تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

إصلاح

2007-09-16

عندما يحل إصلاح ديمقراطي على شعب متعطش للديمقراطية ترتفع نسب التصويت في أي انتخابات تأتي في سياقه. هذا كلام منطقي نظريا، وهو حقيقة تاريخية مثبتة أيضا. وعندما تنخفض نسب التصويت رغم الحديث عن الإصلاح كما جرى في المغرب، فيبدو أن الناس لا ترى إصلاحا فعلا. ينتشر التشكيك على نطاق واسع بضرورة التصويت إما نتيجة لتعب وإشباع من السياسة في مجتمع قوى اقتصاديا وفردية استهلاكية كما في الغرب، أو لأن المصوتين لا يرون قيمة للصوت ومصداقية للتصويت.
 

في المغرب التي انخفضت فيها ملكية القصر (المخزن) لحركة الأسهم والاقتصاد في البلد من ما فوق الستين بالمائة إلى أقل من خمسين بالمائة مؤخرا فقط (إكونومست، 8-14 أيلول سبتمبر، ص. 43)، وحيث ما زالت الصلاحيات كلها مركزة بيد صاحب السيادة الذي يجمع في شخصه الملك والقائد العام وأمير المؤمنين القادر على حل الحكومة والبرلمان، لا يرى الناس أن الانتخابات تلامس مصادر السلطة الفعلية. وهذا حال الإصلاح في كافة الدول العربية حيث يصلح النظام برلمانا دون صلاحيات فعلية تتجاوز ما يفرده له صاحب السيادة الفعلي.
 

وحتى في انتخاب برلمان فاقد السيادة لا يعني تقسيم البلد إلى 95 منطقة انتخابية إلا منع أي حزب من الحصول على أكثرية. فلكي يحصل أي حزب على أكثر من مقعد في المنطقة الواحدة لا يكفي أن يحتل المرتبة الأولى فقط بل يجب أن يحوز على ضعف أصوات الحزب الذي يليه. تنافس فعلي بين أحزاب فعلية يكون على سلطات فعلية. وفي الدول العربية حتى الإصلاح المحدود لمؤسسات لا تمارس سلطة حقيقية يتم بطريقة تمنع نمو وتطور أحزاب فعلية.

 

سؤال أمريكي
 

في سياق النقاش الماروتيني الأخير الذي استخدمه بوش كمشهد إعلامي لتغطية سياسته نذكر أنه قبل أربعين عاما دعا الرئيس ليندون جونسون قائد قواته في فيتنام الجنرال وليام ويستمورلاند ليدلي بشهادة أمام "البيتين"، مجلسي الكونجرس. وقد قام ويستمورلاند بالواجب وأكثر، إذ أكد أن الفيتكونج وجيش فيتنام الشمالية هما بمثابة مهزومين، وذلك رغم أنها حرب لم تعرف الولايات المتحدة مثلها من ناحية تحرك الجبهات وتنوع العمليات وتبعثرها على طول البلاد وعرضها، على حد تعبيره. وشدد الجنرال على النجاح في بناء حكومة ديمقراطية في فيتنام الجنوبية كما قيم عاليا "التعاون البناء بين قواته وقواتها". وبشر قائلا "إننا نربح حرب الاستنزاف القائمة"، وإن "كسر العدو نهائيا يحتاج إلى سنتين".
 

ومع بداية العام 1968 شنت قوات الفيتكونج معززة بجيش فيتنام النظامي هجوما واسعا في مائة موقع بما فيها سايجون والسفارة الأميركية ذاتها. ولم يبقِ على اثرٍ من شهادة ويستمورلاند. وواصلت أميركا تكبد الخسائر إلى حين وقف إطلاق النار عام 1973 الذي لم يصمد. والنهاية معروفة.

فيما بعد اتهُِم الجنرال بتضليل الكونجرس والرأي العام وشهَّرت به الصحافة. ولكنه لم يعترف بالفشل بمرور السنين. ونسب إليه ما أصبح عونا فكريا وأخلاقيا للمحافظين الجدد للخروج من "عقدة فيتنام" أن الهزيمة لم تكن عسكرية، وأن الرأي العام الأميركي لم يصمد، وأن الدولة ملامة لأنها لم تحترم التزامها تجاه الأصدقاء والحلفاء في فيتنام الجنوبية.
 

ولن يسيء القارئ الظن إذا قلنا أننا لا نتوقع لبتريوس نفس المصير. فبتريوس لاقى مصيره. لقد سبق أن كتب هذا الجنرال\ السياسي مقالا شبيها بشهادة ويستمورلاند في أوج فوضى سفك الدماء في العراق، (واشنطن بوست، 24 أيلول\سبتمبر 2004). 
 

في ذلك المقال دافع بتريوس عن سياسة بوش مكررا عبارات باتت كليشيهات مضحكة مثل: "أرى تقدما ملموسا، القوى الأمنية العراقية يتم بناؤها من الأساس"، "هنالك تقدم في الجهود الرامية لتمكين العراقيين أن يحملوا جزء أكبر من العبء الأمني"، وطبعا أنه يرى الضوء في آخر النفق. والطريف أنه أكد أن " الأرقام ليست كل شيء" مشيرا إلى الأعداد الرهيبة من القتلى المدنيين، وعمليات التفجير، والعمليات ضد قوات الاحتلال. أما في تقريره الأخير أمام الكونجرس فغدت الأرقام كل شيء، إذ جرى انتقاء ما يلزم من مقارنات. وتم خصم عدد كبير من القتلى المدنيين في نوع جديد من التمييز بين العنف الجنائي والعنف الطائفي، كما اختيرت بعناية الأشهر المناسبة لإجراء مقارنات تظهر تحسنا.
 

طبعا لم يترك موظفا بوش، الدبلوماسي والآمر العسكري، أي انطباع على المستمعين. والمستمعون بدورهم كانوا سيتسامحون لو نجح بوش في مهمته، فقد أيدوا الحرب بداية، وهتفوا لبوش عندما أعلن انتهاء العمليات العسكرية من على حاملة الطائرات.
 

إن النقاش على نجاح أو فشل المهمة في العراق هو نقاش وطني أميركي. ولا يفترض أن معارضي الحرب من الناحية المبدئية يدفعون إلى موقفهم من إجابة على سؤال هل نجح بوش في تحقيق أهدافه أم لا، بل من الإجابة على سؤال عن شرعية تلك الأهداف. أما المقاومة فلا تسأل هل نجح الاحتلال أم فشل، بل تسعى لإفشاله. وهي التي تؤدي إلى نقاش بين من كانوا مؤيدين للحرب وتدفع بجزء منهم إلى معارضتها وحسم المسألة.
 

أميركا في مأزق لأنها لا تستطيع الانسحاب مهزومة دون تحقيق أي هدف اللهم إلا الحرب الأهلية وتقسيم العراق في حالة انسحابها الفوري، فهي تفقد بذلك آخر ذرة مصداقية لدى حلفائها وتترك المنطقة فريسة لأعدائهم. ولكن استمرار احتلالها من ناحية أخرى لا يمدد إلا للنزيف. ولن يصل إلى أهدافه المعلنة لأن السكة التي تسافر عليها تتجه نحو تفتيت وتجزئة أشد وأعنف. فأميركا تتباهى حاليا بتسلح العشائر بعد أن آل تسليح الطوائف والتسامح مع مليشيات المهدي وبدر الطائفية إلى هذا المآل. إنها تعالج التجزئة الطائفية بتفتيت عشائري أعمق، وفي هذه الأثناء تحولت عملية "بناء الأمة" التي تبجح بها الاحتلال إلى عملية تدمير الأمة.

الوجه الآخر للانهيار هو عدم تمكن القوى المعارضة للوجود الأميركي وخاصة قوى المقاومة من تقديم بديل على مستوى ذاتٍ فاعلةٍ سياسيا وقادرةٍ على التفاوض مع الأميركيين على شروط انسحابهم كسلم لإنزالهم عن الشجرة العالية التي تسلقوها. 
 

سؤال للتفكير: القوى الأكثر جاهزية للمقاومة ضد الاحتلال الأميركي هي أيضا الأكثر طائفية وتعصبا مذهبيا، إن كان ذلك في أوساط السنة أو الشيعة العرب العراقيين. لماذا؟ سؤال مهم لمن تقع عليهم (وليس على أميركا) مسؤولية بناء عنوان سياسي موحد للمقاومة الوطنية الفعلية في العراق.

 

عاشت الفروق الصغيرة
 

تختلف حركة الاحتجاج الأميركية ضد الحرب في العراق عن تلك التي قامت ضد الحرب في فيتنام حجما وتأثيرا. نعرف أن قوى المقاومة في فيتنام شكلت حركة مركزية ذات استراتيجية ورؤية وطنية موحدة فيما يتعلق بمستقبل البلد، وذلك خلافا للحالة العراقية التي لا تنفك تنقسم وتتفتت بين عشائر ومذاهب وطوائف وتحالفات خارجية. ونعرف أن ثمة فرق بين ثلاثة آلاف وسبعمائة جندي أميركي قتيل وخمسين ألف في فيتنام، ونعرف أنه في حالة فيتنام كان هنالك معسكر دولي كامل ليس معاديا فقط للحرب بل يقف إلى جانب فيتنام بالعدة والعتاد والدعاية، ويعتبرها حربه. هذا صحيح، ولكن ثمة فرق آخر قلما يُلتفَت إليه. 
 

لقد ساد في الحرب على فيتنام تجنيد إجباري شمل حتى أبناء الأغنياء والصحافيين ونجوم هوليوود والسياسيين. ونظرة سريعة على سيرة أعضاء الكونجرس تكفي لنرى كم منهم خدم في فيتنام ونشط ضد الحرب بعد عودته، ومنهم أبناء ارستقراطية أميركا. وانتشرت في حينه فضائح من حاولوا تحصيل إعفاء من الخدمة لأبنائهم بالثروة والنفوذ. أما في العراق فيعتمد الجيش على الجنود المحترفين وأبناء الفقراء والأجانب. وحركة السلام في أميركا اليوم هي حركة يسار متضامن مع هؤلاء الضحايا، وليست حركة المتضررين من الحرب. وهنالك فرق بين مظاهرة يقودها تحالف فرق يسارية وعصب حقوقية وبين مظاهرات يشارك فيها نجوم هوليوود ومغني الروك وأبناء السياسيين.

عندما تؤدلج الطبقات العليا خوفها على حياتها وحياة أبنائها المتجمعين في مظاهرات، ولو كانت محرجة في رومانسيتها إذ يختلط فيها النقمة على الآباء بالغنى والثروة والدلال والخوف من الحرب، تختلف الصورة والتأثير. 
 

لو كان التجنيد الإجباري متبعا في أميركا في ظل هذا المجتمع الاستهلاكي الفردي الأقل تحملا من مجتمع الستينيات لركزت في العراق كل قوتها العسكرية، أو لخرجت منه بأسرع وقت. إن غياب خطة أميركية للتورط الكامل أو للخروج الكامل ناجم عن فوارق صغيرة مهملة مثل الفرق بين حياة الأغنياء والفقراء.

 

أكثرية من أجل التوافق، أم توافق على الأكثرية
 

1. يعني التوافق الإجماع وليس الأكثرية، وبالتأكيد لا يعني أكثرية بسيطة. من يريد الأخذ بالتوافق ولكن دون أكثرية نصابية على الأقل، لا يريد في الواقع توافقا، ولا يعتبر التوافق شرطا، والدليل أنه لا يسقط "حقه الديمقراطي" بالعودة إلى "النصف زائد واحد". بالنسبة له يسري التوافق فقط في حالة الموافقة على موقفه ورأيه ومرشحه. وهو القادر إذا لم يتم الاتفاق على العودة إلى ممارسة حقه المذكور أعلاه. من ينتقي التوافق وحده دون الثلثين، لا يريد توافقا بل يريد أن يصوت بأكثرية بسيطة (باللبناني: "النصف زائد واحد).
 

2. الديمقراطية التوافقية ليست ديمقراطية، فهي ترفع شأن الانتماء إلى جماعة جزئية فوق الأمة وفوق المواطنة. ولكنها تسمى مجازا ديمقراطية. التوافقية الطائفية هي نظام لبناني، وهو ديمقراطي تعددي إذا ما قورن بما يسود في المنطقة العربية. الديمقراطية اللبرالية غير توافقية. ولكنها ليست حكم الأكثرية عشوائيا بل بموجب مبادئ الديمقراطية، بما فيها احترام حقوق وحريات الفرد والأقلية. لم يتبن لبنان ديمقراطية لبرالية مواطنية علمانية، رغم أن هذا هو الخيار الأفضل بالطبع.
 

وبموجب الخيار اللبناني يجب أن يكون كل رئيس من الرؤساء الثلاثة من طائفة معينة، ولكن دون حاجة أن يكون مرشحا عن هذه الطائفة. هذا نظريا، أما عمليا فيجب أن تتوفر أكثرية على الأقل داخل كل طائفة على أن فلان هو مرشحها، وإلا اعتبر مرشحا مفروضا (من قبل السوريين مثلا). لن يقبل غالبية الشيعة أن يُنتخب رئيس البرلمان بأغلبية سنية ومسيحية، ولن يقبل غالبية السنة أن تختار رئيس الحكومة أغلبية مؤلفة من الشيعة والمسيحيين. ومن محاسن التوافق في حالة الرئاسة أنه يكنس تحت سجادته أسماء الطوائف الصريحة التي تسفر عن وجه الطائفية القبيح. وإذا أصرت الأكثرية البسيطة في انتخاب الرئيس، فيجب أن تشمل هذه الأكثرية على الأقل أكثرية مسيحية "بالنصف زائد واحد" من النواب المسيحيين في البرلمان.
 

هذا هو منطق التوزيع والتوافق الطائفي لمن يريده ويتمسك به. الأكثرية تصح داخل الطائفة، والتوافق يصح بين ممثلي الطوائف. هذا هو المنطق الطائفي ( البغيض) لمن يصر عليه. ومن ينفر منه يجب أن يصر على التوافق الشامل ليستره ويوفر الكلام الصريح به على الأقل... أو يختار النظام المواطني الديمقراطي الساري على كل المواطنين بغض النظر عن انتمائهم الطائفي.