عزمي بشارة
بات تراكم الأحداث باتجاه واحد في السنوات الأخيرة يدل على تغير كيفي في حال القضية الفلسطينية إقليمياً. ولم يعد بوسع المحلل والمراقب المسيس تجاهل التشابه بين السياق “العربي “الإسرائيلي”” الحالي وحال الدول الصليبية في عصرها في المنطقة العربية.
فقد رفضت “إسرائيل” السلام العادل مع الشعوب العربية والشعب الفلسطيني، ونقصد ذاك الممكن والمتمثل بالعيش المشترك في “دولة واحدة” ديمقراطية لجميع مواطنيها العرب واليهود، بحيث تشكل جزءاً من المنطقة العربية، أو ذاك الحل الآخر الممكن والمتمثل بتسوية في “حل الدولتين” مع ضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وقد اختارت “إسرائيل” نموذجاً ثالثاً حتى بعد “أن تبنى العرب حلولاً ومبادرات سلمية طرحت رسمياً” عليها. هي اختارت نموذج الدولة الصليبية.
ولا تتناقض التسويات والمعاهدات وحتى التعاون الأمني في علاقاتها الحالية مع أنظمة عربية مع هذا النموذج. فالدول الصليبية الأربع لم تعش بالفروسية والحصون وحدها، وما كان بإمكانها ذلك أصلاً. لقد نجحت الدولة الصليبية طيلة 190 عاماً، بواسطة الجمع بين الحصون والقلاع والتسويات والمعاهدات مع أمراء وسلاطين ومماليك، وفي الرهان على خلافاتهم في تحالفات مع بعضهم ضد بعضهم الآخر.
ولكن هذه التسويات لم تتحول إلى سلام ولم تقبل شعوب المنطقة بالدولة الصليبية. فاستمرت هذه نبتة غريبة ثقافياً وحضارياً وسياسياً. وفي النهاية أصبح امتحان الزعامة العربية الإسلامية في تقديم نماذج لمحاربتها وهزيمتها.
لقد انتهت الدولة الصليبية رغم جمعها بين التسويات وحملات القتل والإبادة، (وللتذكير، انتهت حتى في غياب شعب فلسطيني. وليست هنالك حاجة للتذكير أن تعبير “الصليبية” نفسه هو تعبير أوروبي متأخر (وليس عربياً أو إسلامياً)، يعود إلى مؤرخي القرن السابع عشر في فرنسا. أما العرب فقد اسموهم الإفرنج أو الفرنجة. والتعبير لا يعني المسيحية (بالتأكيد ليس الشرقية، ولا حتى الغربية) ولا يتطابق معها.
وقد أعد هذا المقال بحلقاته الثلاث للتفكير في الخيارات التي رفضتها “إسرائيل” وبالخيار الذي انتهت اليه، خيار الدولة الصليبية. ونقصد بها الدولة الاستيطانية الغريبة عن محيطها التي قامت بالعدوان، وتعيش بالسيف والتسويات والهدنات المؤقتة وباستغلال الخلافات في محيطها، ولكنها لا تكتسب شرعية في محيطها عبر الزمن.
عموماً، لم تُطرَح قضيةٌ كولونيالية، قضية شعب تحت الاحتلال إلا كقضية تحرر من الاحتلال وإزالة الاستعمار. ولكن في فلسطين طرحت التصورات للتسوية حتى اليوم كمشاريع حلول لمعضلة أو قضية شائكة هي قضية فلسطين.
وفي التعامل مع الحالة الاستعمارية في فلسطين كأنها قضية شائكة أو معضلة، وفي التعامل مع “قضية فلسطين” كأنها معضلة، يكمن تخصيص يهدف إلى تمييزها عن بقية قضايا التحرر الوطني، وذلك بخلطها مع النزاعات الحدودية والتمايز الديني والحضاري والمسألة اليهودية. هذا التعقيد المصطنع هو الذي أقصى فلسطين عن عملية إزالة الاستعمار. ولكنه يتحول أيضاً إلى المانع أمام “حل دائم”، وهذا التعقيد الذي يستخدم لمنع الحلول يقود في النهاية إلى التمسك عربياً برفض شرعية “إسرائيل” وإلى نموذج الصراع المستديم.
انطلقت ثقافة مرحلة النضال ضد الاستعمار من أنه من واجب الشعوب الواقعة تحت الاحتلال أن تقاوم الاحتلال، ويبقى على الدولة الاستعمارية أن تستنتج من مقاومة الاحتلال ما تستنتج من حلول لقضية عدم تمكنها من السيطرة، وعدم تمكنها من تحمل تكلفة الاحتلال.
ولم يكن التفكير بتحرير فلسطين كبلد عربي ممكناً إلا في سياق معادلة: استعمار مقابل حركة قومية عربية. فُهِمَ التحرير كمهمة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية التي افترض أن تقاوم احتلالاً أجنبياً لجزء من الوطن العربي.
لم تكن المعركة من هذا المنظور منفصلة عن الشعوب العربية. بل كانت جزءاً من القضايا العربية، وكانت رمزيا هي القضية العربية لأنها كثفت في ذاتها بقية القضايا القومية، مثل التجزئة والتبعية، والهيمنة الخارجية، وقطع التواصل العربي، وشرعية الأنظمة. ومارس العرب (أو لم يمارسوا حين لم يمارسوا) تضامناً مع الفلسطينيين على المستوى الإنساني. أما على المستوى السياسي فلم يكن الحديث ممكنا عن تضامن، إذ إن المعركة واحدة.
ليست المعركة ضد الصهيونية و”إسرائيل” قضية الفلسطينيين وحدهم بحيث يتضامن معهم العرب سياسياً. فهي إما قضية العرب، أو هي “نزاع فلسطيني “إسرائيلي”. لا توجد قضية فلسطينية خارج السياق العربي. ولن يلبث أن يتحول ما يسمى “النزاع الفلسطيني “الإسرائيلي”” إلى صراع حدودي بين كيانين يخضع لموازين القوى بينهما في غياب العرب.
بعد عام ،1967 أي بعد الهزيمة التي مني بها التيار القومي وهو على سدة الحكم في دول عربية مواجهة، وصلت إلى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية فئات سياسية اجتماعية اتجهت عبر تشديدها على الكيانية الوطنية نحو التحول إلى نظام عربي، أو إلى أحد الأنظمة العربية. ومع الردة التي حصلت بعد الحرب على مستوى الأنظمة خاصة في مصر، التقت هذه الرغبة خلال فترة قصيرة مع رغبة جزء من النظام العربي الرسمي. فمثلاً النظام المصري الذي ولدت مرحلته القومية صيغة منظمة التحرير اتجه نحو قطع الصلة مع العرب في ما يتعلق بالصراع مع “إسرائيل”، وقرر أن يذهب في طريقه التسووي الذي حتمته سياسته في حينه. فقد كان السلام المنفرد مع “إسرائيل” جزءاً من رزمة تضمنت تغيير بنية الاقتصاد، وشملت أيضاً خيار التحالف مع الولايات المتحدة إقليمياً.
وفي حالة مصر يبدأ قطع الصلة السياسية مع العرب بفك الارتباط مع قضية فلسطين. ما بدأ كموقف وطني على شكل دعمٍ مصريٍ لمنظمة التحرير “ممثلاً شرعياً ووحيداً” ضد الأردن في قرارات قمة الرباط، ثم تحول إلى دعم “استقلالية القرار الفلسطيني” ضد سوريا، كان في الواقع موافقاً للسياسة الجديدة بقطع صلة مصر مع “الصراع العربي “الإسرائيلي”” ولينتهي إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية الفلسطينيين. وكما قلنا يستخدم بعض العرب مؤخراً حتى مقولة اسوأ: “الصراع” أو “النزاع الفلسطيني “الإسرائيلي””.
ونجد مثالاً متأخراً لهذا السلوك الفلسطيني في إصرار ياسر عرفات، رحمه الله، على فصل الوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن عن الأردني؟ فماذا كانت النتيجة؟ سلام أردني “إسرائيلي” ناجز ومنفصل، وعملية سلام مرتبكة متخبطة لا يحكمها مبدأ بين “إسرائيل” وقيادة منظمة التحرير، ما زالت مستمرة بعد عقد ونصف العقد على السلام الأردني “الإسرائيلي”.
هذه خلفية اعتبار النظام الرسمي العربي محاصرة الفلسطينيين، والقصف “الإسرائيلي” الوحشي على مجتمع مسجون في غزة، قضية الفلسطينيين. وقد انقسم النظام العربي بين متضامن معهم ولائم لهم يحملهم المسؤولية لأنهم يعرضون أنفسهم لغضب “إسرائيل”. ووصلت الحاجة إلى تأسيس وترويج موقف غير شعبي كهذا شعبياً درجة تأليب المشاعر الوطنية المصرية ليس مع فلسطين وضد “إسرائيل”، كما هي في سجيتها، بل ضد “غزوة فلسطينية”.
ترك القضية للفلسطينيين هو نتاج لقاء بين نوعين من المواقف والتصورات:
أولاً، مصالح أنظمة عربية أخرجت نفسها ودولها من تعريف العرب كذات سياسية فاعلة ذات أمن قومي ومصالح ومواقف مشتركة من جهة.
ثانياً، مع نضال قيادة حركة التحرر الفلسطيني لكي تصبح نظاما عربيا هي أيضاً من جهة أخرى.
ترحب الدول العربية بالسلطة الفلسطينية تحت عنوان “م ت ف” كنظام عربي لأنه يلبي حاجة الأنظمة بأن تترك “القضية” للسلطة والمنظمة تحت عناوين شتى من نوع “وحدانية التمثيل” و”استقلالية القرار” وغيرها. تتحول فلسطين من قضية بلد عربي محتل، إلى نزاع فلسطيني “إسرائيلي” على حدود دولة فلسطينية افتراضية، ومن “القضية الفلسطينية”، إلى قضية الفلسطينيين، ثم إلى قضية الفلسطينيين القاطنين في الضفة وغزة من دون غيرهم، ومن حلقة ضرورية من حلقات التحرر والوحدة العربية إلى مسألة كيان سياسي آخر، ومن صراع مع الصهيونية وما تمثله في هذه المنطقة إلى نزاع حدودي. وتتحول المقاومة من التحرر إلى البحث عن حلول لمعضلة. ويتحول البحث عن حل إلى تفاوض بين محتل وواقع تحت الاحتلال، قبل أن يقتنع المحتل بموضوع التفاوض الوحيد الممكن في مثل هذه الحالة وهو: كيفية إزالة الاحتلال. ويتحول التفاوض إلى “عملية سياسية جارية” تفصلُ فيها “حلول” و”مخارج” بموجب موازين القوى السائدة في ظل ابتزاز تتعرض له النخبة السياسية للشعب الواقع تحت الاحتلال لدفع ثمن بقائها قيادة مقبولة على الساحة الدولية و”المجتمع الدولي”.
في ظل هذا النموذج نشأ التعويل العربي على مستوى الخطاب السياسي والإعلامي على مصطلحات مثل “الشرعية الدولية” و”المجتمع الدولي”. وهي عوالم افتراضية بديلة لعالم حقيقي تم التخلي عنه وهو معركة التحرر العربي والفلسطيني ضد “إسرائيل” والصهيونية والمجتمع العربي. المجتمع الدولي هو مجتمع افتراضي. وهو تعبير يُعَدّ خصيصاً ويُفصّل للغة المناشدة. ولا يعني في الممارسة الفعلية شيئاً سوى موازين القوى القائمة لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية.
خيار الدولتين كحل ناجم عن تفاوض، أو يفترض ان تتوصل إليه المفاوضات، هو نتاج هذا السياق، سياق البحث عن “حلول لمعضلة”. ولكن سخرية التاريخ أن نفس السياق الذي أوصل النظام الرسمي العربي ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى التنازل والاقتناع بفكرة “حل الدولتين” الذي يعرض ممارسة حق العودة للخطر بحكم تعريفه، هو نفس سياق القبول العربي بموازين القوى حَكَما، والرهان الحصري على الاستراتيجية الأمريكية.
وهذا ما مكن “إسرائيل” من تفريغ الحل من مضمونه برفضها الانسحاب من القدس المحتلة، ورفض الانسحاب إلى حدود عام ،1967 والإصرار على الاحتفاظ بكتل استيطانية في الضفة الغربية.
و”حل الدولتين” الذي أفرغته “إسرائيل” من المضمون هو الحل الوحيد الذي يمكن أن ينتج عن مفاوضات في هذه الظروف، فلا يبدو أن “حل” الدولة الواحدة يمكن ان ينتج برضا “الطرفين” أو يتمخض عن مفاوضات بينهما في هذه المرحلة.
رفض “حل الدولتين” هو رفض لحل كان يمكن أن يشكل أساساً لتعايش في المنطقة العربية، مع أنه لا يجسد عدلاً، ولكنه يتضمن الحد الأدنى من الإجماع العربي إذا تضمن استعادة القدس وعودة “إسرائيل” إلى حدود عام 1967 واعترافاً بحق العودة.
ولكن “إسرائيل” رفضت هذا الخيار، كما أسلفنا، رفضت خيار الدولتين بشكله ومركباته التي كان يمكن أن تقبل عربياً، وسياساتها تجعله غير ممكن التحقيق في المستقبل. فما هو الخيار الآخر؟
على هذا السؤال نجيب في الحلقة القادمة.
"الخليج"