تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاحتراب الطائفي بديلاً للمشروع القومي

2007-11-23

عزمي بشارة

 

رغم فشل الدول العربية في عملية بناء الامة على اساس المواطنة او على الأقل على أساس هوية محلية إثنية وطنية تاريخية، يستمر اتهام دعاة القومية العربية بانشغالات رومانسية. وبغض النظر عن شرعية أو عدم شرعية الدولة القطرية وهي من إشكاليات الفكر القومي العربي التي آن أوان التخلص منها لم تنجح الدولة حتى الآن في مهمتها الاساسية وهي عملية بناء الأمة. هو الفشل البادي بشكل مرعب من انهيار الدولة مع انهيار النظام في العراق، ومن الخوف الآخذ بالانتشار من تحول الخلاف السياسي في كل دولة عربية الى احتراب طائفي، أو الخوف المعاكس من تسييس الانتماءات الطائفية وتحولها الى مصالح طائفية يتماهى معها الأفراد ويتبنونها كأنها مصالحهم فعلاً كـ «أبناء طائفة».

 

وأخيراً تحول حتى الخوف من الحرب الخارجية التي يشنها عدو خارجي الى خوف أن تؤدي الحرب الخارجية إلى احتراب داخلي. لا يمكن الادعاء ان هذه الوقائع هي دليل على نجاح في تثبيت الوطنية القطرية. ويعود جزء اساسي من الخلاف على تشكل أو عدم تشكل الأمة العربية الى عدم التمييز بين القومية العربية القائمة على أساس ثقافي تضاف إليه إرادة سياسية ممثلة بالحركة القومية وأحزابها ومثقفيها وكتابها ونخبها تعيد تشكيل التاريخ والذاكرة كتاريخ قومي وبين الأمة ككائن سياسي تشكله الدولة وقد تكون قومية وغير قومية، ولكنها غالبا أمم قومية في التاريخ الحديث. مع عدم استثناء تشكل أمم غير قومية في ما قبل الحداثة وفي الحداثة الأميركية مثلا. في الحالة العربية توقف التطور عند القومية ولم يتح للقومية العربية بناء أمة في دولة وهو توق مشروع، ومشروعيته تتوقف على النجاح في انتزاع الحق وانتصاره وليس على نقاشات سفسطائية. وبقيت الأمة العربية قائمة كإيديولوجيا وانتماء وثقافة قومية... أي أقرب إلى القومية. أما الأمة التي يفترض ان تبنيها الدولة على أساس الاقتصاد المشترك والتجربة المشتركة في الدولة وبرامج التدريس الرسمية وإعادة كتابة التاريخ كتاريخ مشترك وغيرها فإما أعلنت غير شرعية أو تحولت إلى هوية قطرية فولكلورية ورومانسية الى حد بعيد بما فيها من محاولات مهرجانية بابلية وفينيقية وكنعانية وفرعونية بودر اليها من أعلى لتنفيذ مآرب سياسية وإعادة تشكيل الانتماء والولاءات على أساسها.

 

ولو نجحت الدولة القطرية في تشكيل أمة مدنية على اساس الانخراط في مواطنة حقوقية هي الضمان ضد الاستبداد وليس العشيرة أو الطائفة، لكان ربما قد وقع فصل محمود مهما بدا غريباً بين قومية عربية ثقافية تنتمي إليها غالبية المواطنين في الدول العربية من جهة، وأمة سياسية قائمة على المواطنة في الدولة القطرية من جهة أخرى: هي مجتمع مدني نحو الداخل وأمة نحو الخارج. ولكن هذا لم يحصل.

 

وأحد الأسباب الرئيسية لغياب هذا المسعى أصلاً، أو فشله، هو برأينا أن «المسألة العربية» ظلت غير محلولة. فقد بقيت الخيارات قائمة بين قومية عربية ثقافية وسياسية في آن معا، وبين انتماءات سياسية عشائرية وطائفية بعضها عابر وبعضها غير عابر لحدود الدول.

 

في مثل هذا الظرف الذي ثبت فيه عدم واقعية الأمم القطرية، وتحول البديل للقومية العربية الى بديل سياسي طائفي أو عشائري لم يعد ممكنا التعاطي مع القومية العربية كحالة رومانسية إلا كتعبير عن موقف سياسي. هذا ليس حكما تحليليا بل موقف سياسي.

 

فالقومية العربية قبل مرحلة بناء امة المواطنين هي حاجة عملية لتوحيد غالبية الشعب حتى في الدولة القطرية لكي لا تنهار الى طوائف، وهي ليست مجرد «إثنية» مختلقة مركبة بل جامع ثقافي من الدرجة الاولى يقوم على اللغة المشتركة، وجامع سياسي وتعبير عن تطلعات سياسية لها تاريخ حديث تسقطه على القديم... من هذه الناحية لم تقم في التاريخ قومية غير رومانسية.

 

ليست القومية العربية حالة رومانسية إذاً بل حاجة عملية ماسة وبراغماتية للوصول ليس فقط الى مجتمع حديث قائم على الانتماء الفردي، بل ايضا لتزويد المواطن بهوية ثقافية جامعة تحيد غالبية الطوائف والعشائر، العربية على الأقل، عن التحكم بانتماء الفرد السياسي.

 

وحتى لو لم تقم على اساسها دولة عربية واحدة تبني أمة عربية في المرحلة الراهنة، فإن الدول العربية القطرية لا تستطيع الاستغناء عنها في عملية بناء امة لمواطنيها العرب وغير العرب. وكما تشكل حاليا أساساً لرابطة الجامعة العربية فهي المؤهلة لتشكيل اساس لتعاون ووحدة دول عربية في المستقبل على نمط الاتحاد الأوروبي. وبين الدول العربية من المشترك والموحد أكثر بكثير مما بين دول الاتحاد الاوروبي التي لا تجمعها لغة قومية، ووقعت بينها في الماضي غير البعيد حروب دينية وحروب قومية وحروب عالمية. ليست القومية العربية الهادفة لتكوين دولة عربية أكثر تجزؤاً من المانيا وإيطاليا قبل مئة عام، ناهيك عن أوروبا. كما أن وجود تيار عروبي فاعل يطرح المشترك ويلح عليه ويعارض التجزئة الطائفية ويطرح بدائل ديموقراطية ويندمج في الحركة الثقافية والجماهيرية في كل بلد على حدة هو ضمانة أكيدة ضد هيمنة الفكرة الطائفية او الانتماءات التجزيئية الأخرى للأمة.

 

ولكن مهمة هذا التيار العروبي الرئيسية لا تكمن بالوعظ والتبشير والتثقيف، على أهمية هذه المهمات التي لم تسغن عنها نخبة قومية في التاريخ، بل في ربط نفسه بمهمات التحول الديموقراطي في كل بلد على حدة.

 

من أين يأتي انطباع الرومانسية هذا عن القومية والذي يجتره السطحيون من حلفاء المرحلة الأميركية ويمضغونه ثم يبصقونه بعدمية باتجاه القوميين وغيرهم من نقاد المرحلة؟ ونقول «العدميين» لأنهم يعجبون بالتطرف القومي والرومانسية القومية اذا تجلت على نمط خطب بوش في كاتدرائية في واشنطن، أو كتهديد ضد دولة لا يؤيدون نظامها، أو إذا كررها اليسار الإسرائيلي في صراعه ضد حق العودة الفلسطيني ودفاعا عن قانون العودة الإسرائيلي ومع يهودية الدولة بنبرة قومية دينية لافتة لا يعتبرها العدميون العرب رومانسية، بل يحترمونها ويدعون الفلسطينيين الى احترامها. وفي الواقع لا تخلو الطقوس والخطب الاميركية والإسرائيلية الرسمية من رومانسيات واساطير قومية ودينية، بل تعج بها... ولكنها لسبب ما تثير النشوة في العدمي العربي.

 

هم لا يدرون شيئا عن جذور هذا الانطباع عن القومية، ولكننا ندري. ويجب ان ندري اذا اردنا ان نقيّم تاريخ الفكر القومي العربي وغير العربي تقييما نقديا. فالقومية كتجاوز الانتماء الثقافي الى إيديولوجية سياسية رئيسية، وكتيار مركزي في المجتمع نشأت في الدول التي تأخرت في التطور الرأسمالي، وغالبا ما جاءها كتحديث قسري من أعلى. وحلت فيها القومية كرد فعل رومانسي على انحلال الجماعة العضوية ومحاولة إعادة تأليفها كـ «جماعة متخيلة» ضد «الفردية» و «الانحلال» والليبرالية التي ميزت المجتمعات الرأسمالية المتقدمة وذلك في القومية القائمة على الثقافة او الانتماء الإثني.

 

ومع هذه الرومانسية نشأت في الإيديولوجيات القومية مظاهر تقديسية للانتماء وللوطن وللجماعة، ثم للانضباط والطاعة والتنشئة على قيم قومية والرغبة في تنظيم التحول الاجتماعي بشكل شبه عسكري للتعويض عن التخلف والتأخر في التطور الرأسمالي وللتعويض عن ضعف قيم الحداثة في المجتمع بالتخطيط الصارم والهندسة الاجتماعية. وقد ولّدت هذه الأفكار ما ولّدت من عمليات تحديث في إيطاليا والمانيا وبولندا وروسيا، ولكنها أنجبت ايضاً انظمة شمولية من أسوأ نوع.

 

لم تسنح الفرص للقومية العربية للوصول الى هذه المراحل، ولكن لوحظ عند مفكريها الرومانسيين مثل زكي الأرسوزي وحتى المحدثين والحداثيين بينهم من أمثال قسطنطين زريق وساطع الحصري تأثر شديد بالرومانسية القومية الألمانية والإيطالية. وقد اختلط في هذا التأثر الإعجاب بسرعة التوحيد والتنظيم والتحديث والضبط ونشر العلم والتصنيع في مجتمعات كانت حتى مرحلة قريبة مجزأة الى امارات ومتخلفة، اختلط مع العداء للمستعمر البريطاني والفرنسي في ما بعد.

 

ولكن برأينا يجب عدم الخلط بين هذه الميول التي بقيت إيديولوجية وبين تشديد القوميين الاوائل على التربية والنهضة بالشباب والتثقيف القيمي والأخلاقي ومنح الشباب حلما وقيما ومعنى. فهذه ليست بالضرورة رومانسيات، وحتى لو تضمنت بعض الرومانسية إلا أنها عبرت عن حاجة ماسة. ولذلك تولت عملية إعداد البرامج للتربية والتعليم نخب تلك المرحلة مثل ساطع الحصري بنفسه وطه حسين بنفسه، وأدى غيابها ليس فقط إلى انهيار عملية التعليم والتربية بل ساهم ايضا في مفاقمة الأزمة الأخلاقية التي تعيشها الثقافة والسياسة العربية في المرحلة الراهنة.

 

يذكر عزيز العظمة في كتابه الممتاز عن المفكر العربي قسطنطين زريق سخرية رئيف خوري الماركسي من القيم التربوية المتضمنة في كتاب «الوعي القومي» لزريق، إذ يشبهها بالوعظ الكنسي الإنشائي.

 

ورئيف خوري ماركسي لامع، وكاتب مجيد. وقد ترك بعض الماركسيين العرب تحليلات جيدة جداً لحال المجتمعات العربية وحتى للقضية الطائفية. ولكن سخرية الماركسيين عموما وحتى الأخلاقيين من بينهم من القضية الأخلاقية والتربوية والقومية واعتمادهم نسبية الأخلاق والتساؤل الدائم حول أي مصلحة تخدم القيمة الأخلاقية واتهام القومية بالرومانسية هو مثال على تهافت هذا النوع من النقد. فقد أدى الى ما أدى اليه في دول المنظومة الاشتراكية من هدم الإنسان في ما يتجاوز حتى آثار انهيار الديكتاتورية الشمولية، كما أدى في الاساس الى تحول بعض اليسارييين العرب من اتهام القومية بالرومانسية من اليسار الى اتهمامها بالرومانسية من موقع اليمين، أو من داخل المعسكر الاميركي - الاسرائيلي الذي يعج بالقوميين الرومانسيين من المحافظين الجدد وحتى اليسار الصهيوني. هذا مثال فقط. ففيما عدا القوميين المتطرفين أنفسهم، فإن أعداء القومية العربية الجديين في ايامنا هم الطائفيون وأنصار تكريس الوضع القائم على أنواعهم والذين يعتبرون النظر الى العام من خلال مصالحهم الضيقة واقعية... وقد يثبت انها رومانسية مقلوبة كما هي حال العدمية دائماً.

 

الحياة