المحلية. أما أخبار نساء السياسيين فتدخل في باب الإثارة المنحرفة باستراق النظر لخصوصيات النجوم، ممن تحولهم وسائل الإعلام إلى نجوم ريثما يأفلون... كل ذلك في صناعة التسلية والترفيه من المهد للحد، كأنهم سائرون خلف شعار أحب أن أسميه "الاستهلاك حتى الهلاك".

وضعت بعض البلدان قدما في نشرات الأخبار كصناعة التسلية الإخبارية، التي تعدها تقدما إعلاميا مثل كل تقليد لفقدان المعنى في الغرب من دون الأخذ بعناصر تمدنه. في حين مازالت قدمها الأخرى في الواقع العربي تشدها لاعتبار المؤتمرات والزيارات ولقاءات السياسيين، "استقبل، وودع، وافتتح، ورد، ورفض الرد"، أخبارا.

كيف تتدبر تعددية وسائل الإعلام في البلدان الأخيرة وتنافسيتها (وبالأساس كثرتها) حالة عدم توافر الخبر بالمعنى الإعلامي للكلمة، ماذا تفعل حين لا يحصل شيء يستحق الذكر؟ كيف تملأ الساعات والصفحات؟ والأهم من هذا وذاك، كيف "تكون على مستوى" توقعات المواطن وتستجيب لتطلعه للإثارة؟ وهو تطلع ساهمت وتساهم يوميا في توليده.

الإجابة ليست بسيطة طبعا، ولكن يمكننا تبسيطها. إنها تخترع أخبارا سياسية غير موجودة بتحويلها العادي إلى حدث، فهي تتبرع له، تكرم عليه بمعان لا يملكها، أو تضخم حدثا أو محاضرة أو خطابا. تخلع عليه ثوبا إعلاميا إخباريا لا يلائم قياسه. تختلق قبل الخطاب توقعا لما قد يقال، وما لن يقال... وتناقش بمنتهى الجدية لماذا لم يقل ما توقع "الجميع" أن يقال... وما إلى ذلك من القيل والقال.

ويصبح عدم وقوع الاختلاق خبرا. وتحول كلام السياسيين وزيارتهم المتبادلة واجتماعاتهم إلى خبر... حتى حين لا تتجاوز المجاملة. يجري تصويرهم جالسين على مقاعد متقابلة يتبادلون الأحاديث. يضفي صمت الكاميرا وتراكض المستشارين والمساعدين وجدية ملامحهم مهابة ورصانة مشوبة بالغموض. رغم أنهم يتحدثون عن الطقس في تلك اللحظة، أو يتبادلون الاهتمام بالصحة وراحة الرحلة والإقامة.

وحتى حين يتناولون آخر المستجدات، فإنهم يفعلون ذلك كما يفعل عموم الناس. وفي عالمنا، ولنفس الأسباب المتعلقة بالاستهلاك، بما فيه استهلاك المعلومة، والكثرة والوفرة، بما فيها وفرة المعلومات، أصبح السياسيون أقل معرفة حتى من الناس الذين يتابعون ما يجري بجدية. فمن يتابع وينبش بمبادرته، من لا يعيش على هامش المشهد الذي يتعرض له، يكتشف أن كل شيء معرض للتسريب، وأن الفن لم يعد مقتصرا على الوصول إلى المعلومة، بل يفوقه أهمية الانتقاء المطلوب أمام سيل المعلومات، والتمييز الضروري بين الجدي وغير الجدي، وبين ما يرشح وحده من الحاضرين والمعاونين والسكرتارية، من جهة، وما يسرب عن قصد لهدف وغاية، لكي يصبح خبرا من جهة أخرى (مثال على ذلك ما تسربه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية للصحافة الإسرائيلية عن قصد، لأنها تريده أن ينتشر عربيا معتمدة على اجتهاد العرب أصحاب الهمة في ترجمة ونشر كل ما يصدر من إسرائيل دون تمحيص أو إلمام... وذلك موضوع مختلف وهم آخر).

طبعا لا تخلو الاجتماعات من خبر يبدو ناتجا عن اللقاء، مع أنه يترتب في الواقع على تغيير قلما يكون إراديا: مثل أزمة اقتصادية تؤدي إلى تغيير السياسات، أي تصنع خبرا. وقد يكون إراديا في حالات يصنع فيها السياسيون الخبر: كمثل قرار سياسي بخطوة تترجم طموحات وسياسات، أو تنجم عن تقدير توافر فرصة تفترص ... وما يتبع ذلك من نجاح أو فشل.

وقد أنتج العرب مؤخرا أحداثا وأخبارا حقيقية، ولكن ليس على المستوى الرسمي، ولا حتى المنظم أحيانا. فلنتخيل مثلا ماذا لو لم يقاوم الشعب العراقي الاحتلال. يصعب حصر السيناريو الممكن، من إنتاج نظام حكم طائفي فدرالي بقواعد أميركية يؤثر تأثيرا محددا جدا على جيرانه، وإلى استمرار المحافظين الجدد في إدارة شؤون السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة العربية وفي غيرها. لكن الشعب العراقي قاوم الاحتلال. وصنع أحداثا من نوع آخر، نضيفها على ما لم يحصل لأنه قاوم. فمثلا سقطت سياسات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وغيّر الشعب الأميركي حكامه الشكليين على الأقل، أو للدقة، اختار خطابا سياسيا آخر للبيت الأبيض.

ويمكن القول إن المقاومة العراقية نجحت على المستوى العالمي في إسقاط سياسات. وحمت دولا بأكملها من استمرار التدخل الأميركي، في الوقت الذي أخفقت فيه في طرح بديل وطني موحد على المستوى المحلي، وأخفقت حتى في طرح نموذج منظم. وقع هنا حدثان رئيسيان، أنتجا عنوانين كبيرين تشعبت عنهما أخبار لا تحصى. العنوان الأول هو مقاومة العراقيين، والثاني هو استنتاج الأميركيين... أما الثالث فليس حدثا، ولكنه على قدر بالغ من الأهمية. إنه صيرورة وحالة نفسية مؤثرة ومهمة في سلوك الناس السياسي وردود فعلهم، ويمكن تلخيصه بخوف الناس من الفوضى (وهو خوف قديم قدم الدول).

أما الأنظمة السياسية والقوى والكيانات التي انضمت إلى الولايات المتحدة في تصعيدها من العام 2001 (خاصة منذ العام 2003) وحتى العام 2009، فقد فعلت ذلك إما لأنها أصلا في المحور الأميركي، بمعنى التبعية وفقدان القرار، أو لأنها خشيت أن تنتصر الولايات المتحدة من دون أن تحسب لها مساهمة في هذا الانتصار عند توزيع المكرمات الأميركية. انضم الأخيرون بغض النظر عن رأيهم فيها. فلا الرأي مهم، ولا المبدأ معتبر. المهم هو غريزة البقاء في الزعامة. والغريزة ليست خبرا. وحتى الخيار لم يكن خبرا، فقد كان مجرد إسقاط من إسقاطات الهجوم الأميركي على المنطقة. وطبعا، قد يسمع الاعتراض هنا، أن الانضمام يشكل دليلا على الانتهازية. وهذا وإن لم يكن حدثا كبيرا، فهو على الأقل "كشف صحفي" يوضح من هو الانتهازي.

حسنا. ولكن بعد أن قرر الأميركيون، جيشا وحكومة وشعبا (كما يقال في بلداننا) تغيير أساليبهم، بدأ الانتهازيون الذين انضموا زرافات بالانسلال من المواجهة وحدانا. وهذا بالتأكيد ليس خبرا، ولا كشف فيه. فالانتهازي عرف بانتهازيته، واتهم بأكثر منها مرات عدة. وما يبدو خبرا للمرة الألف لا يتعدى مجرد الارتداد الحادث نتيجة لزلزال في مكان آخر. ومع ذلك يمكن الاعتراض بالادعاء أن هنالك خبرا.

فقد كان بإمكان السياسي الانتهازي أن يستمر في الخط نفسه الذي ثبت خطؤه، ولكنه اختار أن يسير مع التيار. بيد أن انجراف الانتهازي مع التيار ليس خبرا، بالتأكيد. ولو اختار الانتهازي أن يسلك طريقا غير انتهازي لصنع فعلا خبرا، ولكن أن يتخذ الانتهازي قرارا انتهازيا متوقعا، فهذا ليس خبرا. حسنا أهو ذكاء وحسن تشخيص يستحق الذكر إذن؟ من الواضح أن الذكاء يتطلب تشخيصا مبكرا وتحليلا مبكرا للخطأ، ولكن إدراكه بعد وقوعه وبعد أن تحولت الدنيا ليس ذكاء ولا تشخيصا.

ما يفترض أن يثير اهتمام الجمهور والإعلام عن بعض الانتهازيين ليس القفز، فهذه طبيعة الانتهازي. ولكن ليس كل انتهازي يخرق الخطوط الحمر حين يمارس القفز، ولا يتألف كل انتهازي من خليط فريد بين الدموية والجبن، وأقصد الدموية وانعدام الروادع في استخدام العنف ضد الآخرين والخوف الشخصي من أي عنف. هذه الخصوصية هي الخبر. وهي خصوصية مثيرة ينفر منها الإنسان العادي.

أين أنت أيها الإنسان العادي؟ اشتقنا لك.

أسمعنا صوتك أيها المواطن ذا العقل السليم.

أما كيف يتحول التغير الناجم عن الخوف على المصلحة، أو حتى عن الخوف عموما إلى مناقب، وكيف يتحول تشخيص الأمور بشكل خاطئ وإدراكها بعد حصولها إلى ذكاء، وحتى إلى خفة دم، فالإجابة عند صناع الصور في عصر الانهيار القيمي، حين تصنف الأشياء ليس بموجب خواصها، بل بموجب مصالح المتكلم.

وكلام المتكلم من دون ضمير المتكلم هو لغو ينتصر فيه التعبير ليس عن الحقيقة بل على الحقيقة.

لا ينتج الحكام العرب أخبارا منذ فترة طويلة. فقد كانت المحاور التي نشأت وملأت الدنيا صراخا، والقمم التي قوطعت، والمثقفون والإعلاميون الشتامون والرداحون بحسب الطلب، وما شهدنا من "زيارات هامة" و"لقاءات صريحة" و"اتفاق الطرفين" و"تأكيدهما"، ومؤتمرات، ولقاءات كانت كلها مجرد ارتدادات ناجمة عن هزة حصلت في الولايات المتحدة وعن تغير طرأ على سياستها الخارجية. لم تنتج الأنظمة العربية الرسمية خبرا منذ مدة.

نحمد الله على كل حال، وعن مثل ذلك قال أحد الظرفاء نحمده، ولا نشكره. لماذا لا نشكره؟ لأنه قال تعالى "لئن شكرتم لأزيدنكم".

وفي منطقتنا تنتج الأخبار في إسرائيل التي تقرر ما تقرره بشأن حروبها وجيشها واقتصادها واستيطانها، وفي تركيا التي تحدد فيها التفاعل بين الشعب ونخبه السياسية بالانتخابات وبغيرها، وأنتج مؤخرا خيارات اقتصادية وسياسية وثقافية جديدة تتجاوز التأثر إلى التأثير، بغض النظر عن الرأي فيها. وفي إيران تنتج الدولة أخبارا، وكذلك المعارضة.

أما عربيا فنشهد ارتدادات عن هذا كله على المستوى الرسمي، حيث لا تصنع الأخبار كمسميات بل كأسماء فقط. لم تكن المصالحات العربية الأخيرة خيارا إستراتيجيا بناء على تغير سياسي، بل أدى تغيير سياسة المواجهة الأميركية في المنطقة وانعكاسه في الانتخابات إلى تعديل في سياسات المواجهة لدى المحاور العربية من دون تغير هذه السياسات. التغير شكلي. وهذا يعني أن يكثر اللغو. أما على المستوى الشعبي فقد أنتج الشعب العراقي مرة أخرى الخبر، إذ صنع حدثا انتخابيا حقيقيا بغض النظر عن رأينا فيه. لقد رفض ما هو قائم واختار البديل مع عدم توفر معرفة كافية بطبيعة ما جرى اختياره.

لا تصنع أنظمة هذه الأمة أخبارا بالمعنى أعلاه منذ فترة طويلة. فهي منشغلة بالحفاظ على أمنها الداخلي. وهذا ليس خبرا، بل هذه طبيعة الأنظمة. وتشتق علاقاتها الإقليمية من هذا المسعى ومن ركيزته الأساسية، وهي العلاقة الموجودة أو المنشودة مع الولايات المتحدة.

هذا السلوك أدى إلى انسداد وبات افتضاح هذا السلوك يزيده سوءا.

فمن حين لآخر يفتضح أمر علاقة هذه الأنظمة بالولايات المتحدة وإسرائيل في قضايا عينية وأمنية تعد محرمات في عرف المواطن العادي، وقد يحاكم عليها بتهمة الخيانة في بعض الدول. فيشكل حجم الارتباط بالولايات المتحدة، لا حقيقة وجود الارتباط فضيحة إخبارية حقيقية، أي يشكل حجم الفضيحة خبرا. ولكن يتبين بعد حين أن الفضح والفضيحة، والكشف والانكشاف يحرج في البداية فقط. ويوجد دائما مثقفون وإعلاميون محرجون يدافعون. ولا يلبث التعرق أن يجف على وجوه الناطقين الذين أبلغهم أحد ما أن أفضل وسيلة هي الهجوم. يتحول الحرج إلى سماكة جلد. وبعدها يصبح النظام أقل خجلا مما كان، فيزداد إمعانا في سياسته.

ومنذ فترة تجاهر غالبية الدول العربية بأنها تطمح إلى تسوية القضية الفلسطينية بأسرع وقت، وترى أي رفض لأي تسوية غير عادلة تطرفا. ولكن بما أن الشعب الفلسطيني والشعوب العربية ترفض الحل غير العادل، وبما أن جذوة المقاومة ما زالت قائمة (في طريقها المسدود أيضا في الحالة العربية الراهنة)، فإن الأنظمة ومن ورائها الولايات المتحدة تكتفي بـ"عملية سلام". فالمفاوضات تؤمن الحد الأدنى من الاستقرار لإدارة السياسات والاقتصاد. وهي تؤمل البعض أيضا فتملأ الفراغ المعنوي بالأوهام. وتخفف القهر والغضب بموفد هنا وبمؤتمر هناك، وبلجنة عربية تجتمع وهكذا.

السياسة في هذه الحالة هي "أفيون الشعوب". ويعد المشهد الإعلامي حلبته الرئيسة. فيعد كل تصريح أميركي تقدما، وكل اجتماع فرصة، ويدعى الجميع لانتظار الاجتماع "يوم الخميس القادم" وانعقاد الرباعية بعده ثم الزيارة. وبعدها؟ وبعدها طبعا مفاوضات غير مباشرة قد تنجز مفاوضات مباشرة بإذن الله.

وكما توجد شركات طيران وفنادق وقاعات مستفيدة، وصحفيون وصحفيات، فلا بد أن يوجد أيضا خبراء، مهنيون، نعم خبراء بالكلام الفارغ، ومهنتهم هي هذه "المسخرة".

لقد تجلى بما لا يقبل الشك عدم قدرة الدول العربية وعدم رغبتها في فعل شيء في ظل علاقاتها الحالية. ومن دفعته علاقاته الأميركية الإسرائيلية إلى ارتكاب ما لم يمكن تخيله في الماضي، وتم الإمساك به متلبسا بالجريمة أمعن في مواقفه وأصبح محصنا شعوريا ضد الفضائح.

هذه الحالة التي نشأت مؤخرا، (يضاف إليها تلويح إسرائيل برفع ثمن المقاومة بواسطة الحرب، وهو ما لم يجد ردا مقاوما بعد) تسمى حالة انسداد. وقد تعرف سكان غزة معنى الانسداد الحرفي والجسدي.

من قال إنه لا توجد أخبار؟ بل توجد. توجد أخبار يصنعها الأميركيون حتى في الرباعية إبان القيلولة. تصنع الولايات المتحدة أخبارا سيئة. ليس فقط لا يطرأ تقدم، بل يحصل تدهور، فيما يتلهى العرب بأخبار متخيلة عن خلافات وهمية بين إسرائيل والولايات المتحدة. فالولايات المتحدة لا تكتفي بتمرير الوقت، بل تنتج في هذه السياق أخبارا لا يسمعها أحد من المخدرة حواسهم تثاؤبا لرؤية كبير المفاوضين وسماع كبير المحللين... لقد قرأ مون بيان الرباعية وقد تضمن أمرين جديدين: أنه في القدس الشرقية (وليس في القدس) توجد مطالب مشروعة للطرفين... وهذا يعني أن لإسرائيل مطالب مشروعة في القدس الشرقية، وأنه ليس للفلسطينيين مطالب في القدس الغربية، وأن حل القضية يجب أن يكون حتى العام 2014.

وطبعا التشديد ليس على "يجب"، بل على اتفاق المشاركين في اجتماع موسكو على تأجيل توقعات، ما يسمى بـ"الحل"، إلى ما بعد انتهاء مدة وظائفهم... وهو تجديد لا ينفك يتجدد من تلقاء نفسه كل خمس سنوات. وافرحوا أيها الكتاب، وتهللوا أيها المحللون لا تخشوا البطالة، سيكون كلاما.

هذه أخبار إذن رغم كل شيء. وقد مرت من دون انتباه.

لو شكل الغضب العربي الرسمي سببا للولايات المتحدة كي تختلف مع إسرائيل لحصل خبر. ولو شكل الغضب الشعبي المنظم إحراجا للواقع الرسمي لصنع خبرا.

لا بد من قطيعة معرفية مع الوهم المقدم كأنه حدث. ولا بد من وقف التوقعات من النظام العربي الحالي. ولا بد من توضيح المبادئ والأساسيات للبناء عليها، لمقاومة ما يجري ولتحديد ماذا نريد.