تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

إسرائيل والخيار التاريخي (3/3)

2008-03-17

عزمي بشارة
 

قد تؤدي المفاوضات المتعثرة بين السلطة الفلسطينية (تحت عنوان م ت ف ) وحكومة إسرائيل إلى اتفاق تقوم على أساسه دولة فلسطينية. وربما تجري بينهما حاليا مفاوضات سرية مكثفة موازية غير متأثرة بردود فعل الساسة اليمينيين في إسرائيل أو بما يجري في الشارع العربي. ولا بد أن أبحاث هذه المفاوضات أكثر عمقا مما يظهر في الإعلام.
 

ويعتقد صناع القرار في أميركا وإسرائيل أن ذلك سوف يبدو إنجازا كافيا لتحقيق السلام في المنطقة، بعد أن يتم التوصل إلى اتفاق على شروط قيام هذه الدولة التي لا تصل حدودها إلى حدود 1967 ولا تشمل القدس الشرقية عاصمة وتُسْقِط حقَّ العودة. لقد جهدت إسرائيل والإدارة الأميركية لتحويل مطلب الدولة الفلسطينية إلى رزمة تختزل وتصفي كل الحقوق الوطنية للفلسطينيين.
 

ويجدر هنا التفكير بمعنى رفض ياسر عرفات مثل هذا العرض في كامب ديفيد. فهو يحمل دلالات ليس بالضرورة لجهة تمسكه بالثوابت، وإن كنا لا نستثني ذلك، بل لجهة فهمه لعدم مشروعية الحل عربيا وفلسطينيا. فهو الذي ربط مصيره الشخصي والسياسي بالمفاوضات وذلك: بعد حرب الكويت، وبعد انحسار م ت ف كجهاز في تونس إثر الخروج من بيروت، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبعد وصول الانتفاضة إلى طرق مسدود. وهو لم يقبل هذا العرض بعد أن بات رهينة الحبس الإسرائيلي في المقاطعة، ودفع ثمن رفضه، وبدا أن تشييع النظام الرسمي العربي وجزء كبير من القيادة التي أحاطت به شمل أيضا تنفس الصعداء للتخلص منه كعائق أمام عجلات نفس العملية التي بدأها والتي عادت تدور بعد وفاته.
 

وقد لا يتم التوصل إلى تسوية. ولكن يجب عدم استبعاد إمكانية التوصل لورقة مبادئ حول الحل الدائم بروح ما رفضه عرفات، بحيث تصلح برنامجا انتخابيا عند أولمرت وموضوعا للاستفتاء عند محمود عباس.
 

وإذا لم يتم التوصل إلى تسوية يبدو لي أن النتائج على الساحة العربية والفلسطينية سوف تكون واضحة من ناحية تقوية المحور الرافض للتسوية والمعوِّل على استمرار المقاومة، رغم أن البعض سوف يواصل "عملية السلام" لسنين طويلة. ولكن إذا تم التوصل إلى تسوية من هذا النوع فإنه لا يعني أن الصراع قد وجد نهايته المحتومة. فهذه التسوية ليست "حل الدولتين" الذي يحظى ببعض الشرعية، رغم أنها ترضي قيادات عربية. فهذه تتذرع بقبول ما تقبل به القيادة الفلسطينية لأنها ترغب بالتخلص من عبء قضية فلسطين.
 

إن الكيان الناجم عن المفاوضات والذي يُعرَض وكأنه "حل الدولتين" لا يحظى بشرعية عربية على مستوى الشعوب والرأي العام والمجتمع العربي كتسوية للحساب المفتوح وكتعويض عن الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني.
 

قد يقال إن هذا كلام عام. ولكن الحقيقة أنه يترك قضايا ملموسة خارج الحل مثل قضية اللاجئين. وهي الأصل، وذات الوزن النوعي والمعنوي الكبير، وتتضمن معاناة فعلية لملايين البشر. كل ما تعرضه هذه التسوية على اللاجئين هو تغيير اسمهم من لاجئين إلى رعايا سفارات في الخارج، أو مغتربين. كما أن إسرائيل لن تبقى بعد هذا الحل ساكنة في القدس، بل سوف تنكأ الجراح يوميا بالتهويد المستمر للقدس وأراضيها ومقدساتها. وسوف تتكثف يهودية إسرائيل وتزداد تزمتا وصلفا في العلاقة مع العرب المواطنين فيها والذين سوف يُخّيَّرون بعد مثل هذه التسوية بين الولاء الكامل لإسرائيل إلى درجة الخدمة العسكرية وبين الحقوق المنقوصة قانونيا. أما من يصر على هويته القومية والوطنية من العرب في إسرائيل فقد وجدت هذه من وجهة النظر الإسرائيلية تعبيرا كافيا عنها في هذا الكيان الفلسطيني.
 

وفوق كل هذا سوف يبقى التناقض قائما بين تطوير الدولة العربية وتحديثها وتحديث جيشها، وتبقى إسرائيل كدولة مغتربة عن محيطها على خشيتها ورعبها من أي تطور فيه. وسوف يبقى تناقض إسرائيل مع الديمقراطية عربيا لأنها تخشى الأكثرية ورأيها العام وتقلباته.
 

إذا كانت هنالك ثمة سؤال عن المشروعية فإن الشعب الفلسطيني هو القادر أن يمنح المشروعية للتسوية إقليميا. ولكن التسوية المطروحة تتم من خلال تحالف مع طرف فلسطيني ضد أطراف أخرى، أحدها ربح الانتخابات المحلية عندما خاضها. أما في الشتات الفلسطيني فهذا النوع من التسوية، بحكم تعريفه كإقصاء لقضية اللاجئين، لا يحظى بمشروعية. هذه التسوية ليس فقط غير شرعية فلسطينيا، بل إنها أكثر من ذلك سبب احتراب داخلي. وحتى إنضاجها قبل أن يتم التوصل إليها يجري عبر تجويع وقصف جزءٍ من الشعب الفلسطيني واستنزافه إلى درجة لا يقوى فيها على الرفض. هذه ليست مؤشرات على شرعية.
 

وإقليميا يجري تمرير هذا النوع من التسوية من خلال هيمنة أميركية وصراع محاور إقليمي، وسوف يحوِّل أحد المحاور عدم عدالة التسوية إلى راية في معاركه. 

يجري تمرير التسوية دون أي تأثير على نفور الشارع العربي من عملية التسوية والسلام وعدم إيمانه برغبة إسرائيل بالسلام العادل، ورفضه للامتيازات التي تحظى بها دوليا.
 

وإن صحت أم لم تصح افتراضات الشارع العربي، يحمل العرب مسؤولية جزء كبير مما هم فيه لهذه الحالة التي أنتجت هذه التسوية، ولتحالف الأميركي مع إسرائيل، ولازدواجية المعايير دوليا. لا التسوية ولا العملية التي قادت إليها شرعية بنظرهم. ولا شك أن حالة الاستباحة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني لثنيه عن خيار المقاومة وقبول الشروط الإسرائيلية قد رَوَت بذور النقمة وأججت مشاعر الغبن والميل لإلصاق تهم العمالة لإسرائيل وأميركا بالضالعين في التسوية.
 

صحيح أن العربي مغلوب على أمره في ظل الأنظمة ولكنه لا ينظر برضى إلى مشهد استمرار التآمر من أطراف عربية مع إسرائيل ضد نتائج انتخابات فلسطينية، وهو لا ينظر بعين الرضى إلى استمرار التفاوض مع إسرائيل وهي تحاصر وتقصف وتقتل المدنيين في وسط العالم العربي، وهو لا يقبل موقف " الاستيطان عقبة في طريق السلام" ولا يعتبره أكثر من رفع للعتب من أجل الاستمرار بالتفاوض رغم الاستيطان، واستهانة بالرأي العام العربي من قبل دول عربية قادرة على فعل أكثر من ذلك بكثير.
 

من هنا فإنه بعد رفض إسرائيل ما تعتبره أوساط عربية وفلسطينية واسعة حلولا شرعية، فإن التوصل أو عدم التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل خارج إطار الحلول العادلة لا يعني ألا تبني إسرائيل نموذج الصراع المستديم، الذي يستمر رغم التسويات والتحالفات.
 

في الواقع سوف يستمر الصراع بعد هذا النوع من التسوية. فهي تمثل خيارا عرفته المنطقة العربية في الماضي، هو نموذج الدول الصليبية. لقد رفضت إسرائيل خيار "حل الدولة" وخيار "حل الدولتين". وإن نجحت أو لم تنجح في فرض تسوية كالتي يجري التفاوض عليها سرا وعلنا، فهي اختارت بالمنظور التاريخي العيش في صراع مستديم دون شرعية من محيطها.
 

ونحن لن نذكر أوجه الشبه ولن نقوم بمقارنة بين سياق الصراع الحالي المعاصر وسياق الحملات الصليبية فليس هذا هو المقصود. وطبعا السياق التاريخي مختلف تماما. يمكننا أن نذكر أن التسويات كثرت في ظل الدولة الصليبية مع محيطها، بما في ذلك تحالفات مع أمراء ضد آخرين في مصر وبلاد الشام، ولن يكون صعبا أن نجد أمثلة شبيهة راهنة. ويمكننا أن نذكر حتى حرق كنيسة القيامة أيام جنون الحاكم بأمر الله، في باب تقديم الذرائع للحملات، ولن يكون ذكر زعامات غير متزنة شبيهة معاصرة متعسرا. ولو ذكرنا دور الإمارات الشمالية في تسهيل العبور وفتح الطريق أمام جيش الصليبيين من أنطاكية وحتى القدس، ولو ذكرنا تسخير الدين في التعبئة والتجييش وحتى في الفهم الذاتي لمنظمي الحملات ومقاوميها... حتى لو قمنا بكل هذا ووجدنا الأمثلة المقابلة في عصرنا، فسوف نجد دائما من يجيب بحق أن النظام الدولي الحالي يختلف عن تلك الإمارات العربية والصليبية، وثبات واستقرار الدولة الحديثة العربية واليهودية يختلف جذريا، ودور الدين اختلف، وعلاقة إسرائيل مع الغرب أوثق وأسرع وأكثر كثافة من علاقة الدولة الصليبية التي لم يصل خبر سقوط القدس بيد الصليبيين منها إلى البابا إلا بعد وفاته، مع أنها سقطت قبل وفاته بعشرة أيام...
 

كما يمكن لإحباط أية مقارنة الإشارة إلى الفجوة التكنولوجية والعلمية بين إسرائيل والعرب. وهي فجوة لم تكن قائمة بين الدول الصليبية الأربع ومحيطها الإسلامي العربي والتركي والفارسي.
 

ويمكن الرد على الرد بالقول أن من يراجع تلك الفترة يدرك أيضا أن العرب ليسوا نفس العرب من حيث الوعي الوطني والقومي والهموم المشتركة وفهمهم للاستعمار وللقضية الوطنية. ولذلك لسنا من السذاجة لإجراء مقارنات.
 

ما يهمنا من هذا النموذج هو: دولة غريبة عن المنطقة أُنشِئَت حملات عسكرية استيطانية، ثم استقرت دون أن تندمج بالسكان بل من خلال بناء القلاع الحصينة والاعتماد على الفروسية، والرهان على وجود تنافر وصراع بين الكيانات السياسية القائمة على النفوذ أو على المصالح أو غيره. (ولا يهمني هنا ما يعتبره البعض هو الجوهر أي التجييش الديني والتجييش المضاد إلا كدليل على الغربة).
 

وهذا يعني أنه في غياب حل شرعي اختارت إسرائيل أن تبقى قلعة حصينة خلف جدار حديدي، تعيش على قوة الردع من جهة، وعلى الخلافات العربية العربية من جهة أخرى... وتتضمن هذه الخلافات تسويات إسرائيلية عربية طبعا، فطريق الصراع المستديم الذي اختارته الدولة الصليبية كان مرصوفا بالتسويات.
 

هذا ظرف مستديم. ويصح حتى الآن أنه خيار عميق الجذور في الرأي العام الإسرائيلي، وأنه يستند إلى عناصر قوة راهنة توفرها علاقة مشوهة وغير صحية مع الولايات المتحدة ليس لها مثيل بين الدول. ولا يبدو في الأفق قبول إسرائيلي لأحد الحلين: "حل الدولة الواحدة"، أو "حل الدولتين". ويفترض أن يتوقع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وضعا لا يمكن فيه تحقيق الحقوق، ومع ذلك لا يجوز التنازل عنها، ويتوجب فيه رفض التسويات غير العادلة، ولكن إلى جانب رفض التسويات وإغلاق باب التسوية غير العادلة، يجب أن يطرح برنامج ديمقراطي ثابت للحل لليهود والعرب في إطار تصور للمنطقة العربية كلها. وهذا يعني الحياة والتطور والمحافظة على سبل العيش فلسطينيا ومقاومة الحقائق الإسرائيلية الجاهزة على الأرض. وهي مقاومة تنجز مكاسب جزئية وهامة، وتمنع تحول الحالة الكولونيالية إلى حالة طبيعية. ولكن التراكم على المدى البعيد هو في التحدي الإقليمي العربي ومن ضمنه الفلسطيني لإسرائيل، وتحديث الدول والمجتمعات والاقتصاديات العربية، واستكمال عوامل الصمود والبناء بما فيها مهام التنمية والديمقراطية وقوة الردع.
 

إن تمت التسوية أم لم تتم، سوف يجري كل هذا في ظل رفض عربي لقبول إسرائيل، جزئيا على المستوى الرسمي وكليا على مستوى الرأي العام العربي.

هذا صراع طويل يجب أن يدار بالإيقاع الصحيح. وليس الزمن فيه لصالح إسرائيل بل لصالح من يحسن استغلاله. هذا هو أحد أهم المغازي من الستين عاما الفائتة.